عاش سكان حيفا ليلةً عصيبةً تحت وطأة قصف صاروخي وهجمات بالطائرات المسيرة، نفذها حزب الله بدقة متناهية، هذه العملية النوعية والمركبة وجّهت ضربةً قاصمةً للقوات الصهيونية، حتى وصفتها الإذاعة العسكرية للکيان بأنها “الهجوم الأكثر دمويةً منذ اندلاع المواجهات”.
مع بزوغ الفجر، استفاقت مدينة حيفا الساحلية في الأراضي المحتلة على صدمة الهجمات الصاروخية والمسيّرات التي شنتها المقاومة، وقد اضطر الكيان الصهيوني للاعتراف بمصرع أربعة من جنوده، وإصابة العشرات بجروح متفاوتة الخطورة.
وفي بيان رسمي، صرح دانيال هاغاري، الناطق باسم جيش الاحتلال: “في ساعات الليل الأخيرة (ليلة الأحد الماضي)، استهدفت طائرة مسيرة تابعة لحزب الله منشأةً عسكريةً بالقرب من بنيامينا”، وأضاف: “أسفر هذا الهجوم عن مقتل أربعة جنود من قوات الاحتلال، فضلًا عن إصابة سبعة آخرين بجروح بالغة، ولا تزال التحقيقات جاريةً لكشف ملابسات هذا الحادث الخطير”.
ونقلت الإذاعة العسكرية للكيان عن مصدر عسكري رفيع قوله: “إن الهجوم على بنيامينا، الذي نُفذ بواسطة طائرة مسيرة لحزب الله، يُعدّ الأكثر دمويةً منذ بداية المواجهات الحالية”.
من جهتها، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن إيلي بينين، مدير خدمات الطوارئ في “نجمة داود الحمراء”، تصريحه: “تجاوز عدد المصابين في هجوم حزب الله على بنيامينا شمال فلسطين المحتلة 39 شخصًا، وتتفاوت حالات المصابين بين الحرجة والخطيرة والمتوسطة، حيث يعاني ثلاثة منهم من إصابات بالغة الخطورة، وخمسة آخرون من جروح خطيرة، بينما تم تصنيف حالة 14 مصابًا بالمتوسطة”.
في ظل التصعيد الملحوظ في التهديدات الإسرائيلية بشأن التوغل البري في الأراضي اللبنانية والسيطرة على القرى الحدودية، جاءت العملية العسكرية النوعية التي نفذها حزب الله مؤخراً، لتكشف عن الفجوة الشاسعة بين الواقع الميداني المعقد ومفاهيم القيادة الإسرائيلية.
تفوق تكتيكي: اختراق حزب الله لمنظومات الدفاع المتطورة
أبرز ما يميّز الهجوم الأخير بالطائرات المسيرة، هو إعادة تأكيد قابلية اختراق أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات، ولا سيما “القبة الحديدية”، وقد تجلت ثغرات هذه المنظومة – التي طالما وُصفت بالتفوق التكنولوجي – بوضوح في سلسلة من الهجمات السابقة، ما يدحض الادعاءات المتكررة حول فعاليتها المطلقة.
ورغم تركيز “إسرائيل” لقدراتها الدفاعية في الشمال، أظهر حزب الله براعةً استثنائيةً في تجاوز المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، وقد أقرت مصادر عسكرية إسرائيلية بفشل أنظمة الدفاع الجوي في رصد الطائرات المسيرة، ما يستدعي إجراء تحقيقات مكثفة لتحديد أسباب هذا الإخفاق الاستراتيجي.
وكشفت تفاصيل العملية عن استراتيجية متطورة اعتمدها حزب الله، حيث تم إطلاق وابل من الصواريخ لإشغال أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، ما مهّد الطريق لاختراق الطائرات المسيرة، وهذا التكتيك المركب نجح في إرباك المنظومة الدفاعية الإسرائيلية بشكل غير مسبوق.
