الوقت – عقب إعلان حزب الله اللبناني رسمياً بالأمس، عبر بيان صادر عنه، نبأ استشهاد المجاهد الصلب، السيد حسن نصر الله، قائده الأبي، تبلور في أذهان المعنيين بقضايا فلسطين ولبنان والكيان الصهيوني على امتداد العالم تساؤل محوري، وهو ما المصير المرتقب للصراع القائم بين الكيان الصهيوني من جهة، ولبنان والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى؟
يكتسي هذا التساؤل وما يترتب عليه من إجابات، أهميةً بالغةً لدى طيف واسع من الأطراف من قيادات الكيان الصهيوني، والمستوطنين الصهاينة، والإدارة الأمريكية، وعدد كبير من الدول الغربية، وشريحة واسعة من زعماء الدول العربية، والجماهير الإسلامية حول العالم، وأحرار العالم أجمع، وحركات المقاومة، والقيادة والشعب الإيراني، وللإحاطة الشاملة بهذا التساؤل الجوهري، يستلزم الأمر تمهيداً موجزاً.
إن استقراء الفكر الصهيوني وحقله المعرفي العدائي، وكذلك منهجية صناع القرار عبر الحقب الزمنية المتعاقبة، إلى جانب التحليل السلوكي التاريخي، يكشف عن رؤيتهم الاستراتيجية في التعامل مع الخصم، والتي تتمحور حول هدفين رئيسيين: 1. إخضاع الخصم وتحييد خطره عبر استسلامه التام، 2. وفي حال تعذر ذلك، اللجوء إلى الإبادة الشاملة.
وفي سياق الهدف الثاني، يتعاملون مع شريحتين متمايزتين: أ. الجماهير الشعبية، ب. النخب القيادية والزعامات.
يرى المفكرون الصهاينة أن إبادة الشعوب عملية باهظة التكاليف، وتستنزف موارد هائلةً على المدى الطويل، ما يستدعي تجنبها قدر الإمكان، في المقابل، يعتبرون أن تصفية القيادات والزعامات أقل تكلفةً وأكثر جدوىً، وبالتالي تحظى بالأولوية في خططهم.
ووفقاً لهذا المنظور الاستراتيجي، فإن القضاء على القيادات من شأنه أن يفضي حتماً إلى إخضاع الجماهير وتحييد خطرها، وفي بعض السياقات، يتم تبني كلا النهجين بشكل متزامن لاعتبارات خاصة، كما نشهد راهناً في غزة ولبنان.
إن التحليل التاريخي والسلوكي للكيان الصهيوني على مدار العقود الماضية، يبرهن بجلاء على أن الأسس النظرية، وبالتبعية الممارسات طويلة الأمد للصهاينة، قد جانبها الصواب تماماً، فلم يحقق مسارهم هذا النتائج المرجوة، بل على النقيض، أدى مع تعاقب الأزمان إلى تعاظم قوة وقدرات الطرف المقابل، وهذا الاستنتاج التاريخي يطرح تساؤلاً جوهرياً: ما الذي يدفع الكيان الصهيوني وقادته للإصرار على هذا النهج، رغم إخفاقاته المتكررة وتداعياته الوخيمة؟
للإجابة على هذا التساؤل المحوري، يمكن الإشارة إلى عاملين أساسيين يقفان وراء هذا الإصرار الأعمى والمنافي للمنطق: 1. الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود، والإمداد العسكري المستمر دون قيود. 2. حالة الاضطرار واليأس الناجمة عن انعدام البدائل والخيارات الاستراتيجية الأخرى.
إن المنظومة المعرفية والثقافية الراسخة التي تستند إليها المقاومة، ممثلةً في حزب الله والفصائل الفلسطينية، والتي تحظى بالتفاف شعبي عميق، قد أثمرت مزيجًا فريدًا من نوعه، وقد يتجلى هذا المزيج في صورة نضال ومقاومة ضد الاحتلال والطغيان، وفي نهضة حازمة لاسترداد الحقوق المسلوبة والأراضي المحتلة.
ومن الجدير بالذكر أن الوجه الآخر لهذه المعادلة القيّمة والمؤثرة، يتمثل في الدعم الشعبي الراسخ للجناح العسكري لحركة المقاومة، وهذا ما يدفعنا إلى القول، وبكل ثقة: إن الكيان الصهيوني في حقيقة الأمر يخوض حربًا ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وليس ضد تنظيمات عسكرية محددة.
ولعله من الإنصاف القول إن الضرر المعنوي والأخلاقي الذي يلحق بالكيان الإسرائيلي جراء سفك دماء الأبرياء – من الرضع والأطفال والنساء العزل والمرضى العاجزين – لا يقل فداحةً عن الضربات العسكرية التي يوجهها المجاهدون في ساحات القتال، بل إن حنق الکيان الصهيوني وغيظه من الحاضنة الشعبية للمقاومة، قد يفوق غضبه من المقاتلين أنفسهم.
