مقالات مشابهة

وفق القانون الدولي.. كيم في خندق بوتين ضد أوكرانيا والغرب

لم تكن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى بيونغ يانغ مجرد لقاء تقليدي مع الزعيم كيم جونغ أون، بل مثلت تحولا إستراتيجيا عميقا، توج بتوقيع اتفاقية شاملة للتعاون الإستراتيجي بين البلدين. وسرعان ما انعكست هذه الخطوة على أرض الواقع، مع مصادقة مجلس الدوما الروسي بالإجماع على المعاهدة وتوالي التقارير الأميركية والأوروبية عن إرسال جنود كوريين للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا.

وحال تحقق هذا الانتشار للقوات الكورية الشمالية في الجبهة الروسية، فإنه سوف يشكل منعطفا كبيرا يضع حلفاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام تحد جديد لا تُعرف معه طبيعة ردود الفعل، خاصة في واشنطن التي أبدت قلقها “العميق” وتلويحها برفع القيود عن استخدام أسلحتها في كييف، كما قد يدفع كوريا الجنوبية -التي اعتبرت الأمر “تهديدا كبيرا للأمن العالمي”- لإعادة النظر في مستوى دعمها العسكري لأوكرانيا.

وتتزايد التأكيدات بشأن نشر وحدات كورية شمالية، وجاء آخرها من البنتاغون الذي قال إن بيونغ يانغ أرسلت 10 آلاف جندي للتدريب في روسيا، كما صرح حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأن وحدات عسكرية كورية شمالية انتشرت في منطقة كورسك الروسية على الحدود مع أوكرانيا.

تعميق العلاقات

تعود جذور العلاقة بين روسيا وكوريا الشمالية منذ الدعم السوفياتي في تأسيس نظام سلالة كيم عام 1948. ورغم تراجع هذه العلاقة بعد انهيار الاتحاد وإلغاء معاهدة التحالف عام 1996 واستبدالها باتفاقيات غير عسكرية عام 2000، فإنها اكتسبت زخما جديدا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022.

وتولدت المخاوف الجدية لدى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بشكل خاص بعد أن عززت موسكو وبيونغ يانغ شركاتهما الإستراتيجية مع زيارة بوتين في يونيو/حزيران الماضي، لأول مرة منذ عام 2000، حيث استقبل الرئيس الروسي بحفاوة كبيرة من قبل رفيقه كيم. وخلال تلك الزيارة، وقع الزعيمان اتفاقية “التعاون الإستراتيجي الشامل”، في خطوة تاريخية مشابهة للفترة السوفياتية بالقرن الماضي، حيث اعتبر بوتين الوثيقة بأنها “ثورية”.

وتميزت مراسم استقبال الرئيس الروسي بأجواء استثنائية، حيث انتظره كيم في المطار واستقبله على سجادة حمراء ووصفه بـ”أعز صديق للشعب الكوري”، وتزينت الطرقات بورود وشعارات سوفياتية، مع الترحيب الحار من الوفود الشعبية وقادة الحزب الحاكم، تزامنا مع عرض عسكري كبير شهد إطلاق النار احتفاء بهذه المناسبة.

“الدفاع المشترك”

وعلى غرار المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، التي تحدد أن “أي هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء يُعتبر هجوما على جميع الأعضاء”، تضمنت الاتفاقية الكورية الروسية بندا عن “الدفاع العسكري المشترك” ضد أي “عدوان” قد تتعرض له إحدى الدولتين، بما يتوافق مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بحسب موسكو، مما يعيد للأذهان اتفاقا مشابها وقع في 1961 بين الاتحاد السوفياتي وبيونغ يانغ في ذروة الحرب الباردة.

ويبدو أن موسكو تسعى لإضفاء غطاء قانوني على الدعم العسكري الأجنبي في الحرب ضد أوكرانيا، حيث يجري الحديث عن انتشار الجنود الكوريين في منطقة كورسك الروسية التي شهدت مؤخرا هجمات أوكرانية، وليس على الأراضي الأوكرانية التي ضمتها روسيا، ومع ذلك، لا يزال دور هذه القوات غير واضح، إذ تتباين التقديرات بين مساعدتهم خلف الخطوط أو مشاركتهم المباشرة في القتال ضد الأوكرانيين.

