مقالات مشابهة

ثماني نقاط محورية تكشف خفايا العلاقة بين تركيا والعناصر الإرهابية في الهجوم علی حلب

تفرض التطورات الميدانية المتسارعة التي شهدتها حلب خلال الأيام القليلة المنصرمة، بإيقاعها الصاعق وتسارعها غير المسبوق، سؤالاً محورياً على المحللين الاستراتيجيين والمراقبين: ما هي العوامل والمحددات الاستراتيجية التي أفضت إلى سقوط منطقة ذات ثقل استراتيجي في سوريا – استلزم تحريرها أربع سنوات من المعارك الضارية، وتم تطهيرها في عام 2016 – مجدداً تحت سيطرة العناصر الإرهابية في غضون فترة زمنية لا تتجاوز الأربعة أيام؟.

تشير التقديرات الاستراتيجية والمعطيات الميدانية، إلى احتمالية توسع نطاق المواجهات الجارية لتشمل مدناً أخرى، مع تجلي الدور التركي بصورة لا تقبل التأويل في هذه المعركة المفصلية، وتمتلك أنقرة، تحت قيادة أردوغان، منظومةً متكاملةً من الدوافع الاستراتيجية لإعادة تموضعها في المشهد السوري، نستعرض أبرز محدداتها:

المحور الأول: الثقل الديموغرافي والعبء الاقتصادي

تحتضن محافظة إدلب ومحيطها الاستراتيجي في الوقت الراهن ما يناهز المئتي ألف عنصر إرهابي، يتلقون دعماً مالياً وتسليحياً متواصلاً من الحكومة التركية، ما يشكل عبئاً اقتصادياً باهظاً على الخزينة التركية، وفي هذا السياق، يراهن أردوغان على معادلة يعتبرها – من منظوره الخاص – رابحةً في جميع السيناريوهات المحتملة:

السيناريو الأول: نجاح العناصر الإرهابية في مخططها، سيمنحه مكاسب جيوسياسية إقليمية ذات ثقل استراتيجي.

السيناريو الثاني: القضاء على هذه العناصر بيد الدولة السورية ومحور المقاومة، سيؤدي إلى تخفيف الأعباء المالية الثقيلة عن كاهل الاقتصاد التركي، وهو مآل لا يثير قلق أنقرة لكونه سيحررها من هذا العبء.

المحور الثاني: الدبلوماسية الإقليمية وإعادة التموضع

سعى أردوغان، على مدار العام المنصرم، عبر قنوات دبلوماسية متعددة، إلى عقد لقاء قمة مع الرئيس بشار الأسد بهدف تطبيع العلاقات الثنائية، وذلك في إطار تحول استراتيجي جوهري في السياسة التركية تجاه محيطها الإقليمي، حيث تتبنى – وفق خطابها الرسمي – استراتيجية “تصفير المشكلات”، وتطبيع العلاقات مع جميع القوى الإقليمية.

وقد نجحت الدبلوماسية التركية في تحقيق اختراقات ملموسة في علاقاتها مع الإمارات والسعودية ومصر، وحتى مع الكيان الصهيوني. غير أن الرئيس الأسد وضع شرطين للقاء وهما الانسحاب الكامل للقوات التركية من الأراضي السورية الشمالية، ووقف كل أشكال الدعم المادي واللوجستي للعناصر الإرهابية المسلحة في المنطقة.

ويرى أردوغان أن التطورات الميدانية الراهنة، تمنحه – من منظوره الاستراتيجي – موقعاً تفاوضياً متقدماً في مسار تطبيع العلاقات، نظراً لتعزيز نفوذه في الشمال السوري، وتعاظم تأثيره على المشهد الأمني فيها.

المحور الثالث: المناورة الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني

اتخذ أردوغان موقفاً دبلوماسياً صارماً بتعليق العلاقات مع الكيان الصهيوني حتى تحقيق وقف إطلاق النار في غزة، وفي ضوء المؤشرات الميدانية التي تُرجّح إمكانية التوصل إلى هدنة في غزة عقب لبنان، يُتوقع استئناف العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب، وتمتلك تركيا في هذا السياق ورقةً ذات قيمة جيوسياسية، تتمثل في قدرتها على إغلاق مسارات الإمداد اللوجستي لحزب الله، وهو ما يُشكّل هدفاً استراتيجياً للكيان الصهيوني، ويُرجَّح أن يوظّف أردوغان هذه الورقة التفاوضية بمردود استراتيجي مرتفع في مفاوضاته مع تل أبيب.

