لقد غيرت انتصارات أنصار الله في الساحة العسكرية والسياسية معادلات القوة في اليمن بشكل كبير، مما دفع حكومة الجنوب نحو التعاون مع صنعاء، وهي تحولات تشير إلى أن أنصار الله قد أصبحت تتحكم تمامًا في نبض التحولات في اليمن.
حكومة الجنوب في اليمن، التي تمسكت لعشر سنوات بحبال السعودية والإمارات البالية، وكانت تعتقد أنها يمكنها بناء موطئ قدم لها في البلاد عبر إبعاد أنصار الله عن هيكل السلطة، أدركت الآن أنه بدون التفاعل والتفاوض مع أنصار الله، لن يكون لديها أي فرصة للبقاء أو الحفاظ على السلطة. هذا الفهم للواقع الميداني أدى إلى اتخاذ قرار بالتعاون مع حكومة صنعاء، بهدف تقليل التوترات وإيجاد حل سياسي لتقاسم السلطة والموارد.
وفي هذا السياق، قامت الحكومة الموالية للتحالف السعودي الإماراتي، تحت ضغط الانهيار الاقتصادي الذي وضع المناطق الجنوبية على حافة الأزمة، مؤخرًا بتحركات تشير إلى قطع علاقاتها مع حلفائها الخارجيين واتباع مسار التفاعل مع صنعاء.
في هذا السياق، التقى رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، مع محمد شياع السوداني، رئيس وزراء العراق، في لقاء كان يهدف وفقًا للتقارير الإعلامية إلى إقامة حوار يمني بمساعدة بغداد.
وفي الوقت نفسه، أرسلت الحكومة الموالية للتحالف السعودي الإماراتي مصطفى نعمان، نائب وزير خارجيتها، إلى عمان للقاء المسؤولين العمانيين وهانس غروندبرغ، مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن. وقد جرت هذه الزيارة قبيل بدء المفاوضات الاقتصادية بين الأطراف اليمنية التي من المقرر أن تُعقد في مسقط.
تجدر الإشارة إلى أن لقاء رشاد العليمي مع السوداني يأتي في وقت تتمتع فيه الحكومة العراقية بعلاقات وثيقة مع أنصار الله، حيث خصصت بغداد مكتبًا لهذه الحركة للحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع صنعاء. لذلك، تحاول حكومة الجنوب في اليمن فتح طريق الدبلوماسية مع أنصار الله عبر بغداد، على أمل حل الخلافات التي دامت لعشر سنوات.
المشاكل الاقتصادية تُثقل كاهل حكومة الجنوب
السبب الرئيسي الذي دفع مجلس القيادة الرئاسي اليمني نحو التعاون مع صنعاء هو الأزمة الاقتصادية. فقد أدى عقد من الحرب في اليمن إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية، مما تسبب في انخفاض الإنتاج والصادرات النفطية. وأدى هذا الوضع إلى تراجع عائدات حكومة الجنوب، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، خصوصًا في المناطق الجنوبية. وعلى الرغم من أن أنصار الله كانت تحت أشد العقوبات العربية والغربية، إلا أنها تمكنت من إدارة جزء من المشاكل الاقتصادية في المناطق الشمالية بفعالية. في المقابل، ورغم تلقي المجلس الانتقالي الجنوبي دعمًا من السعودية والإمارات، إلا أنه انهار تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، مما دفع سكان هذه المناطق إلى تنظيم احتجاجات متكررة ضد حكومة عدن.
وبما أن أنصار الله استهدفت منشآت تصدير النفط في جنوب اليمن بهجمات بطائرات مسيرة وصواريخ، فقد أدى ذلك إلى قطع المصدر الأساسي لإيرادات حكومة عدن، مما زاد من الضغوط الاقتصادية عليها ودفعها إلى البحث عن حلول سياسية. من هذا المنطلق، يسعى رشاد العليمي إلى تقليل التحديات قدر الإمكان عبر التوصل إلى اتفاق مع أنصار الله.
إلى جانب الصراع العسكري، هناك أيضًا حرب اقتصادية مستمرة تشمل العقوبات، والقيود التجارية والمالية، والتنافس على الموارد. وقد أثرت هذه الحرب الاقتصادية بشكل سلبي على الحياة اليومية لليمنيين والاقتصاد بشكل عام. وقد أعلنت أنصار الله أن استئناف تصدير النفط يجب أن يكون مشروطًا بدفع رواتب موظفي الدولة، كأحد شروطها لتحقيق اتفاق سلام. لكن السعودية لم توافق بعد على هذا الطلب. وتتوقع أنصار الله أن تضغط حكومة عدن على الرياض للقبول بهذه المطالب، وهو ما قد يشكل خطوة أولى نحو تخفيف التوترات وإظهار حسن نية التحالف الخارجي للعودة إلى طاولة المفاوضات.
