يختلف وجه الحرب هذه المرة على الرغم من ثبات المسببات والأهداف ورسوخ ملامح الصراع. اذ أن كيان الاحتلال الذي حلم دائماً بتوسيع حدوده لتشمل عدداً من الدول المجاورة، استفاق يوم 7 اكتوبر على حقيقة تفيد بأن القوة التكنولوجية التي يتمتع بها لم يكن باستطاعتها أن تعالج المعضلة الجيوسياسية التي يواجهها. ولسوء حظه، فإن دخول إيران على خط المواجهة المباشرة، بدّلت قواعد اللعبة، وجعلت الاعتماد على القوة التكنولوجية البحتة لمواجهة القوة الجيوسياسية نوعاً من المقامرة، بانت ملامحها الأولى من حرص الولايات المتحدة على تحييد عدد من الأهداف الايرانية في الرد “الإسرائيلي” على “عملية الوعد الصادق2”.
بعد أكثر من 15 يوماً على الاستهداف الايراني لقواعد عسكرية في كيان الاحتلال، لا تزال خيارات الرد “الإسرائيلية” غير محسومة، وسط ضغوطات أميركية اوروبية على ألا تشمل منشآت نووية أو نفطية. يدل هذا الأمر على عدد من المؤشرات، تبدأ بالمدة الزمنية التي اتخذتها “إسرائيل” لدراسة نوع الضربة وماهيتها، ولا تنتهي بأن الاستهداف العشوائي وغير المحسوب لمنشآت في إيران سيسبب ضرراً على مختلف دول الاقليم ولا يقتصر على الجمهورية الاسلامية، وهنا تكون “إسرائيل” قد وقعت في لعنة الجغرافيا مجدداً.
تشير مجلة فورين بوليسي الاميركية في تقرير لها تتحدث فيه عن تخلي إيران عن “الصبر الاستراتيجي” أن الصراع الحالي بين طهران والكيان يسلط الضوء على الصدام بين القوة التكنولوجية والقوة الجيوسياسية.
وفي حين تستفيد إيران من مزايا جيوسياسية كبيرة، فإن كعب أخيل “إسرائيل” يكمن في ضعفها الجيوسياسي، المحصور في منطقة صغيرة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
من ناحية أخرى، فإن قدرة إيران الصاروخية قادرة على تغطية حوالي 21 ألف كلم مربع (مساحة الكيان المفترضة) في وقت واحد، وهذا ما حدث بالفعل في عملية الوعد الصادق2، في حين ستواجه التكنولوجيا “الإسرائيلية” معضلة في تغطية مساحة إيران التي تزيد مليون و1648 كلم مربعاً. ولهذا الأمر دلالاته العسكرية أيضاً، لجهة العمق الاستراتيجي الذي يفتقده الكيان، واختلاف نوعية التضاريس والجغرافيا التي تستفيد منها طهران في هذه المساحات الشاسعة لتطبيق ما يعرف بالدفاع السلبي.
وفق الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية يمكن تلخيص أهداف الدفاع السلبي الإيراني عبر:
-الحد من قدرة أنظمة الرادار والرصد للعدو واضعاف دقة الأسلحة لديه
-مواصلة أنشطة البنية التحتية على كامل الأراضي الإيرانية وتوفير الاحتياجات اللازمة للمواطنين حتى وقت الحرب
-الحد من الأضرار التي قد تحلق بالمعدات والمرافق الحيوية
-عدم تقديم أي هدف ثقيل للعدو وبالتالي سحب قائمة بنك الأهداف من يده
-تجريد العدو من إمكانية المبادرة وبالتالي تقليل حجم المفاجآت المحتملة
وفي الوقت الذي تتموضع به ايران إلى جانب حلفاء في المنطقة، ورسمت إلى جانبهم مختلف السيناريوهات وعملت بمساندتهم على مشروع واحد محدد طيلة عقود، تعتمد “إسرائيل” على استراتيجية الضربة الوقائية المتأثرة بالصدمة الأولى والمتجذرة في التفوق التكنولوجي. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا تلعب دورا متزايد الأهمية في الثورات العسكرية، -تقول المجلة- إلا أن العوامل الجيوسياسية لا تزال ضرورية في تشكيل مسار المسابقات الإقليمية.
وبهذا المعنى، فإن الحرب بشكلها الحالي الذي دخلت فيها إيران على خط المواجهة المباشرة، وستشهد في الايام المقبلة أشواطاً من الرد والرد المضاد، ستكون فيها الجغرافيا السياسية هي من يضع ثقلها لإعادة التوازن.
وفي سياق أوسع، يتركز مصير منافسات واشنطن الكبرى في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ والأوروبو-الأطلسي بشكل متزايد على محور الخليج وبلاد الشام حيث تعزز طهران علاقاتها مع موسكو وبكين. هذه الديناميكية تعيد تركيز الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط.