يبدو أن دول الغرب بحُكوماتها “الديمقراطية”، تُريد إبقاء المجال مفتوحًا فقط، أمام الآراء التي تخدم توجّهاتها، وسياساتها، ولا تُريد للرأي المُقابل أن يجد مكانًا له، طالما كان ذلك الرأي مُخالفًا، وربّما فاضحًا لأجنداتها.
خبر اعتقال مؤسس تطبيق “تلغرام” بافيل دوروف، يتصدّر الآن الاهتمام العالمي، وتحديدًا في فرنسا، حيث تتّهمه الأخيرة بعدد من الجرائم منها الاتجار بالمخدرات، والجرائم ضد الأطفال، والاحتيال، وتبدو تلك الانتهاكات فيما يبدو مكررة، وبذات الطابع، لأولئك الذين يحملون نهجًا مُخالفًا للولايات المتحدة الأمريكية، ودول الغرب الحليف لها.
لافت بأنّ الإعلام الأمريكي وجّه نقده لذلك الاعتقال، ومنهم “فوكس نيوز” بالقول إن الأمر يتعلّق بإسكات المعارضة والتحكم في المعلومات، إنهم يريدون تحويل الإنترنت إلى مجسات أخرى لآلة الدعاية الخاصة بهم. نرى كيف يتم الاعتداء على حرية التعبير أمام أعيننا.
صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية سلّطت الأضواء على تصريحات دوروف الذي قال فيها إنه شعر بضغوط من الحكومة الأمريكية لمنح سلطات إنفاذ القانون إمكانية الوصول إلى بيانات “تلغرام” المشفرة.
وتُطرح تساؤلات حول الأسباب التي دفعت مؤسس “تلغرام” التوجّه إلى فرنسا، رغم كونه يُدرك أنه قد يتعرّض للاعتقال كونه مطلوبًا في فرنسا، وبحسب مصادر مقربة من التحقيقات، فإن مؤسس “تلغرام” يمكن أن يبقى موقوفا لمدة أقصاها 96 ساعة، وفي النهاية قد يُطلق سراح بافيل دوروف أو قد يمثل أمام القاضي.
ويبدو أن الاعتقال يحمل أبعادًا سياسيّة، ومُناكفة لروسيا، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا إن “السفارة الروسية في باريس ستبدأ العمل على الفور، كما هو معتاد” عندما يتم احتجاز مواطنين روس في الخارج.
كما اتهمت السفارة الروسية في فرنسا السلطات المحلية بـ”رفض التعاون” مع موسكو، وقالت السفارة في بيان أوردته وكالة ريا نوفوستي: “طلبنا على الفور من السلطات الفرنسية شرح أسباب هذا الاحتجاز وحماية حقوقه والسماح بزيارة قنصلية. حتى الآن، يرفض الجانب الفرنسي التعاون في هذه المسألة”.
منصة “تلغرام” من جهتها قالت في بيان عبر تطبيقها على أنها “تمتثل لقوانين الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك قانون الخدمات الرقمية”، وأكّدت أن دوروف “ليس لديه ما يخفيه ويسافر على نحو متكرر إلى أوروبا”، معتبرة أنه “من السخيف الادعاء بمسؤولية منصة أو مالكها عن إساءة استخدام لها”.
مخاوف مؤسس تلغرام” بما يتعلّق بالسماح للوصول إلى بيانات تطبيقه المشفرة، هي الأساس في قضية اعتقاله، فاعتقاله في فرنسا قد يُمكّن الناتو من الوصول إلى رموز التشفير الخاصة بالماسنجر المستخدمة بكثرة لأغراض عسكرية خلال العملية العسكرية الخاصة.
المراسل العسكري أندريه مدفيديف أشار إلى أن احتجاز دوروف في باريس ربما لم يكن ليحدث صدى في روسيا، لولا ظرف واحد. وقال: “عمليا يعتبر الماسنجر الرئيسي للحرب الحالية. وهو بديل للاتصالات العسكرية المغلقة. على الأغلب اعتبارا من اليوم، باتت مسألة إنشاء ماسنجر عسكري لجيشنا تتمتع بأهمية حيوية قصوى. من الصعب الآن التنبؤ ما إذا كان هذا الماسنجر سيبقى لاحقا.
وسعى دوروف، منذ إطلاق “تليغرام” خلال عام 2013 لتمييز تطبيقه، وجعله رمزًا للخصوصية والحرية، متميزًا عن منافسيه مثل “فيسبوك” و”غوغل” عبر رفضه تسليم بيانات المستخدمين أو بيعها، وقد أدّت هذه الاستراتيجية إلى جذب مئات الملايين من المستخدمين حول العالم، ليصل عدد المستخدمين إلى 950 مليون مستخدم، خلال عام 2024. ومع هذا الاعتقال لمؤسس التطبيق، توضع علامات استفهام حول ما إذا كانت الرغبة هي إغلاق التطبيق، أو ابتزاز مؤسسه لكشف بيانات مُستخدميه لإطلاق سراحه.
