إن تقويض حسابات الکيان الصهيوني بعد اغتيال قيادات حزب الله، وعلى رأسهم الشهيد سيد حسن نصر الله، يعدّ من القضايا المحورية التي لا تزال تتصدر النقاشات في المحافل الإقليمية والدولية، ولا سيما في الأوساط الإسرائيلية.
الجميع يتساءل بإلحاح: كيف تمكن حزب الله، بعد المعاناة من ضربات مروعة بفقدان عدد من قادته البارزين، من استعادة عافيته بسرعة، ولماذا استطاع أن يشلّ الحركة العسكرية للصهاينة في شمال فلسطين المحتلة؟
في هذا المنحى، تناولت دراسة أعدتها سارة إي باركنسون، الأستاذة المساعدة للعلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة جون هوبكينز، وجوناه شل هر فرفول، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لايدن وجامعة جوته في فرانكفورت، إلى جانب معهد أبحاث السلام في فرانكفورت، عملية تعزيز القوة التي أظهرها حزب الله في صراعه ضد الکيان الصهيوني عقب استشهاد عدد من قادته، وأكدت الدراسة أن هناك احتماليةً قويةً لزيادة نفوذ حزب الله على المدى البعيد.
الحسابات الخاطئة للکيان الإسرائيلي ونتنياهو في اغتيال الشهيد نصر الله
فيما يلي موجز للمقال المنشور في المجلة الأمريكية “فورين أفيرز”:
في السابع والعشرين من سبتمبر، تعرض السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، لعملية اغتيال نفذها الجيش الإسرائيلي باستخدام ما يتراوح بين ستين وثمانين قنبلة ثقيلة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفقًا للتقديرات الإسرائيلية، كان من المفترض أن يشكّل هذا الهجوم، إلى جانب الهجمات اللاحقة والغزو البري للبنان، نقطة تحول حاسمة، وقد سارع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى الإعلان عن نجاح تل أبيب في هذه العمليات.
استنادًا إلى منطق نتنياهو وتصوراته، والتي يشاركه فيها العديد من المسؤولين الإسرائيليين، كان من المفترض أن تؤدي هذه الاغتيالات الممنهجة إلى تفكيك حزب الله بشكل نهائي، بيد أن الواقع يشير إلى أن تحقيق “إسرائيل” لهذا الهدف والقضاء على حزب الله، يعدّ ضربًا من المستحيل؛ نظرًا لتمتع حزب الله بقاعدة اجتماعية راسخة في لبنان، فضلاً عن كونه قوةً سياسيةً فاعلةً في البرلمان والحكومة، علاوةً على ذلك، يحظى الحزب بدعم استراتيجي من حلفائه الإقليميين، وعلى رأسهم إيران، ما يمنحه القدرة على التكيف مع المتغيرات ومواصلة نهج المقاومة.
وعليه، يمكن القول إنه بينما قد تنجح “إسرائيل” في إضعاف حزب الله مؤقتًا، فإن القضاء عليه يظلّ أمرًا بعيد المنال، ولقد أثبتت التجارب التاريخية أنه عند استهداف القيادات في الجماعات العسكرية والمسلحة، سرعان ما تظهر قيادات بديلة لسدّ الفراغ، وفي الحقيقة، تمثّل الاغتيالات مكسبًا تكتيكيًا محدودًا للجهة المنفذة، دون أن تحقق الأهداف الاستراتيجية المرجوة.
من جانب آخر، فإن عمليات الاغتيال المتعمدة، ولا سيما تلك التي تودي بحياة المدنيين وتدمّر البنية التحتية، تؤدي حتمًا إلى تأجيج مشاعر الغضب والسخط الشعبي، ما يفضي إلى تنامي أعداد القوى الشعبية المتحفزة للثأر والانتقام.