ونقلت صحيفة الأخبار عن مصادر في صنعاء قولها إن حكومة الإنقاذ الوطني تتعامل بمرونة مع أي مبادرة أو جهد يهدف إلى إنهاء معاناة اليمنيين.
الضغوط الدولية
إلى جانب المشاكل الاقتصادية، دفعت بعض العوامل الخارجية مجلس القيادة الرئاسي اليمني إلى إعادة النظر في سياساته السابقة. إذ يطالب المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بإنهاء الصراع وتحسين الوضع الإنساني في اليمن، وهو ما شكل ضغطًا إضافيًا على الحكومة لدفعها نحو التفاوض والتوصل إلى اتفاق مع أنصار الله.
توجد مخاوف دولية من أن تنفيذ قرار دونالد ترامب بإعادة تصنيف أنصار الله كمنظمة إرهابية قد يؤدي إلى خروج الوضع الاقتصادي والمعيشي في اليمن عن السيطرة. وقد عبر هانس غروندبرغ عن قلقه من تداعيات هذا التصنيف، مؤكدًا خلال آخر إحاطة له في مجلس الأمن، التي عُقدت يوم الجمعة الماضي، على ضرورة حماية الجهود المبذولة لدفع عملية السلام. كما دعا إلى توضيح القرار الأمريكي، محذرًا من أنه قد يؤدي إلى تفاقم معاناة اليمنيين.
من جهة أخرى، أدى تضارب الأهداف والمصالح بين السعودية والإمارات في اليمن إلى حدوث انقسامات داخل التحالف، مما دفع الحكومة نحو البحث عن حلول مستقلة عبر التفاوض مع أنصار الله. وجاءت التحركات الأخيرة لمجلس القيادة الرئاسي نحو المصالحة مع صنعاء بعدما امتنعت السعودية والإمارات عن تقديم دعم مالي للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمعيشي في المحافظات الجنوبية، متهمين حكومة عدن بسوء إدارة المساعدات المالية واستخدامها لدعم العملة المحلية خلال السنوات الماضية.
وقد انعكس هذا الانعدام في الثقة على سعر الصرف في المناطق الجنوبية، ومع تفاقم العجز في الموازنة العامة وعجز البنك المركزي عن وقف تدهور قيمة العملة، تصاعدت المخاوف لدى التجار والمستثمرين من انهيار اقتصادي أعمق، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية في المدن الجنوبية.
ورغم أن السعودية والإمارات كانتا في بداية الحرب اليمنية متحالفتين، إلا أن الفجوة بين سياساتهما اتسعت بمرور الوقت، حيث اتبعت كل منهما استراتيجيات مختلفة. فقد دعمت الإمارات المجلس الانتقالي الجنوبي وبعض الجماعات المسلحة، في محاولة لتوسيع نفوذها على السواحل الجنوبية لليمن والسيطرة على طرق الملاحة في البحر الأحمر. في المقابل، سعت السعودية، من خلال دعم القوات الحكومية وحزب الإصلاح، إلى الحفاظ على نفوذها في تلك المناطق.
تصاعد التنافس وتأثيره على الأوضاع في اليمن
وأدى هذا التنافس إلى اندلاع مواجهات متكررة بين الفصائل المسلحة المدعومة من السعودية والإمارات في جنوب اليمن، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي والعسكري. فالاختلافات في الأهداف الاستراتيجية والرغبة في تعزيز النفوذ في الجنوب حالت دون تقديم دعم كامل وموحد من قبل الدولتين للحكومة الجنوبية، مما جعل الأوضاع أكثر اضطرابًا وأعاق جهود تحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
من ناحية أخرى، كانت حكومة الجنوب تأمل في أن تتمكن أمريكا وإسرائيل، من خلال الهجمات المتكررة على مناطق الشمال اليمني، من إضعاف أنصار الله وإقصائهم من المشهد، مما يفسح المجال أمامها للانفراد بالسلطة. لكن هذا السيناريو فشل تمامًا، حيث أظهر أنصار الله قدرة على الصمود في وجه التحالف الغربي-الإسرائيلي، مؤكدين أن أي محاولات لإسقاط صنعاء ستبوء بالفشل. ونتيجة لذلك، لم يجد مجلس القيادة الرئاسي خيارًا سوى إعادة النظر في سياساته والانخراط في مسار التفاوض مع صنعاء.
بشكل عام، يمكن القول إن النجاحات العسكرية والسياسية لأنصار الله غيرت بشكل جذري موازين القوى في اليمن، مما دفع حكومة الجنوب إلى الاقتراب من صنعاء. هذه التحولات تشير إلى أن أنصار الله لم يعودوا مجرد جماعة مسلحة، بل أصبحوا قوة سياسية وعسكرية مؤثرة ومحورية في مستقبل اليمن، وهو ما يجعل أي تسوية سياسية في البلاد مرهونة بتفاهمات مع صنعاء، وليس عبر الدعم الخارجي للقوى الجنوبية.