من مقر حلف الناتو في بروكسل ومن أمام وزراء دفاع اعضاء “دول الناتو” قال وزير الدفاع الأميركي هيغسيث بعجرفة لا نظير لها: “الرئيس ترمب كلفني بمهمة واضحة وهي تحقيق السلام من خلال القوة”.
في حين تُصوِّر الولايات المتحدة نفسها كدولة ديمقراطية رائدة وحامية للحرية، إلا أن سياستها الخارجية تعكس سلوكاً إمبراطورياً، يتجاهل سيادة الدول الأخرى لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية. و بعيدا عن الحرب الأوكرانية الروسية و مؤتمر الناتو، تكرس واشنطن هيمنتها العالمية اقتصاديا و عسكريا، على حساب استقرار الشعوب وحقوقها.
منذ القرن العشرين، اتخذت الولايات المتحدة دور “الشرطي العالمي”، لكن دوافعها لم تكن بريئة دائماً. ففي 1953، دبرت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) انقلاباً ضد رئيس إيران المنتخب محمد مصدق، بعد تأميمه النفط، لصالح شركات مثل “بريتيش بتروليوم”. وفي غواتيمالا 1954، أطاحت بالرئيس جاكوبو أربينز لدعمه إصلاحات زراعية هدّدت مصالح شركة “يونايتد فروت” الأمريكية.
وفي تشيلي كذلك 1973، دعمت أمريكا الانقلاب على سلفادور ألليندي، الذي حاول تأميم مناجم النحاس، وهو ما يتعارض مع مصالح شركات أمريكية. فبحسب الوثائق (وثائق مرَّ عليها 25 عاماً طبقاً للقانون الأمريكي) التي تم الكشف عنها مؤخرا، والتي أماطت اللثام عن ضلوع المخابرات المركزية الإمريكية في التخطيط لهذا الانقلاب وتمويله والذي راح ضحيته في الأيام الأولى من الانقلاب وطوال سنين حكمه الذي استمر ما يقرب من عقدين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى المعوقين والسجناء والمغيبين والمشردين والمنفيين قسراً والمفصولين عن أعمالهم، كل هذا من أجل دعم الديموقراطية!.
عام 2003، غزت الولايات المتحدة دولة العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، التي لم تُعثر عليها، والنتيجة؟ سيطرة شركات مثل “هاليبرتون” و”شيفرون” على موارد النفط العراقي. وفي أفغانستان كذلك، فبعد 20 عاماً من الحرب، انسحبت واشنطن تاركة وراءها دماراً لا حدود له، بينما حققت شركات الأسلحة أرباحاً تقدر بمليارات الدولارات.
في اليمن أيضاً، دعمت واشنطن السعودية والإمارات عسكرياً في حربهم، والتي عززت مبيعات الأسلحة الأمريكية وحمت مصالح النفط التي تهمها بالدرجة الأولى. في الدول النامية التي لم تخض الولايات المتحدة فيها حربا عسكرية تفرض عليها حرباً قد تبدو أقل ضراوة لكنها أشد قساوة، إذ تفرض سياسات تقشفية على هذه الدول مقابل القروض من خلال مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ففي التسعينيات، اضطرت دول أمريكا اللاتينية إلى خصخصة مواردها الطبيعية، لصالح شركات أمريكية.
وفي عام 2019، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية قاسية على فنزويلا، مستهدفة قطاع النفط، في محاولة للإطاحة بحكومة مادورو، مما زاد من معاناة الفنزوليين وخلق بلبلة اقتصادية كادت أن تُدخل البلد في صراع دموي.
من الناحية العسكرية، تمتلك الولايات المتحدة أكثر من 800 قاعدة عسكرية خارجية، من ألمانيا إلى دييغو غارسيا، حيث أُجبر سكان الجزيرة على النزوح لإنشاء قاعدة. هذه القواعد ليست للدفاع، بل لتعزيز النفوذ الاستراتيجي، كما في الفلبين، حيث تُستخدم لمجابهة الصين في بحر الصين الجنوبي والنتيجة؟!
لم تؤدِّ هذه السياسات إلا إلى كوارث إنسانية، ففي العراق، تركت امريكا خلفها مئات الآلاف من القتلى وعشرات التنظيمات المتطرفة. حتى في أمريكا اللاتينية، دعمت واشنطن ديكتاتوريات مثل بينوشيه في تشيلي، و التي قمعت شعوبها لضمان ولائها للغرب.
وعلى مستوى الشركات “الصفقات التجارية” مثل نافتا التي دمرت الزراعة المكسيكية لصالح الشركات الأمريكية. يرى بعض المتطرفين لديموقراطية امريكا أنها “تصدر الديمقراطية”، لكن الوقائع تتعارض مع هذا الادعاء. فالدول التي تتدخل فيها واشنطن غالباً ما تُترك في فوضى، كما حدث في ليبيا (2011)، التي تحولت إلى ساحة صراع بعد إسقاط القذافي.
أما المساعدات الإنسانية، فكثيراً ما تكون مشروطة بفتح الأسواق للشركات الأمريكية. إن استمرار واشنطن بالسير على هذا المنوال من العجرفة و عدم اعترافها بمسؤوليتها عن الأضرار التي الحقتها بالشعوب التي تدخلها، و عدم احترام مبدأ السيادة للدول، لهو مؤشر على بدأ انهيار الإمبراطورية – و التأريخ مليء بالدروس- فهرمية الامبراطورية مهما على، لا بد من انحداره، و أرى أن عنجهية هذه الامبراطورية سيعجل بها نحو القاع. لا بد من انتقال من الهيمنة إلى التعاون متعدد الأطراف، حيث تُبنى العلاقات على العدالة، لا المصالح الضيقة. فالشعوب لم تعد تقبل أن تكون ضحية لإمبراطورية تبحث عن الربح، حتى لو تلبست ثوب الديمقراطية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
عاصم محمد