وفقا لموسكو وبيونغ يانغ، وُقعت الاتفاقية لمواجهة “هيمنة الولايات المتحدة” ولتقويض العقوبات الأميركية المفروضة على البلدين. واعتبر بوتين أن لكوريا الشمالية الحق الكامل في “حماية أمنها القومي وسيادتها”، بينما وصفها كيم جونغ أون بأنها بداية “حقبة جديدة”، تمثل مرحلة لتعزيز التعاون الإستراتيجي وتحدي الضغوط الدولية وتوسيع التعاون العسكري والاقتصادي.

نصف تحالف؟

أحدثت الاتفاقية الموقعة بين موسكو وبيونغ يانغ قلقا كبيرا في الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان ودول حلف الناتو، إذ بدا أن أول نتائجها إرسال “آلاف الجنود الكوريين الشماليين” لدعم روسيا، الأمر الذي اعتبره الرئيس الأميركي جو بايدن تطورا “خطيرا جدا”، في حين رأى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته أن الخطوة الكورية “تشكل تهديدا لأمن منطقتي المحيطين الهندي والهادي وأوروبا والأطلسي”.

ورغم تأكيد الكرملين أن اتفاقية “الدفاع المشترك” مع بيونغ يانغ “لا تحتاج إلى أي توضيح، إنها واضحة”، لكن خبراء قالوا إن العلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ في ظل الاتفاقية الجديدة، لا ترقى إلى مستوى التحالف الكامل، بل أقرب ما تكون إلى “نصف تحالف”، وهناك مؤشرات تدعم ذلك:

إعادة بناء التحالف

وفي السنوات الأخيرة، تحسنت العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، لكنها تطورت بشكل ملحوظ منذ أن أطلق بوتين عمليته العسكرية في أوكرانيا عام 2022. وقد دعمت كوريا الشمالية الإجراءات الروسية بما في ذلك ضمها لأراض أوكرانية، وبدأت في نقل الذخائر إلى موسكو خلال العام نفسه بحسب تقارير أميركية، في المقابل، زادت روسيا من دعمها الاقتصادي والدبلوماسي لكوريا الشمالية.

لكن قمم بوتين وكيم قد أخذت التعاون الثنائي إلى مستويات جديدة، فقد زار كيم روسيا تلبية لدعوة بوتين -عبر قطار مدرع- في سبتمبر/أيلول 2023، وخلال تلك الزيارة، استطلع كيم مواقع إستراتيجية بارزة، مثل أحدث قاعدة فضائية روسية، وقد تشير هذه الخطوة إلى التزام الجانبين بتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي. وزار مصنعا متقدما لإنتاج الطائرات، وقد تدل هذه الزيارة على طموحات كوريا الشمالية في تطوير قدراتها العسكرية، وشملت الزيارة أيضا تفقد الأسطول الروسي في المحيط الهادي واستعراض قاذفات إستراتيجية ذات قدرات نووية، إلى جانب صواريخ فرط صوتية وسفن حربية، مما قد يوحي بالرغبة المشتركة في تعزيز الشراكة العسكرية والتعاون الدفاعي بين الجانبين.

بعد ذلك، اجتمع مسؤولون رفيعو المستوى من روسيا وكوريا الشمالية في عواصم بعضهم البعض لتطوير الشراكة في مجموعة واسعة من المجالات بما في ذلك الاقتصاد، والعلوم، والتكنولوجيا، والثقافة. أما زيارة بوتين إلى بيونغ يانغ في عام 2024، فبدت كأنها تعيد إحياء التحالف العسكري بين الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية، الذي تراجع بعد انهيار الاتحاد في عام 1991.