يتجلى بوضوح أن التهديدات المتصاعدة من قبل الكيان الصهيوني بشأن التوغل البري في الأراضي اللبنانية والسيطرة على القرى الحدودية، قد بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة، بيد أن العملية العسكرية النوعية التي نفذها حزب الله، قد برهنت بما لا يدع مجالاً للشك على أن معادلات الحرب المعقدة والوقائع الميدانية، تتباين بشكل جوهري مع التصورات الواهمة التي يتبناها قادة الكيان الصهيوني.
لقد تجلت مواطن الضعف الجسيمة في المنظومة الإسرائيلية الدفاعية المتطورة ظاهرياً مراراً وتكراراً خلال الهجمات التي شنتها أطراف محور المقاومة، ولا سيما في العمليات الثقيلة “الوعد الصادق 1 و2″، ما يدحض الادعاءات المطروحة بشأن قدرات هذه المنظومة باهظة التكلفة.
ومع ذلك، حتى في ظل تركيز الكيان الصهيوني لجزء كبير من قدراته الدفاعية الجوية في الشمال لمواجهة حزب الله، فإن الأخير قد أثبت من خلال عملياته الناجحة بالطائرات المسيرة، أنه قد بلغ مستوى متقدماً من البراعة في التحايل على منظومة الکيان الدفاعية وإحباطها.
وفي هذا السياق، أعلنت إذاعة جيش الاحتلال الصهيوني نقلاً عن مصدر عسكري، أن “أنظمة الدفاع الجوي أخفقت في رصد الطائرات دون طيار”، مضيفةً إن “التحقيقات جارية لكشف السبب”، كما أكد مصدر عسكري آخر، نقلاً عن الإذاعة ذاتها، أن حزب الله نجح في خداع منظومة الدفاع الجوي، وأطلق وابلاً من الصواريخ لتغطية الطائرات المسيرة.
من جانبها، أفادت القناة 12 الإسرائيلية بأن “الطائرات المسيرة أُطلقت نحو حيفا تحت غطاء من وابل الصواريخ باتجاه الجليل”.
وفي بيان توضيحي صادر عن غرفة عمليات حزب الله عقب العملية الناجحة، جاء ما يلي: نفذت القوة الصاروخية للمقاومة عمليةً نوعيةً ومركبةً، حيث أطلقت عشرات الصواريخ نحو أهداف متنوعة في مناطق نهاريا وعكا بهدف إشغال أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وبالتزامن مع ذلك، أطلقت القوة الجوية للمقاومة مجموعةً من الطائرات المسيرة المختلفة، بعضها للمرة الأولى، نحو مناطق متفرقة في عكا وحيفا، وقد أصابت أهدافها بدقة.
وفي تقرير لها، أشارت صحيفة “جيروزاليم بوست” إلى التكتيك المبتكر الذي اتبعه حزب الله لإرباك المنظومة الدفاعية للكيان، مؤكدةً أن “الهجوم على بنيامينا كشف عن مواطن الضعف في الدفاع الجوي الإسرائيلي”.
أما القناة 12 التلفزيونية التابعة للكيان، فقد زعمت أن الطائرات المسيرة اختفت تماماً من على شاشات الرادار بعد رصدها الأولي، وأن الجيش لم يعد يمتلك أي معلومات عن سقوطها أو استمرار تحليقها، ولهذا السبب لم يتم تفعيل الإنذار في منطقة بنيامينا.
لقد أظهر حزب الله، على مدار السنوات الأخيرة، تطوراً ملحوظاً في قدراته المتعلقة بالطائرات المسيّرة، ويمتلك التنظيم مجموعةً متنوعةً من هذه الطائرات، والتي يتم توظيفها لأغراض متعددة، تشمل المراقبة، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتنفيذ عمليات انتحارية.
ومن الجدير بالذكر أن طائرة “مرصاد” المسيّرة، التابعة لحزب الله، هي عبارة عن مركبة جوية صغيرة الحجم، مزودة برأس حربي يبلغ وزنه حوالي 20 كيلوغراماً، وتتميز هذه الطائرة بقدرتها على حمل ما يصل إلى 40 كيلوغراماً من المواد المتفجرة، مع إمكانية التحليق على ارتفاع يصل إلى 3000 متر.
