يمثّل السابع من أكتوبر 2023 منعطفاً تاريخياً في مسار الشرق الأوسط، ففي هذا اليوم المشهود، وبعد سنوات من الحصار الخانق، نجحت الكتائب العسكرية لحركة حماس في اختراق الجدار العازل، متوغلةً في عمق الأراضي المحتلة.
أسفرت هذه العملية الجريئة عن سقوط ما يزيد على ألف قتيل إسرائيلي، فضلاً عن أسر عدد آخر، وبعد مرور عام على هذه الواقعة المفصلية، يتجلى بوضوح أن “إسرائيل”، رغم كل محاولاتها للتعتيم الإعلامي، هي الخاسر الأكبر في هذه المعركة.
نظرة سطحية على صراع عميق
إن محاولة تحليل أحداث السابع من أكتوبر وعملية “طوفان الأقصى” من خلال منظور تقليدي، قد تؤدي إلى استنتاجات مضللة، فالحكم على أفعال أهل غزة، يتطلب فهماً عميقاً لما عانوه على مدار عقد كامل من الحصار والقهر، لذا، يجب النظر إلى هذا العمل البطولي من خلال عدسة رؤيتهم للعالم، لا من خلال معايير تقليدية قاصرة.
والغفلة عن هذا البعد الجوهري، قد أوقعت بعض المحللين في فخ التبسيط المخل، متجاوزين جوهر الأحداث وأبعادها العميقة، فالادعاءات المتسرعة حول هزيمة جبهة المقاومة استناداً إلى استشهاد بعض قادتها، أو المقارنات السطحية بين أعداد الشهداء الفلسطينيين والقتلى الإسرائيليين، أو الحديث عن إضعاف محور المقاومة، كلها تنمّ عن قصور في الرؤية وعجز عن سبر أغوار هذا الصراع التاريخي.
تتجلى على أرض الواقع حقيقة لا تقبل الجدل، وهي استشهاد قامات شامخة وقادة أفذاذ في صفوف المقاومة، فها هو السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، شخصية فريدة ذات ثقل سياسي وعسكري عالمي، قد ألحق بالكيان الصهيوني أحد أفدح الهزائم وأثقل الانسحابات في تاريخه، محوِّلاً حزب الله على مدى ثلاثة عقود إلى قوة عسكرية-دفاعية يُشار إليها بالبنان في المنطقة.
وإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي يُعدّ من أبرز الشخصيات المؤثرة في الساحة الفلسطينية، وأحد المهندسين الرئيسيين لعملية طوفان الأقصى التاريخية، ناهيك عن كوكبة من القادة الکبار أمثال عماد مغنية، وفؤاد شكر، وعلي كركي، والسيد رضي موسوي، وصالح العاروري، وعشرات غيرهم من صفوة القادة في حزب الله اللبناني وحركة حماس والحرس الثوري الإيراني، الذين ارتقوا شهداء في عمليات متنوعة.
بيد أن هذه الحقائق تثير تساؤلاً جوهرياً: هل يمكن اعتبار غياب هؤلاء القادة الاستثنائيين خسارةً تكتيكيةً أم استراتيجيةً لمحور المقاومة؟ ولعل الإجابة تكمن في سؤال آخر: هل يستعصي على المقاومة إفراز قيادات بديلة، حتى على المدى البعيد؟ وهل ستؤدي هذه الشهادات إلى اندثار الأيديولوجيا التي تمثّل روح المقاومة وجوهرها؟ إن التحليل الموضوعي يشير إلى أن اغتيال هؤلاء القادة الکبار، رغم فداحة الخسارة، لن يتعدى تأثيره المستوى التكتيكي، دون أن يمسّ الجوهر الاستراتيجي للمقاومة.
وثمة حقيقة أخرى صارخة لا يمكن تجاهلها، وهي أنه في خضم إزهاق الكيان الصهيوني لأرواح ما يربو على 40 ألف مسلم خلال عام واحد، وبأساليب تقشعر لها الأبدان، تسعى فئة مضللة جاهدةً لتحميل حماس مسؤولية هذه المجزرة، مصورةً عملية السابع من أكتوبر كذريعة لهذه الفظائع.