“توسيع نفوذ”

وفي ظل التوترات الروسية مع الغرب والعقوبات المتزايدة على بوتين، فإن موسكو تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها الإقليمي، وتخفيف العزلة الدولية المفروضة عليها، بحسب خبراء، من خلال التعاون الوثيق مع بيونغ يانغ، إلى جانب تحقيق مكاسب مباشرة من هذه العلاقات الثنائية على النحو التالي:

إمدادات ذخيرة جاهزة: وفقا لتقارير أميركية، فإن روسيا تستفيد من وصول سريع إلى كميات ضخمة من الذخيرة عبر كوريا الشمالية، مما يساعدها في الحفاظ على معدل إطلاق يومي بآلاف القذائف المدفعية في أوكرانيا، إلى جانب تعزيز قدرتها الإنتاجية المحلية.

دعم عسكري مباشر: تلقت روسيا من كوريا الشمالية أكثر من 13 ألف حاوية شحن محملة بأكثر من 6 ملايين رصاصة، واستخدمت ما يزيد على 40 صاروخا باليستيا من إنتاج كوريا الشمالية لضرب أهداف في أوكرانيا منذ أواخر 2022، وفق تقارير غربية.

تخفيف الضغوط الغربية: تهدف موسكو إلى تعويض فقدانها للأسواق والتكنولوجيا الغربية عبر تعزيز علاقتها مع كوريا الشمالية، والتي توفر دعما اقتصاديا وتقنيا خارج نطاق العقوبات الغربية.

توجيه الأنظار بعيدا عن أوكرانيا: قد تسهم الشراكة مع كوريا الشمالية في رفع التوتر في شبه الجزيرة الكورية، مما يتيح لروسيا تحويل انتباه الولايات المتحدة عن أوكرانيا والضغط على حلفائها لتقليل دعمهم العسكري المباشر لأوكرانيا.

إعادة دورها في آسيا والمحيط الهادي: تحاول موسكو، وفقا لمصادر غربية، أن تقدم نفسها كطرف فعّال في القضايا الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بشبه الجزيرة الكورية، وأن تكون طرفا في أي مفاوضات أو نقاشات تتعلق ببيونغ يانغ، بهدف تعزيز نفوذها في منطقة آسيا والمحيط الهادي.

ويتخوف الغرب من احتمال أن يؤدي التعاون المستمر بين روسيا وكوريا الشمالية إلى مزيد من نقل التقنيات العسكرية أو العناصر المحظورة، مما قد يُعزز القدرات العسكرية لكوريا الشمالية، لا سيما في المجالات المتعلقة بالأقمار الصناعية أو الصواريخ.

ووسط تضارب في المعلومات بين التصريحات الرسمية والتحليلات الاستخباراتية بشأن نقل كوريا قوات تابعة لها إلى الجبهة الروسية، لم تؤكد روسيا ولا كوريا الشمالية بشكل رسمي هذه المعلومات، إلا أن بيونغ يانغ ألمحت إلى أنها في حال قررت إرسال قوات إلى روسيا، فإن هذا الأمر سيكون “متوافقا مع القانون الدولي”، مما يشير إلى إمكانية أن تُقدم على مثل هذه الخطوة التي على الأرجح ستغضب واشنطن وحلفاءها بشكل كبير.

وكانت الولايات المتحدة تكتفي سابقا بالكشف عن نقل الأسلحة بين روسيا وكوريا الشمالية، وتنسيق الإدانات والعقوبات مع الحلفاء، لكن انضمام بيونغ يانغ للمعارك الروسية ضد أوكرانيا قد يدفعها إلى تبني إستراتيجيات جديدة، إذ كان أول رد فعل لها، التلويح بعدم تقييد أوكرانيا في استخدام الأسلحة الأميركية خلال الحرب.

ولا شك في أن زيارة بوتين إلى بيونغ يانغ وتوقيع اتفاقية عسكرية معها قد أثار قلقا عميقا في الغرب، إلا أن مشاركة جنود كوريين شماليين في القتال إلى جانب روسيا يمكن أن يحول أكبر نزاع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية إلى صراع عالمي حقيقي، خاصة، أن بوتين وكيم يسعيان إلى جانب دول أخرى لـ”إقامة عالم جديد متعدد الأقطاب”، للحد من النفوذ الأميركي.

المصدرالجزيرة