يواصل العدو الإسرائيلي حربه الظالمة على قطاع غزة لأكثر من عشرة أشهر متتالية لأول مرة منذ احتلاله لفلسطين عام 1948م.
جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتغير المعادلة تماماً، بل وتغير وجه المنطقة، فالعدو الصهيوني استشعر الخطر الوجودي بعد هذه العملية، وهو هنا يحاول بكل ما أوتي من قوة إلى ازالة هذا الخطر، معتقداً أن الحل يكمن في القضاء التام على فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والسيطرة عليها بالكامل.
لكن التساؤل الكبير الذي يطرحه نفسه.. هل حقق العدو الاسرائيلي نصراً في هذه المواجهة أم أنه لا يزال يستشعر الخطر؟
بالنظر إلى الواقع في قطاع غزة، ووفقاً للتقييمات المتواصلة، فقد تمكن العدو الصهيوني خلال الأشهر الماضية من إلحاق الأذى الكبير بالبنية التحتية، وقتل الآلاف من المدنيين، والذين وصل عددهم إلى ما يقارب 40 ألف شهيد، بالإضافة إلى ارتفاع حصيلة المصابين إلى ما يقارب 93 ألف جريح، ناهيك عن المفقودين تحت الأنقاض، وتدمير المستشفيات، والطرقات، وكل مقومات الحياة.
لكن بطبيعة الحالة لم يكن هذا هو الهدف الحقيقي لإسرائيل في عدوانها على غزة، فهي رفعت منذ اليوم الأول أهدافاً بعينها، وأبرزها استعادة الأسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وهدف آخر خفي يتمثل في تهجير الفلسطينيين من القطاع ونقلهم إلى صحراء سيناء، فلم يتحقق لها الهدف الأول ولا الثاني.
ففيما يتعلق بمسألة التهجير، عمد العدو الإسرائيلي على سبيل المثال إلى استهداف المدنيين، وقتل النازحين في جرائم بشعة لم يشهدها العالم من ذي قبل، مثل استهداف مخيم النصيرات للنازحين، وكذلك استهداف مخيم للنازحين في رفح، وتحديه لجميع قرارات الشرعية الدولية، وارتكابه لمجزرة بشعة في حي “تل السلطان” في شمال غرب رفح، وهي جرائم وصفها الكثير من الناشطين الحقوقيين بالإبادة الجماعية.
ووفقاً للاعترافات الإسرائيلية فإن ما لا يقل عن 70 طن من المتفجرات، أي ما يعادل 3 قنابل ذرية أطلقت منذ بداية العدوان الصهيوني على القطاع، حتى بداية العام الجاري، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الحروب إذا أخذنا بعين الاعتبار مساحة قطاع غزة البالغة 365 كيلومتر مربع.
ومع كل هذا القتل والتنكيل بالمدنيين، إلا أن سكان غزة سجلوا أروع ملاحم الصمود والثبات، وأفشلوا مخطط العدو في التهجير، مؤكدين ثباتهم على الأرض مهما كانت التحديات.
المواجهة من المسافة صفر
وفي الجانب الآخر لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرة على المواجهة من المسافة صفر من داخل أكثر المناطق التي تعرضت للتدمير والقصف بالصواريخ، والتي أعلن الاحتلال أنه سيطر عليها وقضى على قدرات حماس العسكرية فيها.
هنا لم يكن العدو يتوقع أن معركته في غزة ستطول هذه المدة، لأكثر من 10 أشهر، ومع ذلك لا يزال يتلقى الصفعات الموجعة في الميدان، حيث تواصل فصائل المقاومة تنفيذ عمليات نوعية تلحق خسائر بجيش الاحتلال، وكلما طالت المعركة، تعرّض العدو لضربات أقسى وأكثر احترافية من قبل المقاومة، مع الحفاظ على قدرة تراكم المعرفة والخبرة الميدانيتين، والتي كان لهما بالغ التأثير في أدائها وإفشال العدو ومخططاته.
ونتيجة لذلك فشل العدو على كل المستويات، فعلى الصعيد السياسي زادت حدة الانقسامات والصراعات السياسة داخل كيان الصهيونية، إلى جانب الضغط الدولي والاقليمي عليه للتنازل ووقف الحرب، وضربت صورته على الساحة الدولية، ناهيك عن فقدان الروح المعنوية للجيش وللمستوطنين، وارتفاع معدلات الأمراض النفسية في الكيان والشعور بعدم الأمن، وانتهاء عقيدة أن الكيان هو الملاذ الآمن لليهود على الصعيد النفسي.
أما في الجانب الاقتصادي، فقد شكل العدوان على قطاع غزة صدمة على اقتصاد الكيان، حيث يقدّر الأثر المالي للحرب بنحو 150 مليار شيكل” 40 مليار دولار تقريباً” في 2023-2024 على افتراض انتهاء القتال العنيف خلال الربع الأول من العام الحالي، حيث أن التكلفة اليومية بمعدّل مليار شيكل، في ظل تراجع التصنيف الائتماني للكيان وعجز الميزانية وارتفاع الديون، وتراجع البورصة وهروب المستثمرين.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد كثرة الانقسامات الداخلية وارتفعت معدلات الهجرة العكسية، وهناك تفكك للوحدة الوطنية، وتراجع الدعم والثقة بحكومة المجرم نتنياهو وبالقيادة العسكرية.
مكاسب المقاومة
وعلى الرغم من تدمير معالم الحياة في قطاع غزة، واستهداف البنى التحتية فيها بشكل كامل وفي مختلف المجالات، وانتهاج العدو لاستراتيجية الضغط على المدنيين من خلال القتل والتجويع في تحقيق الأهداف السياسية للعدو، فقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها قوّة ضخمة وعصيّة عن الكسر مقابل القدرة الكليّة للعدو الصهيوني الذي لم يحقق أية نتيجة.
ومنح صمود المقاومة الفلسطينية مكاسب كثيرة، أولها النصر العسكري الذي حققته المقاومة وحفاظها على وجودها وقدراتها العسكرية، رغم قسوة العدوان، وشدة القصف الإسرائيلي، وكذلك تحقيق نصر سياسي للمقاومة، تمثل في الحفاظ على حكمها لغزّة وكذلك تعزيز وجودها بالمفاوضات كلاعب رئيسي وحاسم، بالإضافة إلى صمود المقاومة والشعب الفلسطيني رغم استراتيجية التدمير والقتل والإبادة كنصر نفسي حققته المقاومة، ناهيك عن اشتراط فصائل المقاومة وقف الحرب برفع الحصار وإعادة الإعمار، وهو ما يمكن وصفه بنصر اقتصادي، إلى جانب تماسك الشعب الفلسطيني والتضامن المجتمعي لأهالي غزّة والتمسّك بخيار المقاومة بتماسك ونصر اجتماعي.