فالمقاتل يستطيع توجيه ضربات مباشرة وملموسة للعدو، بينما تقتصر مساهمة المدنيين على الصمود والتضحية، دون أي إمكانية للرد العسكري المباشر، ومع ذلك، فإنهم يقفون شامخين، داعمين للمقاومة، مستعدين للشهادة في سبيل قضيتهم العادلة.
وحين يجد الكيان الصهيوني الإجرامي نفسه أمام هذه الظاهرة الاستثنائية المذهلة، فإنه – وبدافع من الغضب واليأس – يعود إلى اجترار أساليبه القديمة الفاشلة، على أمل تحقيق نتيجة مختلفة، غير أن مساعيه تبوء بالفشل الذريع، دون أدنى بارقة أمل في تحقيق أي نجاح يُذكر.
إن ارتقاء قامات المقاومة الشامخة كالعاروري وهنية وفؤاد شكر وإبراهيم عقيل والسيد حسن نصر الله وأمثالهم إلى مصاف الشهادة على يد الكيان الصهيوني، عبر أعمال إرهابية لا ترقى إلى مستوى العمليات العسكرية بمفهومها الاحترافي، لهو برهان ساطع على أن مسيرة المقاومة تشق طريقها بثبات نحو غاياتها السامية، مكبلةً العدو بأغلال العجز والتخبط.
قد يتوهم الكيان الصهيوني، في قصر نظره التكتيكي الذي يتشبث به ويروّج له بإسراف، أن هذه الاغتيالات تمثّل انتصارًا مؤزرًا، بيد أن الرؤية الاستراتيجية الثاقبة تكشف زيف هذه “الانتصارات” الموهومة، وتؤكد طابعها العابر والزائل، أما العامل الجوهري الذي سيحسم المعركة لمصلحة الحق، فيتجلى في الالتفاف الشعبي الجارف والعزيمة الفولاذية والإيمان الراسخ الذي يسري في عروق حركات المقاومة – وهو ما شكّل على الدوام حجر الزاوية في تحقيق النصر، وإن الصراع الدائر اليوم ليس استثناءً من هذه القاعدة الذهبية، التي أثبتت صحتها مرارًا وتكرارًا.
في وجدان الشعبين اللبناني والفلسطيني، اللذين يحتضنان المقاومة بكل جوارحهما، فإن غياب قادة کبار كالسيد حسن نصر الله وهنية، لا يعني أفول نجم حزب الله والفصائل الفلسطينية المقاومة، والأسمى من ذلك كله هو وعد الله تعالى الذي لا يتخلف، والذي يثبّت أقدام المجاهدين في ميادين العزة والكرامة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
وهذا اليقين الراسخ هو الشبح الذي يطارد الكيان الصهيوني في صحوه ومنامه، ويفوق طاقته على الاحتمال، وبفضل الله تعالى، ومع تصاعد وتيرة المقاومة الباسلة بقيادة حزب الله وإخوانه في محور المقاومة، سيتهاوى هذا الكيان تحت وطأة هذا الإيمان الصلب.
واستناداً إلى ما تقدم، يمكننا صياغة إجابة موجزة ومحكمة للتساؤل المطروح في مستهل المقال على النحو الآتي: يتعين على حزب الله، في ضوء الاستفادة المثلى من رصيده الثري من الخبرات السابقة، وعبر إعادة هيكلة منظومته بشكل استراتيجي، والاستلهام من العناية الإلهية التي تجلت في أعقاب استشهاد القائد الفذ السيد حسن نصر الله، أن يعيد تقييم وتطبيق الاستراتيجية المحورية التي وضعها المجاهد الشهيد لمجابهة الكيان الصهيوني.
ومن الأهمية بمكان تبني تكتيكات متطورة تتواءم مع مستجدات الساحة، مع التركيز الحاد على إدارة الميدان بكفاءة عالية، آخذين بعين الاعتبار أن مآلات هذه المعركة المصيرية ستُحدد حصراً من خلال العمليات العسكرية النوعية التي ينفذها مجاهدو حزب الله الأشاوس، ذوو البصيرة النافذة والشجاعة الفائقة، وليس عبر الممارسات الجبانة للكيان الصهيوني.
کما يتحتم على حزب الله، من خلال تسليط ضغط عسكري مدروس ومركّز على المفاصل الاستراتيجية في الأراضي المحتلة، أن يستنزف القدرات الهشة للكيان الصهيوني، ويقوّض أركانه المتداعية، وهذا النهج الاستراتيجي يقع ضمن نطاق القدرات المتنامية لحزب الله، وبفضل العناية الإلهية وتوفيقه، سيكون قادراً على تحقيق هذه الغاية السامية بإذن الله تعالى.