للتمييز بين التّفاهة والجنون، ننظر إلى مخرجات أيّ منهما، فقد تنتج عن الجنون آثار من العبقرية، بينما التّفاهة لا تنتج سوى التّفاهة، لا شيء غير التّفاهة. ويحدث أنّ بعض أشكال التّنبُّؤ في عالم السياسة إن خالطه الجنون، قد يكون مُحرزا، ذلك لأنّ مثل هذا تحقق مع الفكرة الأثيرة لفرويد في علم النفس المرضي للحياة اليومية، بأنّ اللاّوعي يحسب جيّدا، ومع جون ناش، هذا الكائن الفصامي الذي أنتج أدق قواعد اللعب الاستراتيجي، كما في عقل جميل( A Beautiful Mind) من إخراج رون هوارد. كن مجنونا لكن لا تكن تافها، إنّ الخوف ليس من الجنون، بل من التّفاهة. وعلينا أن ندرك بأنّ سقوط الحضارات لا يكون بسبب الجنون بل بسبب التّفاهة.
في تأمّل ما جرى ويجري وسيجري أيضا، لأنّ أطراف المعادلة غير واعين بقواعد اللعب تلك، نلاحظ أنّ ثمة جهلا بالفارق بين اللعب والعبث. تنجح اللعبة لأنّها مقيدة بقواعد صارمة، وينتهي العبث إلى الخراب، لأنّ العبث هو لعب بلا قواعد.
ويبدو لي أنّ ما جرى في الشرق الأوسط، هو أنّ القواعد تلاشت، وباتت اللعبة بلا قواعد. وذلك حينما تجاهلنا التوازن الأثير الذي ابتكره شخص غير متوازن، أعني توازن ناش(Nash equilibrium ). وهو مفهوم يكاد يشبه الوضعية الميكانيكية لأول قانون لدى نيوتن: القصور الذاتي. فما لم يحدث تغيير في المعادلة فلا مجال لتغيير الاستراتيجيا. لكن ما يحدث في كلّ نشاط إنساني هو ما تظهره مفارقات اللعب، كما هو الحال بالنسبة لمفارقة السجينين، وهي من أكثر المفارقات أهمية في نظرية الألعاب. وتقوم هذه المفارقة على معضلة ذاتية ذات خلفية نفسية، أي سوء النّية بالآخر. هنا يلعب الاحتمال النكد دورا أساسيا، حيث يختار السجينان موقف الاعتراف على بعضهما.
لقد انهارت قواعد الاشتباك، وبات في تقديري أنّ حتى نقيضة السجينين خضعت لأسوأ مردودية مما كسر التوازن. ثمة طرف كسر كل شيء وثمة طرف تمسك بحسن النية. نتج عن ذلك أن الميزان اختلّ، وانتهت اللعبة دون رابح -رابح بالمعنى المادّي للعبارة.
ربح الاحتلال أرقاما إضافية في لعبة بدا فيها وحده مجنونا، وكان ربحه يوزن بكمية الدّمار وقتل المدنيين، لكن خسارته الرمزية والقيمية هي على المدى البعيد. إن حصيلة ضرب الخسارة المادية في الربح الرمزي يخفف من وطأة الهزيمة، لأنّ الاحتلال يدرك أنّ الهزيمة ليست مادية محض، بل هي نفسية، وهو هدف لم يحققه، لأنّ الإرادة تخرج من تحت الركام وتنتشر كالعدوى في الأجيال. وفي تاريخ الحروب لا يمكن إحراز النصر المادي دون إلحاق الهزيمة النفسية بالخصم. وهذا لم يتحقق ولن يتحقق، لأنّ درس اختلال توازن ناش تقرّر. فنظرية الألعاب أيضا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار دور الرمزي في قواعد اللعب، لأنّ الرمزي كفيل بأن يُحرز انتصارات مادية، بل هو أساس الصمود والإنتصارات.
