مع رفيقه السيد هاشم صفي الدين، وبلكنة الراء المفقودة تنتحب الأرض في قيامة تشييع سيد المقاومة وسيد الشهداء السيد حسن نصر الله ملحمة تنحني فيها قبة السماء إلى قبة الأرض، لتشارك بحضور العاشقين من كل فجِ عميق، وعلى كل الأصعدة الرسمية والشعبية والنخب والعلماء، ومعهم أحرار العالم في كل أصقاع الأرض يقيمون صلوات الوفاء ومواكب الإمتنان لمهندس زوال الكيان السيد حسن، وبشعار “إنا على العهد” لن تكون قافلة الجثمان الأزكى والأشرف خلا ألف جبل من العهود بالثبات حتى مطلع نصر الله.
سيول من الوفاء تملأ شرايين وضواحي العاصمة بيروت قادمة من الشرق والغرب، وأصلها لبنان الأرز الشامخ في زمن الكامب والهزيمة، حيث كبرنا مع انتصارات المقاومة بقيادة الثائر الأممي والإنساني والإسلامي والعربي الأول السيد حسن، والحشود المقاومة شيعت أيضاً مشاريع وأحلام الطغاة وقامت بوأدها إلى الأبد، فروايات المخمورين بعظمة أحفاد القردة لا تعمل في نهج نصر الله حسن.
والتشييع إلى شرايين الزمن مر من ملعب “كميل شمعون”، وكانت معركة الاشتباك الأولى مع الذاكرة والقلب والروح عند إدخال روحه وجثمانه الطاهرين وخليله وصفيه السيد هاشم، ومجدداً اخترقت لكنة الراء المفقودة شغف القلوب بنداء الوفاء من بين أستار الجزع: “يا أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس” لتنفذ بحق الأمواج الهادرة وملايين المشاهدين في معمورة الله موجة اغتيالات واسعة أدْمت مُقل العيون سيلاً من الجراح الحارة تحرق ثنايا الوجنتين ومُهجة القلوب، فيجثو التاريخ على ركبتيه عاجزًا عن وصف المشهد، فلا يجد أبلغ من أمواج المشيعين لتخط على صفحاته أسطر العظمة في صفحة المجد: “لا تحسبن الدمع يذرف ضعفه.. يدمع الطود صيلما إذ انهمر”.
ومن كان في تصالح مع مراسم الفقد والألم طيلة ما مضى، اضطر مجبراً لمواجهة ما من صداقتها بدُّ، هي دمعة التاريخ على معلم أبجدية الكرامة وأخ وأب وعزيز العزة التي أرادها الله لعباده المؤمنين، وألفبائية إباء الضيم، ومعاني هجائية الإنسانية بأحرف من فلسطين.
قبل 64 عاماً رأى الوالد الحاج عبدالكريم نصر الله في الحلم أشخاصاً بوجوه نيِّره، قالوا له أنه سيرزق بطفل، وسيسميه “حسن”، وُلِد الطفل “حسن” وأصبح حسن السيادة وسيد الكرامة، وامتلك لأمة العطاشى مفاتيح سقاية نصر الله، فكان السيد وحسن ونصر الله، كبر الطفل حسن حتى اشتعل الرأس بالوقار والحكمة، وبات ملهم الأحرار وسيد قلوب ملايين العاشقين، وها هو الطفل حسن يتوسط بحراً من المحبين، وتحت رايات الحنين رمت قمصاناً من لوعة يعقوب النبي عند لقاء حبيبه يوسف، أتوا من كل أصقاع الأرض وربوع الأرز ليحظوا ببضع كرامة من أريج ذاك الطفل فطيم الحي الفقير، وبعد إلقاءه كلمات الفراق القاسي، وضع بين أيديهم وثيقة العهد وشق على كتف حيائه الخجول طريقاً بين الجموع، وبخطوات العفة الطاهرة ووقار السنين مضى سيد الروح بصمتٍ صاخب نحو المجد الأعظم.
لم يوارى الثرى وحيداً، وكالنياشين والرتب حين تمنح للأبطال، منح المسجد الأقصى حفنة من ترابه المقدس لشهيد الإنسانية والمسلمين، كانت قد أرسلت من مقدسيي الأقصى لتدفن مع جثمانه الطاهر، فتمت ترقيته إلى شهيد برتبة سرب قدس وعاشق الأقصى، رفعته الشهادة قبل أن تعانق جبهته الشريفة تراب المسجد الأقصى ويشتم عبق الزيتون فيه، فأسرى المسرى حفنة من ترابه المباركة لتعانقه وتحتضنه للمرة الأولى والأخيرة لكنها حتى الذوبان معه تحت الثرى.
وكأنها توليفة للأرض لتضع في رحمها تخصيب سر النصر، وتنفخ من روح الله وعداً كان مفعولاً، والوالد الكريم للسيد حسن، الحاج عبدالكريم نصرالله نقل من لسان الأمين كلمة السر بقوله: “ونحن إن شاء الله من أهل اليمن”، شيفرة النصر وبروتوكول الإنسانية الذي يمر عبر الأنصار في كل مرة أراد بها الله قهر المفسدين وقتلة الأنبياء من اليهود الملعونين، فالملك تبع اليماني استبقى الأوس والخزرج في يثرب أرض مهاجر خاتم الأنبياء وكتب لهم كتاب بنصرته، ونبي الله إسماعيل وأمه السيدة هاجر عليهم السلام هوت إليهم أفئدة من قبائل جرهم اليمانية، وسيد الخلق والمرسلين محمد صل الله عليه وآله وسلم الذي خط مخطوطة السر بسرمدية العشق: “لولا الهجرة لكنت إمرأً من الأنصار”، وأصبحت القصة على كل لسان، فالكل والجميع يعرف بعلاقة الأطهار بيمن الأنصار، سر الجاذبية يقره الجميع: “ثمة شيء وأشياء للسيد مع اليمن”، قالها السيد حسن لأبيه: “نحن إن شاء الله من أهل اليمن”، هناك حيث نفس الرحمن ستنفخ روح نصر الله وتراب الأقصى من رحم الأرض محور الإنسانية “وليتبروا ماعلوا تتبيرا”، وما شاء الله كان.
ــــــــــــــــــــ
المحرر السياسي
المشهد اليمني الأول
23 فبراير 2025م
24 شعبان 1446هـ