بيد أن التاريخ يشهد: ألم يمارس المتطرفون الصهاينة إبادةً ممنهجةً بحق الشعب الفلسطيني قبل عملية طوفان الأقصی، بل حتى قبل نشأة حماس بعقود؟ أليست هذه سلسلة متصلة من الجرائم المتأصلة في جوهر الكيان الإسرائيلي، وليست رد فعل على استفزاز أو تحت وطأة الإكراه؟ إن حقيقة الاحتلال الغاشم راسخة، لا تزعزعها المغالطات السياسية ولا الدعايات الإعلامية المضللة.
کذلك، فإن الحديث عن إضعاف محور المقاومة بعد عام من الصمود الأسطوري في وجه آلة الحرب الصهيونية المدججة بأحدث الأسلحة، ليس بالأمر المستغرب، غير أن تفسير هذا الوهن العارض على أنه نهاية حتمية لمسيرة المقاومة ضد الاحتلال، إنما هو إما ثمرة لقصور في الرؤية وسطحية في التحليل، أو محاولة بائسة للتعمية على جوهر القضية وتشويه الحقائق الناصعة.
ما الذي تُفصح عنه الحقائق؟
على مدى نصف قرن، شكّل الكيان الصهيوني ثابتاً محورياً في معادلة أزمات الشرق الأوسط، متكئاً على ركيزتين أساسيتين: أولاهما، تصويره كوريث لمآسي اليهود التاريخية، وعلى رأسها المحرقة النازية، ما أضفى عليه هالةً من الحصانة ضد أي نقد، وثانيتهما، الاعتقاد الراسخ بمناعة أمنه، المدعوم بترسانة غربية متطورة، بيد أن “طوفان الأقصى” قد زعزع هذه الثوابت، وها هي الأرقام، بعد عام من الحدث، تروي قصةً مغايرةً تماماً.
أ) الاقتصاد الإسرائيلي في دوامة الحرب
تكشف تقديرات المؤسسات الاقتصادية العالمية، عن تكبد الكيان الصهيوني نفقات حربية باهظة بلغت 50 مليار دولار خلال العام المنصرم، مع توقعات بارتفاعها إلى 66 مليار دولار مع نهاية العام المقبل، وهذا الرقم الفلكي، الذي يمثّل 12% من الناتج المحلي الإجمالي للأراضي المحتلة، يلقي بظلال قاتمة على مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي.
وقد تجلت تداعيات هذا الإنفاق الحربي الهائل، في خفض التصنيف الائتماني لـ “إسرائيل” عقب توسيع رقعة المواجهة إلى جنوب لبنان، وفي هذا السياق، أصدرت وكالة “موديز”، المرجعية الأولى في التصنيف الائتماني عالمياً، تحذيراً صارماً مفاده بأن غياب استراتيجية إسرائيلية واضحة للخروج من الأزمة سيفاقم الاضطرابات المالية، مع احتمال ارتفاع العجز في الميزانية إلى مستوى قياسي، يبلغ 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، شهدت توقعات النمو الاقتصادي للكيان الصهيوني انخفاضاً حاداً من 3.4% – وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي السابقة – إلى نطاق يتراوح بين 1% و1.9% حالياً، كما تشير الإحصاءات إلى تضخم العجز في الميزانية بمقدار ثلاثة أضعاف، ما يضع الاقتصاد الإسرائيلي على حافة أزمة هيكلية عميقة.
کما تمتد تأثيرات الأزمة لتطال قطاعات حيوية في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تكشف البيانات الصادرة عن المؤسسات الدولية عن صورة قاتمة:
قطاع السياحة: انهيار حاد أدى إلى تراجع أعداد السياح إلى عُشر ما كانت عليه سابقاً، صناعة البناء والتشييد: انكماش هائل، مع تبقي 15% فقط من القدرة الإنتاجية للقطاع، هروب رؤوس الأموال: تدفق سلبي بلغ حجمه ملياري دولار، ما يشير إلى تزعزع ثقة المستثمرين، قطاع النقل: تراجع ملحوظ في حركة الموانئ بنسبة 16%، ما يعكس تباطؤاً في النشاط التجاري، الاستثمارات الأجنبية: موجة من الإغلاقات طالت شركات أجنبية ومحلية على حد سواء داخل الأراضي المحتلة.