المحور الرابع: إعادة التموضع في المعادلة الأمريكية

مع اقتراب تولي ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض، وفي ضوء العلاقات الاستراتيجية المتميزة التي جمعت بينه وبين أردوغان، ورؤية ترامب الجيوسياسية للمنطقة، يسعى أردوغان إلى تكريس دور تركيا كلاعب إقليمي محوري في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.

وتجدر الإشارة إلى أن أردوغان كان قد أعلن بوضوح، خلال حقبة جورج بوش، عن دور تركيا المحوري في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تتبناه واشنطن، ويبدو جلياً أن أردوغان يسعى إلى استنساخ هذا الدور في المرحلة المقبلة.

وفي سياق متصل، يُشكّل الدور المتنامي للأكراد في الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية، تحدياً أمنياً جوهرياً لتركيا، ما يدفع أردوغان إلى تبني استراتيجية متعددة المحاور لتعزيز النفوذ التركي في دول المنطقة، وخاصةً العراق وسوريا، بهدف تحييد الدور الكردي في الأجندة الأمريكية، والحلول محله كشريك استراتيجي موثوق.

المحور الخامس: تقويض العلاقات الإيرانية-السورية

تتبنى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبعض القوى الإقليمية العربية، استراتيجيةً متكاملةً تستهدف تفكيك المنظومة الاستراتيجية الإيرانية-السورية، رغم عدم تحقيق اختراقات جوهرية حتى الآن، وتندرج العمليات الإرهابية الأخيرة في حلب ضمن هذا السياق الاستراتيجي، مستهدفةً تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.

وباعتبار تركيا منافساً جيوسياسياً تقليدياً لإيران، فإنها تتبنى استراتيجيةً متعددة المسارات لإضعاف شبكة العلاقات الاستراتيجية الإقليمية لطهران، وعليه، تمثّل العمليات الإرهابية الراهنة، خطوةً استراتيجيةً تخدم المصالح المتقاطعة لهذه الأطراف مجتمعةً.

المحور السادس: إعادة تموضع الدور القطري

شكلت قطر، منذ اندلاع الأزمة في سورية، محوراً استراتيجياً في تشكيل المشهد الجيوسياسي، قبل أن يشهد دورها انحساراً تدريجياً، ومع المؤشرات المتصاعدة حول احتمالية تراجع الدور المركزي للحكومة السورية، وتجدد الطموحات القطرية في إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري، تتطلع الدوحة إلى استعادة موقعها كلاعب استراتيجي مؤثر في رسم ملامح المستقبل السوري، ويتعزز هذا التوجه بالتقارب الأيديولوجي الإخواني بين أنقرة والدوحة، مع تطلعات قطرية لتوظيف قدراتها المالية الضخمة في عملية إعادة الإعمار بالتنسيق مع تركيا.

المحور السابع: المعادلة الروسية-التركية

تتصاعد الحاجة الاستراتيجية الروسية لأنقرة في سياق الحرب الأوكرانية، والالتفاف على منظومة العقوبات الغربية، وقد شهد المسار السياسي السابق اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالملف السوري في لقاءات سوتشي الثنائية بين أردوغان وبوتين، مع تراجع ملحوظ في أولوية مسار أستانا، ويشهد المشهد الحالي تعاظماً في الاعتماد الروسي على الدور التركي، سعياً للاستفادة من الدعم الاستراتيجي التركي في مواجهة حرب الاستنزاف الأوكرانية، والضغوط الغربية المتصاعدة.

المحور الثامن: الملف الكردي والحزام الأمني

تؤدي السيطرة على حلب من قبل العناصر المسلحة، إلى تشكيل طوق استراتيجي حول تل رفعت، ما يضع الوجود الكردي في المنطقة أمام تحديات وجودية غير مسبوقة، وتشير التقديرات الاستراتيجية إلى احتمالية إطلاق عملية عسكرية تركية واسعة النطاق عقب عمليات حلب، تستهدف تطهير شمال غرب سوريا من الوجود الكردي، وهو ما يمثّل أحد الأهداف المحورية في الرؤية التركية، وخاصةً مع إعلان أردوغان عن مشروع الحزام الأمني الممتد من البحر المتوسط إلى الحدود الإيرانية.

تكشف المؤشرات والمعطيات السابقة، عن منظومة متكاملة من الدوافع الاستراتيجية التي تحرك السياسة التركية في دعم العمليات العسكرية في حلب، غير أن التحليل الاستراتيجي الشامل يقتضي وضع هذه الدوافع في إطارها الأوسع، باعتبارها جزءاً من مخطط متكامل، تتشابك فيه الأدوار الأمريكية مع مصالح القوى الإقليمية الأخرى، في منظومة من العلاقات والتحالفات.