التبريرات الواهية للولايات المتحدة والکيان الإسرائيلي بشأن استهداف المدنيين في العمليات العسكرية
على امتداد ما يربو على خمسة عقود، انتهجت “إسرائيل” سياسةً ممنهجةً في تصفية القيادات والكوادر العسكرية للفصائل المسلحة المناوئة لها، مستخدمةً طيفاً واسعاً من الأساليب العملياتية، تتراوح بين الضربات الكوماندوز النخبوية، والعمليات التفجيرية المُحكمة، والغارات الجوية المُركَّزة، وتندرج هذه العمليات – التي يُطلق عليها المحللون والإستراتيجيون العسكريون مصطلح “اجتثاث الرأس” – ضمن استراتيجية شاملة تستهدف تقويض القدرات العملياتية لهذه الجماعات، وتسريع وتيرة تفكيكها.
ويتبنى مؤيدو استراتيجية التصفيات المُستهدَفة، وفي مقدمتهم “إسرائيل” والولايات المتحدة، موقفاً مفاده بأن هذه التكتيكات تمثّل نهجاً عسكرياً فعّالاً ومشروعاً من الناحية الأخلاقية، ويعتبرونها الأداة الأمثل في مواجهة التنظيمات المسلحة المُهيكلة.
بيد أن عمليات التصفية المُستهدَفة، حتى في ظل المسوغات التي تقدمها واشنطن وتل أبيب، يتعين أن تخضع لمبدأ التناسبية المنصوص عليه في القانون الدولي؛ والذي يشترط أن تكون المكاسب العسكرية المتوخاة متكافئةً مع حجم الخسائر المدنية المحتملة.
وفي هذا السياق، أصدر قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 2006 رأياً قضائياً، يُلزم القوات الإسرائيلية بتنفيذ عمليات التصفية حتى في حال ترتب عليها إلحاق أضرار بالمدنيين الأبرياء والعابرين.
ووفقاً للتفسيرات المعتمدة لقوانين النزاعات المسلحة، وعلى رأسها مدونة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كان يتعين توفير الحماية القانونية للعديد من المدنيين الذين سقطوا ضحايا العمليات الإسرائيلية، كما تنصّ هذه المنظومة القانونية على اعتبار العاملين في الأذرع الاجتماعية والسياسية لحزب الله مدنيين، وبالتالي يُعدّ استهدافهم انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
غير أن واشنطن وتل أبيب تتبنيان تأويلات خاصة في مثل هذه العمليات، ضاربتين عرض الحائط بالمواثيق والأعراف الدولية، ويتجلى ذلك في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مبنى بلدية النبطية اللبنانية في السادس عشر من أكتوبر، والتي أسفرت عن تصفية رئيس البلدية المنتخب – المرشح السابق على اللائحة المشتركة لحزب الله وحركة أمل – إلى جانب مجموعة من المسؤولين في لجنة إدارة الأزمات التابعة للبلدية.
كيف أحبط حزب الله الأهداف الإرهابية للکيان الإسرائيلي؟
يتجلى بوضوح أن المساعي الإسرائيلية – حتى في أكثر سيناريوهاتها المثالية التي تستهدف العناصر العسكرية حصراً – تؤول إلى نتائج معاكسة تماماً لما تصبو إليه، وتخفق في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى.
ففي حين تتبنى تل أبيب نظريةً مفادها بأن استهداف القيادات العليا لحزب الله وشنّ الحرب على لبنان، سيفضي إلى تحقيق غاياتها المنشودة، بيد أن حزب الله قد برهن على قدرة استثنائية في التكيّف مع التحديات والتهديدات، ويُعزى ذلك بشكل جوهري إلى نجاحه الباهر في تأسيس بنية مؤسساتية راسخة، تتجلى بصورة خاصة في المجالين السياسي والاجتماعي، فالتنظيمات المماثلة لحزب الله تمتلك عادةً منظومةً متكاملةً من الإجراءات وخطط التعاقب القيادي، ما يضمن استمرارية العمل المؤسسي دون انقطاع في حال غياب أي من قياداتها لأي سبب كان.
