عبر مسار دقيق، وخطوات مدروسة، تنتقل المقاومة في لبنان من الإسناد إلى مرحلة الهجوم، وسط اندفاع إسرائيلي تجاه التصعيد في محاولة لفصل الجبهة مع لبنان عن الحرب على قطاع غزة.
تقع منشآت “إسرائيل” العسكرية في الشمال في مواضع معروفة، إذ اتضح بالاطلاع على المقاطع المصورة للاستهدافات، خلال عام كامل، أن حزب الله درس طبيعتها ودورها تفصيلياً، ما يعني أن ضربها سيخضع بالضرورة لمنطق مكافئ، يكفل أكبر قدر من الشلل لآلية عمل إجمالي القوات في الشمال.
تحدِّ تتقن المقاومة التعامل معه
يتعرض الشمال الآن لقصف صاروخي، لقطاعات بعينها ذات أهمية استراتيجية (مثل محيط حيفا ومستوطنات شمال الضفة). وأحدث الإصابات التي وثقتها عدسات الإسرائيليين، هي مواقع القبة الحديدية نفسها ومنشآت صناعية، وجاء بوتيرة تسببت، خلال يومين، في زيادة النزوح نحو الوسط.
وفي المقابل، تقع الأغلبية المطلقة لقدرات الحزب العسكرية الأساسية تحت الأرض، وداخل الطوبوغرافيا الجبلية اللبنانية، بحكم طبيعة الأسلحة الأهم في ترسانته، وجلّها كبيرة الحجم، وطبيعة التنظيم نفسه، الذي نشأ تحت واقع التفوق الجوي الإسرائيلي منذ بدايته.
والشاهد الأبرز على ذلك ما ورد بأحد مقاطع الحزب، المنشور بعنوان “جبالنا خزائننا”، واستعرض منشأة عسكرية ضخمة، تسِع ناقلات شحن كبيرة لنقل الصواريخ الباليستية، داخل أحد الجبال، ورقم تسلسلها 4، ما يعني أنها ليست الوحيدة من نوعها. فضلاً عن الأمر الواقع، المعترف به إسرائيلياً منذ عقود، أن للحزب شبكة أنفاق ومواقع معقدة، تحت الأرض على الشريط الحدودي وفي الجنوب.
لا يقع فوق الأرض للحزب سوى منشآت مدنية، تخدم حاضنته الاجتماعية المدنية وترتبط بها، وغير معنية بالعمل العسكري أو التنظيمي. وهو ما تستغله “إسرائيل” لتحاول تحقيق أحد أبرز أهدافها: تأليب بيئة المقاومة عليها، وتدفيع الناس ثمن إفرازهم لقيادة تمثّلهم، حررت أرضهم بالفعل، وتعمل لتأمينها من الغزو أو الاحتلال، وانتزاع سيادة وطنية لبنانية في مواجهة خطر واضح، يعمل منذ عقود على تركيع أو احتلال لبنان.
لذلك لم يأتِ استهداف المدنيين في إطار خطة لتقويض الحزب عسكرياً، والدليل تصاعد قصف محيط حيفا، والإصابات الموثّقة بصرياً لمنشآت عسكرية ومستوطنات وطرق ربط رئيسية، بل يهدف إلى إحداث خسائر بشرية في صفوف المدنيين، طمعاً في ضربة “عضوية” – لا عسكرية – لتماسك المقاومة التنظيمي.
حزب الله: التكتيك الذكي لحرب قد تطول
لا يبدو تركيز الحزب على أهداف عسكرية محددة في قطاع الشمال مصادفة، خاصة مع تزايد أعداد الصواريخ المستخدمة ونظراً لنوعية الأهداف، في اليوم اللاحق لضربة الجنوب والبقاع.
ويبدو أن له منطقاً، يناسب الواقع الميداني الحالي، والمستقبل القريب للمعركة التي تدور – حتى الآن – عن بعد، إذ يقوّض البيئة الاستراتيجية لـ”إسرائيل” في مناطق بأهمية صفد، التي تتوسط حدود قطاعيّ الشمال والجولان، وحيفا، ذات الميناء الهام، والأهمية الاقتصادية والسكانية، والمستوطنات الأكبر في قطاع الشمال، ومستوطنات شمال الضفة الغربية، ومدن ساحل الشمال الفلسطيني، الذي يضمّ بالفعل مستوطنين نازحين من أقصى الشمال والشريط الحدودي، باتوا معرّضين للنزوح مرة أخرى.