العنوان العريض لسبب هذا الاعتقال بهذا التوقيت، رغم أن مؤسس تلغرام يتردّد على فرنسا، هو رفض الأخير سابقًا إغلاق حساب حركة حماس على تطبيقه، حيث أعرب بافيل دوروف عن مُعارضته لفكرة حجب حساب حركة “حماس” على التطبيق، معتبرا أن ذلك سيؤثر سلبا على إعلام الناس بشأن الأحداث في المنطقة، ولهذا قد يكون مفهومًا لماذا قد تكون إسرائيل المُحرّضة الأولى على اعتقاله، والرغبة في حجب تطبيقه للأبد، أو حتى العمل على اغتياله في ظروف غامضة خلف القضبان.
سام باركر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية يوتا، قال إن “استهداف منصة تلغرام ومؤسسها بافيل دوروف، والذي اعتقل في فرنسا أول أمس، يعود لعدم حذفها المحتوى الذي لا ترغب إسرائيل برؤيته”.
وأوضح باركر أن “تيليجرام لا تزيل المحتوى الذي لا تحب إسرائيل أن يراه الناس، كما أنها لا تستثمر في آليات الرقابة بكثافة، ومتابعة الحسابات الإلكترونية”.
وقال باركر إن “إسرائيل لم تتمكّن من وقف انتشار المحتوى الذي لا تحبه، في الوقت الذي كانت قادرة على القيام بذلك في منصات أخرى”.
ولفت باركر إلى أن تقارير إسرائيلية تحدّثت عن إرسال وزارة عدل الاحتلال، أكثر من 40 ألف طلب ناجح إلى فيسبوك لإزالة محتوى تحت بند “غير قانوني”، وليس معنى ذلك أنها معادية لـ”إسرائيل، بل هي محتويات غير قانونية وفقا للمعايير الغربية، حتى أن تيك توك أزال أكثر من 20 ألف منشور بسبب بلاغات إسرائيلية، وعلى تيليجرام كان العدد 1300 فقط!”.
من جهته علّق مرشد إيران الأعلى السيد علي خامنئي حول اعتقال مؤسس ومدير تطبيق تلغرام بافل دوروف في فرنسا: “لقد رأيتم أن هذا الشاب المسکین اعتقل في فرنسا وهدد بالسجن 20 عاما. وهذا يدل على أنه خالف حكمهم. ويجب أن يكون لدينا أيضًا حكم القانون في الفضاء الإلكتروني”.
ينفي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن اعتقال مؤسس تطبيق تلغرام بافيل دوروف سياسيًا، وأوضح على منصة X أن بلاده “ملتزمة بشدّة” بحرية التعبير ولكنه بيّن أن “الحريات محفوظة في إطار قانوني، وهو نفيٌ يفتح الباب على تساؤلات حول مدى تمتّع الغرب بحرية التعبير، وتقبّل الرأي، والرأي الآخر، وإمكانية العمل لإيجاد بدائل تواصلية أكثر مصداقية، وفاعلية.
نفي الرئيس الفرنسي بكل حال بأن الاعتقال لا يحمل خلفيات سياسية، لا يُقنع قطاعًا عريضًا من روّاد المنصات، وحتى أصحاب هذه المنصات، حيث أعلن مؤسس موقع الفيديوهات Rumble، كريس باولوفسكي، أنه غادر الاتحاد الأوروبي بشكل عاجل بعد أنباء اعتقال مؤسس “تلغرام” بافيل دوروف في فرنسا.
وكتب باولوفسكي في حسابه على منصة “إكس”: “لقد تأخرت قليلا في هذا البيان، لأن هناك سببا وجيها لذلك – لقد غادرت أوروبا للتو بأمان. وكانت فرنسا قد هددت بالفعل Rumble، والآن تجاوزوا الخط الأحمر من خلال اعتقال رئيس تلغرام بافل دوروف، حسبما ورد. لعدم تقييد حرية التعبير”.
هذا الاعتقال يحتاج فيما يبدو إلى وقفة جادّة بما يتعلّق بسقوف حرية التعبير، الأمر الذي دفع مؤسس موقع الفيديوهات صراحة عن دعمه لبافل دوروف ومواصلة النضال من أجل حرية التعبير، وقال: “لن تتسامح شركة Rumble مع مثل هذا السلوك وستستخدم جميع الوسائل القانونية المتاحة للنضال من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان، نحن نناضل حاليا في المحاكم الفرنسية ونأمل في الإفراج الفوري عن بافيل دوروف”.
ـــــــــــــــــ
تقرير خالد الجيوسي