المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    ورد الآن.. حدث هام جدا في إيلات وشمال البحر الأحمر

    ورد الآن.. حدث هام جدا في إيلات وشمال البحر...

    بيروت: غدا تشييع تاريخي لقادة المقاومة

    دعا الشيخ علي دعموش رئيس اللجنة العليا لمراسم تشييع...

    شاهد ردة فعل الأسرى الصهاينة خلال عملية التسليم

    أقدم أحد الأسرى الصهاينة الثلاثة الذين أفرجت عنهم حماس...

    40 شركة تصنيع أسلحة صهيونية تعرض منتجاتها في أبوظبي

    فتحت السلطات الإماراتية الأبواب على مصراعيها لشركات تصنيع الأسلحة...

    القمم العربية وعملية تهجير العقول

    تابعت عملية انطلقت بها السلطات في مصر لهدم آثار قديمة في منطقة مقابر الإمام الشافعي التاريخية، وكنت أتصور أنها ناتجة عن تفكير سطحي لبعض الإداريين الذين لا يعرفون القيمة التاريخية لمدفن الشاعر محمود سامي البارودي ومقبرة الأديب الكبير يحيى حقي.

    تابعت ذلك بأسًى شديد، ورحت أقرأ أنه تم هدم 200 مقبرة بإجمالي 600 مقبرة معرضة للإزالة والهدم، من بينها هدم مقبرة محمد راتب باشا سردار الجيش المصري، ومقبرة قاسم محمد باشا أول قائد للمحروسة، وكان قائد للأسطول المصري، ومقبرة وحوْش القائد إسماعيل شيرين الذي كان من قادة الأسطول الحربي خلال عهد محمد علي باشا وحارب في معركة نفارين البحرية التي دمرت فيها الدول الأوروبية الأسطول المصري وحليفه الأسطول الجزائري عام 1827، وتم هدم مدرسة الإمامية التاريخية ومدرسة رابعة العدوية وحوْش يوسف كمال باشا راعي الفنون في مصر في بداية القرن الـ20، وجبانة الدكتور علي باشا إبراهيم أول عميد مصري لكلية ومستشفى القصر العيني وأول رئيس مصري لجامعة القاهرة.

    وباستثناء تعليقات سريعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي فقد تفاديت تناول الأمر في مقالاتي حتى لا يعتبر ما يمكن أن أقوله تدخلا في الشأن المصري، وأنا أعرف حساسية الأشقاء في أمور كهذه..

    لكن أمرا حدث في الأيام الماضية جعلني أتوقف عنده طويلا، وهو اتفاق مستثمر يحمل الجنسية العربية مع السلطات المصرية لإعادة تخطيط منطقة وسط القاهرة بهدف التخلص من المباني القديمة واستبدالها بمبان حديثة.

     وقال المستثمر في حوار صحفي إن المنطقة تحتاج لفنادق ومحال على غرار منطقة” الداون تاون” في دبي، مشيرا إلى أن الداون تاون بدبي تجذب نحو 110 ملايين سائح سنويا، متوقعا أن تخطيط وسط البلد سيجذب نصف سكان الكرة الأرضية !!!.

    وكان الغريب أن المستثمر لم يفكر في تحقيق أحلامه بتعمير مدن جديدة في المناطق الصحراوية الشاسعة غرب القاهرة، ناهيك من بنائها في سيناء،  لتكون قلعة ديموغرافية حقيقية ضد أي غزو أو عدوان.

    وكان أبرز ما أثار اهتمامي هو ما نُشر من أن المستثمر كان قال في حديث صحفي خلال زيارته للكيان الصهيوني بأنه “مش عاوز تطبيع على المستوى الرسمي بس انا عاوز تطبيع شعبي كمان” وأضاف طبقا لما نشر  أنه “عاوز أمه تقدر تروح اسرائيل”.

    وأعترف أنني صدمت من هذا الأمر، ولم يكن ذلك لأنني عشت في مصر سنوات طويلة خلال المرحلة الدراسية، وارتبطت ذكرياتي بشوارع قلب القاهرة التي اصطلح على تسميتها بالمنطقة الخديوية على ما أذكر، ولا أنسي تطفلي على مكتبة مدبولي في ميدان طلعت حرب، الذي كان اسمه ميدان سليمان باشا، وأتذكر ترددي على مكتب المغرب العربي32 شارع عبد الخالق ثروت، والجلسات التي كان يتفضل بها على بعضنا في مقهى الأمريكين في شارع 26 يوليو المناضل مزياني مسعودي، وهو الاسم الحركي لأحمد بن بله ، والمقهى كان المكان المفضل للقاء الرئيس الجزائري الأسبق معنا نحن الطلاب آنذاك.