لذلك شملت الإصابات مطارات ومقرات قيادة وسيطرة، ومواقع للرادار والدفاع الجوي (القبة الحديدية)، الأداة الأساسية لمواجهة الصواريخ، وقواعد تمركز لفيلق الشمال وفرقة الجليل، وعدة مخازن لوجيستية وللأسلحة، ومجمع صناعات عسكرية عادةً ما يحوى مواد متفجرة.
أي كل ما يعرض الآلية الدفاعية والحركية للجيش للشلل، ويكفل عملياً توقف الحياة المدنية والنشاط الاقتصادي والتعليم.
ومن ناحية أخرى، يؤثِر الحزب التمهل في استخدام الصواريخ الأثقل، والترسانة الباليستية، والصواريخ الدقيقة، اتباعاً لأسلوب التدرّج الذي اعتمده منذ الـ8 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، وإدراكاً بأن المعركة قد تطول، وقد تتطلب تصعيداً أكبر، ووقاية للضاحية الجنوبية من ضربات أكثر قد يجلبها التصعيد الفوري المطلق، غير الممنهج.
كما يستخدم الحزب ورقة قوته العامة: القدرة على شلّ الحياة في “إسرائيل”، وضرب التماسك السكاني، كما أعلن من قبل امتلاكه خطة لاستخدام الورقة الخاصة، استخدام الصواريخ الدقيقة واقتحام الجليل برياً.
ويستخدم جيش الاحتلال ورقة التفوق الجوي، لإحداث خسائر مدنية تكفل – في نظره – تحقيق هدف مقارب لما عمل لتحقيقه الحزب لعام، تجاه “إسرائيل”، وهو: تقويض البيئة الاستراتيجية؛ بعد أن استخدم ورقة التفوق التكنولوجي، ببعدها الاستخباري، لتوجيه ضربة الـ”بايجر”، بهدف ضرب التماسك التنظيمي، ولتنفيذ اغتيالات لذات الهدف. على أن فرص الحزب لإحداث تقويض أعمق لم تزل واعدة، في وجود بنك أهداف ثري في حيفا وحدها، فضلاً عن قطاع غوش دان في الوسط، ويشمل تل أبيب، وفي ظل أنه لم يستخدم بعد تكتيك القصف بالإغراق الكامل، بعدد ضخم من الصواريخ، يشمل الثقيلة والباليستية طويلة المدى.
التماسك الاجتماعي في لبنان.. السلاح الأقوى
من ناحية أخرى، يعكس رد الفعل الاجتماعي عند أهل المقاومة تماسكاً معتبراً، قياساً لحجم وأثر الغارات على الجنوب والبقاع، بتكتيك الصدمة والترويع المستخدَم، كما ظهر في عشرات المقاطع المصورة، النازحين والمتضررين وهم يؤيدون خط المقاومة، ويؤكدون وقوفهم معها رغم التعرض للاستهداف.
وقد أدّى هذا التكتيك أثراً عكسياً عند المجتمع اللبناني، بصفة إجمالية، إذ شهد حالة تضامن عملي واسع مع أهل الجنوب والبقاع، شملت باقي الأقاليم، من جبل لبنان إلى الشمال وعكار. كما أظهرها التنادي على وسائل التواصل الاجتماعي، بمئات المبادرات والمنشورات لاستضافة ومساعدة النازحين والعالقين.
لذلك يبدو أن “إسرائيل” أرادت فض التفاف بيئة المقاومة حول الحزب، فأسهمت في تشكّل رأي عام متعاطف معه، ومع معاناة المدنيين اللبنانيين، ما يفيد موقفاً وطنياً محتضناً لفاعلية المقاومة، يعاكس الغطاء الغربي والدولي لدولة الاحتلال.
وفي حين يستبعد أغلب المحللين اندلاع مواجهة برية، استناداً إلى إحجام الطرفين عن خوض حرب شاملة كبيرة، لا ترفضها أميركا جذرياً لكن تتحفظ على التوقيت والتفاصيل، والمآل الاستراتيجي النهائي المقلق. إلا أنّ تسارع وتيرة المواجهة، والقرار الإسرائيلي الواضح باستمرار قصف لبنان، يفتح الباب لهذا الاحتمال، وغيره، ويجعل “حرب الاستنزاف” على الحزب ذات كلفة اقتصادية وسياسية أعلى، نظراً لقدرته على استهداف “قلب الدولة”، الوسط، بعد الشمال، بقوة نارية ثقيلة لم يُختبر أثرها الكامل بعد، وعلى إطلاق تقسيم عمل محتمل مع الحلفاء، أي قدرات إضافية من جبهات أخرى، لإتمام الاستهداف بشكل ذي أثر استراتيجي فارق.
ــــــــــــــــــــــــــ
محمود عبدالحكيم – لبنان