ب) أي الجانبين شهد تآكلاً في منظومته الأمنية؟
على مدى سبعة عقود، سعى الكيان الإسرائيلي – ككينونة مصطنعة وليس كحقيقة تاريخية راسخة – إلى نحت هوية دولة-أمة، مستنداً إلى الركيزتين المذكورتين سابقاً، بيد أن طبيعته المفتعلة والمغروسة قسراً في نسيج المنطقة، حالت دون تحقيق أي تناغم عضوي مع محيطه الإقليمي، بل على العكس، فقد تصرف هذا الكيان كعنصر دخيل، أشبه بفيروس يسعى جاهداً لتقويض النظام البيئي المحيط به.
وفي ضوء هذا الواقع، انتهج مؤسسو هذا المشروع الاستعماري، على مدار العقود السبعة الماضية، استراتيجيةً قائمةً على توظيف القوة العسكرية الغاشمة كأداة محورية لترسيخ مفهوم الدولة-الأمة، وتكريس وجودهم كدولة ذات سيادة وأرض وهوية وطنية مزعومة.
وقد امتدت هذه المساعي الحثيثة من تطوير ترسانة نووية سرية، إلى نشر أنظمة دفاعية فائقة التطور مثل “القبة الحديدية”، التي طالما تغنى بها قادة الكيان، غير أن هذا الدعم الهائل والمتواصل، وفقاً لاعترافات وسائل الإعلام الغربية ذاتها – والتي لطالما كانت منحازةً لمصلحة تل أبيب – قد أخفق إخفاقاً ذريعاً في توفير الأمن المنشود لـ “إسرائيل”.
وفي هذا السياق، يأتي التقرير الصادم الذي نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية مؤخراً، والذي أقرّ صراحةً بأن تحليل الهجمات الإيرانية الأخيرة قد كشف النقاب عن حقيقة مروعة، مفادها بأن أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية ليست بالحصانة المطلقة التي طالما روّج لها الخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي.
وتعزيزاً لهذا الاستنتاج، أفادت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، في أعقاب عملية “الوعد الصادق 2″، بأن الصور الفضائية عالية الدقة ومقاطع الفيديو الموثقة، تُظهر بما لا يدع مجالاً للشك نجاح العشرات من الصواريخ الإيرانية في اختراق منظومات الدفاع الجوي للكيان الصهيوني وحلفائه، مُلحقةً أضراراً بالغةً بمنشآته العسكرية الاستراتيجية.
ج) الأوضاع النفسية والسياسية في الأراضي المحتلة:
منذ أشهر، تفرض وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية حجابًا رقابيًا صارمًا على الأحداث الداخلية والمنظومة الأمنية الإسرائيلية، حائلةً دون كشف الستار عن الواقع المعيشي لقاطني الأراضي المحتلة.
بيد أن الصور والمقاطع المصورة المسربة من شتى أرجاء الأراضي المحتلة، تنبئ عن حالة من الاحتجاج والسخط الجلي والمكبوت، تجلت أولا في تظاهرات غير مسبوقة في تاريخ هذا الكيان، بينما أفضت ثانياً إلى حالة من الإحباط النفسي والاكتئاب المستشري.
کما تشير التقديرات إلى نزوح قرابة مئة ألف نسمة من القاطنين بمحاذاة حدود غزة، حيث تم إيواؤهم في الفنادق والمنشآت الحكومية، ومن جانب آخر، استحالت قضية الرهائن الإسرائيليين إلى بؤرة رئيسية لتوليد اليأس وتعميق الهوة بين الحكومة والشعب.
يعيش العديد من سكان الأراضي المحتلة في حالة قلق دائم من احتمالية الهجوم، ما يُلقي بظلال ثقيلة على أحوالهم النفسية ويذكرهم بانعدام الأمن للجميع، ولا سيما المستوطنين، ويُعدّ هذا أحد الأسباب الجوهرية وراء تزايد وتيرة الهجرة من الأراضي المحتلة ومغادرة “إسرائيل”.
يبدو أن مشروع بناء الدولة-الأمة الإسرائيلي المصطنع في فلسطين، حتى وإن لم يتهاوَ على المدى القريب بفضل الدعم المالي والعسكري الأمريكي، سيؤول على المدى البعيد إلى الانهيار من الداخل، وهجرة اليهود مجددًا نظرًا لطبيعته المتناقضة، ومن هذا المنطلق، يتجلى أن تصريح القائد الأعلى للثورة في إيران بشأن عودة “إسرائيل” إلى ما قبل سبعين عامًا، كان مبنيًا على أسس واقعية ومستندًا إلى المعطيات الراهنة.