وعلى الرغم من أن عمليات الاغتيال الكبرى قد تُحدث تأثيراً مؤقتاً على المعنويات والتنظيم، إلا أن هذا التأثير يبقى محدود النطاق زمنياً، وما تجدر الإشارة إليه أن القوات الأساسية لهذه التنظيمات، تحتفظ بقدرتها على مواصلة عملياتها بالكفاءة ذاتها، ولعل أبرز دليل على ذلك ما شهدناه في أعقاب محاولة استهداف السيد حسن نصر الله، حيث واصل حزب الله إطلاق مئات الصواريخ والمسيّرات باتجاه المنشآت العسكرية الإسرائيلية والمدن الرئيسية كحيفا وتل أبيب، وصولاً إلى مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه.
وفي منظور أعمق، فإن التنظيمات التي تفقد قياداتها المحورية، غالباً ما تنبري بعزيمة أشدّ وإصرار أقوى لإثبات قدراتها وإعادة بناء قوتها، ولنا في حادثة اغتيال السيد عباس الموسوي، الأمين العام السابق لحزب الله عام 1992، خير مثال على ذلك، إذ شهدت تلك الفترة – وفور انتهاء مراسم التشييع – تحولاً استراتيجياً جذرياً في نهج المقاومة، حيث نفّذ حزب الله أولى عملياته العسكرية خارج الحدود اللبنانية ضد الكيان الإسرائيلي (فلسطين المحتلة)، وهو ما يؤكد أن عملية الاغتيال تلك، شكّلت حافزاً للقيادات الأخرى في حزب الله للارتقاء بمستوى المواجهة إلى آفاق جديدة، وتطوير قدراتهم العملياتية في مواجهة الجيش الإسرائيلي.
وهکذا، نجد أنه بعد انقضاء ما يزيد على عقد على حادثة اغتيال السيد عباس الموسوي، شهدت المقاومة اللبنانية متمثلةً في حزب الله تحولاً جوهرياً في منظومة قدراتها وفاعليتها الاستراتيجية، فعقب حقبة من المواجهات الدامية التي شهدها لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي، تمكن حزب الله في العام 2000 من تحقيق إنجاز استراتيجي بارز، بإرغام القوات الإسرائيلية على الانسحاب من الجنوب اللبناني – وهو حدث محوري أفضى إلى توسيع رقعة النفوذ الاستراتيجي للحزب بصورة غير مسبوقة.
وفي تطور لافت للمشهد الاستراتيجي، نفّذ حزب الله في الثاني عشر من يوليو/تموز 2006 عمليةً عسكريةً نوعيةً متقدمةً خارج نطاق الحدود اللبنانية، أسفرت عن تحييد وأسر عناصر من النخبة العسكرية الإسرائيلية، في تحدٍ صارخ للمنظومة الأمنية الإسرائيلية.
وعليه، يتضح أن سياسة الاغتيالات قد تُفضي إلى نتائج عكسية، تتمثل في صعود قيادات تتبنى استراتيجيات أكثر صرامةً وحزماً في مواجهة الخصم، متجاوزةً بذلك النهج التقليدي لسابقيها، وما يستدعي التأمل أن عمليات الاغتيال، حتى حين تنجح في إحداث خلل مؤقت في المنظومة القيادية للمقاومة، فإنها تؤدي حتماً إلى تصاعد نزعة الثأر، ما يدفع نحو تبني استراتيجيات أكثر حدةً وفعاليةً في المواجهة.
سجل إخفاقات الکيان الإسرائيلي في أهدافه الإرهابية ضد المقاومة
لقد شهد لبنان سابقةً تاريخيةً مماثلةً، ففي عام 1982، شنّت “إسرائيل” حملةً عسكريةً واسعة النطاق على الأراضي اللبنانية، مستهدفةً تفكيك منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المسلحة المتمركزة هناك، وقد نجم عن هذا الهجوم تصفية وأسر عدد من القيادات الفلسطينية البارزة، فضلاً عن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء.