    وأقول صدمت لأنني أحسست أن الأمر كله لا يمكن إلا أن يكون نتيجة مخططات مشبوهة تستهدف تدمير كل ما يمكن أن يربط المواطن، والشاب بوجه خاص، بتاريخه وبحضارته وبرجالاته.

    وتأكد لي ذلك وأنا أتابع كتابات لأشقاء مصريين أدركوا خطورة الأمر، وكان منهم الكاتب جمال غيطاس الذي قال إن المصريين يريدون القاهرة كما هي: قلبا وأطرافا، بزحامها بغبارها بعبقها بتاريخها بناسها بفقرها بغناها، بحِرَفِييها ببنائيها وحتي بالسواد على واجهات مبانيها……نريدها كما هي، من أقدم مبنى وأصغر كناس في شوارعها إلى أجمل مبني وأروع شارع و أكبر فنان ومفكر يعيش فيها ويجلس علي مقاهيها، نريدها كما هي… تاريخ وحضارة ومركز بدأ يسجل جزءا مهما من ذاكرة وطننا منذ ما يزيد على 150 عاما”…..أن شوارع قلب مدينتنا يُزينها الأزهر، ومشى فيها نجيب محفوظ ، وعاش فيها العقاد بعبقرياته، وغنت فيها أم كلثوم، وخطب فيها عبد الناصر، وسارت فيها دبابات جيشنا صباح 23 يوليو.

    أما السفير محمد مرسي فقد عبّر عن استنكاره لاقتراح تطوير القاهرة القديمة لتكون مثل دبي، مؤكدا أنه عار ٌعلي من خطط ومن وافق وهو يعلم أن الظاهر يختلف عن الباطن، وقال إنه لا عزاء لعاصمة الحضارة قاهرة المعز التي تفوق قيمة حجر واحد فيها تاريخ دول بأكملها.

    وعدت لأسترجع قضية الآثار الإسلامية في منطقة مقابر الشافعي، وقرأت للدكتور مصطفى الصادق مؤلف كتاب “كنوز مقابر مصر” قوله إن مصر لا تمتلك أغلى من تاريخها، وإن لم تكن مصر في غنى دول أخرى، تستطيع هذه الدول أن تشتري كل شيء، ولكنها تعجز عن شراء تاريخ وحضارة لها، ومصر لديها التاريخ والحضارة وتقوم بهدرها وهدمها والتخلص منها، هل يعقل هذا؟”.

    وأصبحت الشكوك لديّ في خبث تلك المخططات يقينا عندما قرأت بأن الهيئات المكلفة بالتربية والتعليم أجرت مراجعات للكتب المدرسية حذفت منها صفحات كثيرة تتحدث عن الدور المصري في مواجهة العدوان الصهيوني، وتركز على أسطوانة السلام والوئام والتنديد بالحروب.

    ولن أكون مصريا أكثر من الأشقاء في مصر، لكنني، وأنا من يعرف أن مصر هي مصر، ودور مصر الرائد في الوطن العربي لا يمكن أن يتجاهله إلا نكرة حقود حسود،  أطرح تساؤلا بالغ البساطة.

    منذ عدة سنوات قامت جماعة طالبان في أفغانستان بتدمير تمثالين لبوذا، فقامت الدنيا في الشمال النصرني العبري ولم تقعد، وراحت “اليونسكو” تولول وتصرخ، والإعلام الغربي يندد بالوحوش الذي يعتدون على التاريخ ويدمرون رموز الحضارة العالمية.

    هؤلاء كلهم لم نسمع لهم صوتا تجاه ما يحدث في مصر، ولا أذكر لهم أي موقف تجاه ما نُشر عن تدمير الآثار التاريخية في العراق إثر الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين، والذي ساهمت فيه قوات عربية وإسلامية.

    وأنا أقول إن العملية أكبر من مجرد توجهات عمرانية تلتحف بشعارات العصرنة والحداثة بقدر ما هي عملية ممنهجة لتدمير التاريخ العربي والإسلامي، وحرمان الأجيال الصاعدة من تاريخها العريق بما يجعل منها دمية في يد التوجهات التي تخدم الاستعمار الجديد، لأن شعوبا بدون ذاكرة هي مجرد قطعان من الماشية يمكن أن يسوقها أي راع يمتلك كلبا مدربا على توجيه القطيع.

    وهكذا يجري العمل لتهجير العقول كجزء من عملية يمكن أن تسمى الإبادة الجماعية للانتماءات الوطنية.

    هل تعي قياداتنا العربية ما يحدث؟

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    دكتور محيي الدين عميمور

    spot_imgspot_img