إن امتلاك حزب الله لطائرة مرصاد-1 المسيّرة، يتيح له القدرة على شن هجمات دقيقة في عمق الأراضي الإسرائيلية، مع تقليل المخاطر المحتملة التي قد يتعرض لها المقاتلون أثناء عمليات التوغل البري.
الإنجاز الاستخباراتي الفائق لحزب الله
في عملية نوعية فائقة الدقة، استهدفت الطائرات المسيّرة التابعة لحزب الله منشأةً تدريبيةً تابعةً للواء جولاني النخبوي في منطقة بنيامينا، هذه المنشأة، المحاطة بهالة من السرية والتحصين، ظلت مجهولةً حتى للسكان المحليين، ما يبرز مستوى الحماية الاستثنائي الذي حظيت به.
ووفقاً للتحليلات الاستراتيجية، كانت هذه الوحدة في مرحلة حاسمة من الإعداد لعملية توغل برية محتملة في الأراضي اللبنانية، ما يضفي أهميةً قصوى على توقيت الهجوم.
لقد تجلت براعة الاستخبارات التابعة لحزب الله في الدقة المتناهية للضربة، حيث أصابت الطائرات المسيّرة الانتحارية بدقة متناهية الغرف التي تضم تجمعات كثيفة من الضباط والجنود، ما يشير إلى مستوى استثنائي من المعلومات التفصيلية والتخطيط الدقيق.
على مدار العام المنصرم منذ اندلاع الأعمال العدائية في غزة، أثبت حزب الله امتلاكه لمنظومة استخباراتية متطورة ومتكاملة، تغطي بدقة المراكز العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية للكيان الصهيوني في كل أرجاء الأراضي المحتلة، وهذه القدرة الفائقة على الرصد والتحليل، تجعل أي تحرك أو نشاط في متناول العين الساهرة للمقاومة.
وفي خضم تعدد الأساليب والتقنيات الاستخباراتية المتقدمة، برزت عمليات الاستطلاع بواسطة الطائرات المسيّرة كأداة محورية في الترسانة الاستراتيجية لحزب الله، وتعدّ ‘”طائرة الهدهد المسيّرة” نموذجاً بارزاً لهذه القدرات المتطورة.
هذه الطائرة المتطورة، التي نجحت مراراً في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية بكفاءة عالية، أثبتت قدرتها الفائقة على التقاط صور عالية الدقة والوضوح للمنشآت الحيوية والاستراتيجية، وفي ليلة الأربعاء الماضية، نفذت “الهدهد” عملية استطلاع ناجحة فوق مدينة حيفا، في ما يبدو أنه كان تمهيداً دقيقاً للهجوم اللاحق على الوحدة العسكرية الصهيونية.
وتتجلى أمثلة إضافية على عمق الذهول والاستغراب الذي اعترى قادة الكيان الصهيوني إزاء الدقة الاستثنائية لقاعدة البيانات الاستخباراتية لحزب الله، في الحادثة التي وقعت في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي، فوفقاً لما أوردته موقع “والا” الإسرائيلي، تمكنت الطائرات المسيّرة التابعة لحزب الله من الوصول إلى إحدى القواعد السرية الإسرائيلية في محيط مدينة حيفا.
لم يقدم الموقع المذكور تفاصيل إضافية حول طبيعة هذه المنشأة العسكرية الحساسة، بيد أن وسائل الإعلام اللبنانية والفلسطينية، استناداً إلى بيان صادر عن حزب الله، كشفت النقاب عن أن الهجوم بالطائرات المسيّرة استهدف مقر وحدة العمليات الخاصة التابعة للقوات البحرية في جيش الاحتلال الصهيوني، والمعروفة باسم “شائت 13”.