بيد أن هذه العمليات الإرهابية الإسرائيلية، أفرزت نتائج عكسية غير متوقعة، فقد أدت إلى نشوء وحدات عملياتية مقاومة فلسطينية مستقلة، تعمل خارج نطاق الهياكل القيادية التقليدية، وقد باشرت هذه الوحدات بتنفيذ عمليات نوعية مباغتة، ملحقةً خسائر فادحة بصفوف القوات الإسرائيلية.
ونتيجةً لهذا التحول الاستراتيجي في ميزان القوى، اضطرت “إسرائيل” للتراجع تدريجياً، ففي عام 1985، انكفأت قواتها إلى المناطق الحدودية، قبل أن تضطر لسحب قواتها بالكامل من جنوب لبنان في عام 2000، في انتكاسة استراتيجية كبرى.
وعلى الرغم من تبني “إسرائيل” لسياسة الاغتيالات المستهدفة، مدعيةً أنها تقلل من الخسائر في صفوف المدنيين، فإن الوقائع على الأرض تدحض هذه المزاعم بشكل قاطع، فقد أسفرت العمليات الإرهابية الإسرائيلية عن خسائر فادحة في صفوف المدنيين الأبرياء، ولعل أبرز مثال على ذلك اغتيال السيد حسن نصر الله، حيث قامت “إسرائيل” بتدمير مبنى سكني بأكمله في أحد أكثر الأحياء اللبنانية كثافةً سكانيةً، ما يعكس استهتاراً صارخاً بأرواح المدنيين.
تتشدق “إسرائيل” بمزاعم “الإنذارات الإنسانية” التي تدّعي توجيهها للمدنيين قبيل شن هجماتها، عبر منظومة متكاملة من الاتصالات الهاتفية والرسائل النصية والمنشورات الجوية، غير أن تقريراً موثقاً صادراً عن منظمة العفو الدولية في أكتوبر المنصرم، يدحض هذه المزاعم جملةً وتفصيلاً، مؤكداً أن هذه “الإنذارات المزعومة” – إن وُجدت – تتسم بالضبابية والغموض، فضلاً عن افتقارها للمهلة الزمنية الكافية لإجلاء المدنيين.
وحتى العمليات التي طالما تغنى بها المحللون العسكريون الإسرائيليون، كعملية تفجير أجهزة النداء(البيجر) في لبنان، كشفت عن قصور تكتيكي فادح في تجنيب المدنيين ويلات العمليات العسكرية، فقد أفضت محاولة استهداف عناصر حزب الله في سبتمبر، عبر تفجير آلاف أجهزة النداء، إلى كارثة إنسانية حقيقية، ما زالت تداعياتها تلقي بظلالها على المشهد اللبناني.
يتجلى بوضوح أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية الهادفة، قد مُنيت بفشل ذريع في تقويض البنية التنظيمية لحزب الله، بل إنها أسهمت – عكسياً – في تعزيز نفوذه وترسيخ مكانته، وقد عبّر عن هذا الواقع السفير اللبناني في بريطانيا، رامي مرتضى، في معرض رده على تهديدات نتنياهو الرعناء بتحويل لبنان إلى “غزة ثانية”، حيث أكد أن العدوان الإسرائيلي لا يؤدي إلا إلى تعزيز موقع حزب الله، وتعميق حالة اليأس في صفوف مستوطني الشمال المحتل.
والأهم في هذا السياق، أن هذه الممارسات العدوانية تؤكد صحة الرؤية الاستراتيجية التي ما فتئ حزب الله يؤكد عليها على مدى أربعة عقود، وهي أن الكيان الصهيوني لا يفقه سوى لغة القوة والردع.