في هذه المعركة، لم تحضر القناعة بما يمكن أن يصدر عن الخصم. لقد بدت حربا من دون مخاطرة. وهكذا لمس الاحتلال غياب المخاطرة لدى خصمه الذي أدمن ثبات التوازن في قواعد الاشتباك، فواصل حماقته الدّموية. وجب هنا التمييز بين قواعد الحرب بمحدداتها القانونية، وبين قواعد الإشتباك التي يرسيها قانون القوى أو ميكانيكا القوى وتدافعها، وهو غالبا غير معلن.
ولقد جاءت المخاطرة في وقت متأخر، وكانت نتيجتها مضاعفة. وهو ليس إعلان هزيمة، بل هو درس قاسي يمكن الاستفادة منه.
هل هو انتصار أم هزيمة؟ ففي الحروب التعقيدية وغير المتكافئة القوى، يكون للموقف الرمزي حضور أساسي في معادلة الصراع، فهل استطاع الاحتلال يا ترى تقويض الأمل في تقرير المصير لدى شعب هزم التّقنية بإرادة الصمود؟ بهذا اللحاظ، يكون الشعب قد انتصر على الاحتلال، بما أنّه حافظ على رمزية مقاومته للاحتلال، وتقويضه للعبة التّقادم وفرض التصفية لقضية عادلة وستبقى كذلك.
هزمت الأسطورة التّاريخ بما فيه التاريخ الهيغلي، حيث فشل الاحتلال في انتزاع الاعتراف من الأضعف تقنيّا، ومن هنا سيغرق الاحتلال في روتين الإبادة وتكرار ما سينتهي إلى الملل واللاّمعنى والتّفكك الذّاتي. صمودأسطوري يصعب مقاربته من منظور فلسفة التّاريخ القُوَّوِي.
تشهد القوة في العلاقات الدولية تطوّرا مذهلا، وهو تطور تقني بامتياز، لكنها بالموازاة مع ذلك هي قوة تزداد ضعفا، في نقيضة: عجز القوة، عند برتراند بادي. فالقوة في جنونها وإفراطها تنقلب إلى ضدّها.
في حرب تركيبيّة كهذه يتداخل فيها المادي مع الرمزي، لن يكون الحسم فيها مجرد نزهة. فعناصر الحسم فيها مستحيلة على الاحتلال، وأهمّها الشرعية الطبيعية التي يمنحها التّاريخ الحيّ والمتواصل والجغرافيا المأهولة عبر الأجيال، كما من عناصرها العلاقة الوجودية بهذا التاريخ وبتلك الأرض، فالتّاجر لا يمكن أن يهزم المُزارع في الصراع حول الأرض، ومنها أنّ البيئة الحاضنة للقضية العادلة هي أوسع إقليميا ودوليا بحيث لا ينفع معها حالات التخدير والتحايل على الضمير وكل أشكال تأزيم هذه البيئة.
والعنصر الأكثر أهمية والأكثر تجاهلا، هو أنّ الحامل الجيوستراتيجي لهذه القضية العادلة في السياق والشروط التاريخية والدولية والاجتماعية هو رافد أساسي للحضارة الغربية أكثر مما يعتقد من نصب نفسه حاميا لتلك الحضارة، وكان ولا زال الخلاف حول الهيمنة والمركزية والفصل العنصري وتداعياته، وليس حول جوهر التنوير والأنوسة والتّقدم. وهذا ما يجعل الغرب الإمبريالي متواطئا مع ظلاميتنا لتكريس ظُلامتنا، ومتآمرا مع تخلفنا لإعاقة تقدمنا وتحررنا من الهيمنة.
نحن في لعبة الحرب، في السياسة والقانون، في هذا الإشتباك غير المتكافئ، نجهل نظرية الألعاب، فنّ الحرب، فنّ الاستشراف، إنّنا بالفعل هواة لم ندخل بعد عهد الاحتراف، ويزداد الوضع سوءا مع فخّ الثرثرة، مع التفاهة التي تعبّر عن وضعيتنا المأزومة بشطط من الجهل وسرديات “منتوفة”، استسهال قواعد الفهم التاريخي والفكر الجغرافي وقاعدة ضبط المحور الأساسي في عملية الصراع، لأنّ من يفقد المحور( l’axe) سوف يتلوّى كالثعب، ويسقط على منخريه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
إدريس هاني
كاتب ومفكر مغربي