استهداف الشريان الحيوي للكيان الصهيوني
يتحتم علينا، من منظور استراتيجي دقيق، تسليط الضوء على الدلالات العميقة للعملية الفذّة التي نفذها حزب الله في قلب مدينة حيفا الساحلية، هذه المدينة، التي تحتضن أحد أعرق وأضخم الموانئ في فلسطين التاريخية، تمثّل اليوم الركيزة الأساسية والعمود الفقري للنشاط البحري والاقتصادي للكيان الصهيوني.
يتبوأ ميناء حيفا، بما يتمتع به من أرصفة عميقة تضمن استمرارية عملياته على مدار العام، مكانةً لا تُضاهى كأحد أبرز المرافئ في حوض شرق المتوسط، وقد اكتسب هذا المرفأ الاستراتيجي لقب “البوابة الذهبية للتجارة الإسرائيلية مع العالم”، حيث يستأثر بالنصيب الأعظم من حركة التبادل التجاري للكيان، إذ تمر عبر بواباته البحرية ما يقارب 99% من إجمالي الصادرات والواردات.
بلا ريب، ونظراً للأهمية القصوى التي يحظى بها هذا المرفأ الحيوي، فقد أحيط بمنظومة دفاعية وأمنية متعددة الطبقات، غاية في التعقيد والكثافة، بهدف صدّ أي هجمات محتملة من صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة خلال فترات النزاع، بيد أن حزب الله قد برهن، وبكل جدارة، على قدرته الفائقة في اختراق هذه الحصون الدفاعية والأمنية المتطورة، مسلطاً سيف التهديد على إحدى الركائز الاقتصادية الأساسية للكيان الصهيوني.
وعليه، فإن هذا الهجوم يحمل في طياته رسالةً قويةً، تُعدّ بمثابة نموذج مصغّر لقدرات حزب الله الهائلة على استهداف مراكز حيوية أخرى للكيان، بما فيها أشدود وإيلات، بل حتى تل أبيب ومفاعل ديمونا النووي.
في الوقت الراهن، تشهد غالبية موانئ ومطارات الكيان الصهيوني حالةً من الشلل التام أو الجزئي، ما جعل البحث عن مسارات آمنة لاستيراد البضائع إلى الأراضي المحتلة، هاجساً يؤرق صناع القرار في الكيان، ويزداد الوضع تعقيداً حتى في حال إعادة فتح الموانئ، إذ إن حركة أنصار الله في اليمن قد أحكمت إغلاق الطريق البحري في البحر الأحمر أمام السفن التجارية المرتبطة بالكيان الصهيوني.
حزب الله: قوة عظمى في ساحة المعركة
إن هذه العملية الفذة تكتسي أهميةً استثنائيةً، إذ تمثّل منعطفًا حاسمًا في إعادة بث روح الثقة والعزيمة في نفوس الشعب اللبناني، والمقاتلين الأشاوس، وحلفاء المقاومة في المنطقة، وهذه العملية النوعية تجسّد بجلاء قدرة حزب الله الفائقة على الحفاظ على بنيته التنظيمية المتماسكة، وصلابة قيادته الحكيمة، وثباته الراسخ في ساحات المعرکة، وذلك في أعقاب استشهاد نخبة من قادته وكوادره البارزة، وعلى رأسهم الشهيد المجاهد السيد حسن نصر الله.
لقد برهنت هذه العملية الجريئة، بما لا يدع مجالًا للشك، للقيادات الصهيونية المتغطرسة وكافة المراقبين لمجريات الصراع في لبنان والكيان الإسرائيلي، أن حزب الله لم يكتفِ بتجاوز الصدمة الأولية لفقدان قائده الملهم السيد حسن بكل اقتدار فحسب، بل نجح أيضًا في إعادة هيكلة قيادته الإدارية والميدانية بكفاءة عالية ومهنية فائقة، والأهم من ذلك، أن الحزب، على عكس ما توهمه الصهاينة، لم ينكفئ إلى موقف دفاعي منكمش، بل انتقل بكل جرأة وحنكة إلى مرحلة هجومية استباقية، مؤكدًا حضوره القوي وقدرته على المبادرة في ساحة المعركة.