خَلْطُ المصطلحات المتقاربة بالدلالة، والمشتركة بعدة جوانب ليس أمراً عادياً، ولا هو محض صدفة، بل جزءٌ من إجراءات ممنهجة تصبُّ في خدمة السياسة المعتمدة من هذا الطرف أو ذاك، ويدرك المتابع المهتمّ بتطور الأحداث وتداعياتها المتشابكة أن التعامل الإعلامي مع زحمة المصطلحات المستخدمة في الآونة الأخيرة مشكلة قائمة بحدّ ذاتها، وتخفي وراءها العديد من الأخطار الجوهرية بذريعة الأولويات التي يُعاد ترتيبها وتسويقها لخدمة الهدف نفسه، فالردع شيء، وقوة الردع شيء آخر، وفقدان هيبة الردع أو العمل لإعادة فرضها جانب ثالث ورابع، وهلمَّ جرَّ.
وقبل البدء بالبرهنة على صوابية ذلك أذهب مباشرة إلى الخلاصة والنتيجة التي يهمّني إظهارها، وأترك للقارئ الحكم على صحتها أو خطئها، ومضمونها: (إذا كانت ملحمة طوفان الأقصى قد أدّت إلى تآكل هيبة الردع الإسرائيليّ، فحتميّة الردّ على اغتيال الشهيدين القائدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر (السيد محسن) في طهران وبيروت ستؤدي بالضرورة إلى كسر الردع الأميركي، وتراجع قدرة واشنطن على فرض السيطرة والهيمنة والنفوذ إقليمياً ودولياً)، ولهذا تستميت إدارة بايدن بكل السبل الممكنة للحيلولة دون تنفيذ الردّ، بما في ذلك إراقة ماء الوجه ـــ إن كان ما يزال لديها بقية من ذلك ـــ فالمهم والأهم اليوم الحيلولة دون الرد لضمان تخمير فكرة استعادة هيبة الردع في الأذهان وطرائق التفكير، وإعادة تقطيرها وتقديمها للمدمنين كمنتج جديد.
وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض الأفكار لضمان فهم حقيقة ما يجري، ومنها:
يتلخّص مفهوم الردع بأنه مجموعة التدابير والإجراءات التي يعتمدها طرف ما لديه العديد من عوامل القوة الذاتيّة والشاملة لفرض إرادته على طرف آخر، وإلزامه بقبول ما يريده مالك تلك القوة، والاضطرار للتعامل وفق ما يتمّ تبلوره من قواعد للردع المفروض، وهي قابلة للتغيير والتعديل إذا استطاع الطرف المستهدف تحمّل تداعيات رفض الانصياع للردع، والبدء بمقاومته، أيّ أنّ مجرد التفكير بالمقاومة يمثل الخطوة الأولى في كسر الردع المفروض.
التخوّف من إمكانية كسر الردع المرفوض دفع أنصار القوة إلى ابتكار مصطلح جديد «هيبة الردع» وهو لا يقتصر على ضمان الامتناع عن رفض الردع المفروض، بل يتجاوز ذلك بخطوات جوهرية تتضمن مصادرة إمكانية التفكير بالمقاومة، لليقين بعدم الجدوى وفداحة التكلفة والضريبة.
وهذا يفسّر الإفراط في الوحشية الإسرائيلية، وارتكاب أفظع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية لتزرع في العقل الباطن لشعوب المنطقة اليقين بعقم المقاومة، ودفع الشريحة الأوسع من الشعوب لتفادي الاصطفاف إلى جانب حركات المقاومة ثقافة ونهجاً وأنموذج حياة، فمجرد التفكير بإمكانيّة رفض ما يُراد فرضه يعني انطلاقة مسيرة كسر الردع، وتدحرج الكرة على سطح شديد الانحدار، وهذا ما رسخته حركات المقاومة بمختلف مسمّياتها، وبدرجات متفاوتة.
لن تعدم واشنطن وتل أبيب الوسائل اللازمة لإعادة فرض الردع وهيبته إذا تمّ تمرير ما يغلي الآن في القدور على نار حامية لا أحد يستطيع التنبّؤ بلحظة زيادة الضغط على الأغطية التي كانت محكمة الإغلاق، لكنها لم تعد كذلك بفضل قدرة أقطاب محور المقاومة على كسر العديد من حلقات الردع، وقسم كبير منها لم يكن موجوداً إلا بشكل وهمي جراء نجاح قوى الغطرسة في تهيئة البيئة المناسبة لزرعه في التفكير الجمعي للشعوب والدول، ولم يعد صالحاً للاستخدام، ليس فقط بسبب انتهاء فترة الصلاحيّة، بل لأنّ ما أنجزه الفعل المقاوم نجح في تغيير الكثير من القناعات المفصلة مسبقاً، وبلسم الأماكن التي أصابها التشويه المتعمّد في الوعي الجمعي، وحصّنها بلقاحات مجرّبة ومضمونة النتائج.
أحد أهمّ أسباب الدعم الأميركي اللامحدود لعدوانيّة حكومة نتنياهو، والمشاركة الفعليّة حتى في تفاصيل المواجهة المفتوحة منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي مردّه إلى التخوف المتنامي من تسارع تآكل هيبة الردع الأميركية. فالأمر لا يخصّ تل أبيب وحدها، بل يترك تداعياته الحتمية على النفوذ والسيطرة الأميركية إقليمياً ودولياً.
وبغضّ النظر عما يتمّ ترويجه في الإعلام، وعما يصدر من تصريحات على ألسنة المسؤولين الأميركيين من غير القابل للاقتناع بأنّ الحماقة الأكثر رعونة التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال قد تمّت من دون علم واشنطن، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، وأزعم بالتحليل أنّ تفاصيل اغتيال هنية في طهران، والسيد محسن في الضاحية الجنوبية قد مُهرت بخاتم مؤسّسات البيت الأبيض «الأسود» في واشنطن قبل التنفيذ، بهدف استعادة هيبة الردع الإسرائيلية التي تقود بالضرورة إلى استعادة إحكام القبضة الأميركية والسيطرة على ما تفلّت منها من مفاصل صنع القرار الكوني.
وهذا يفسّر حمى التحركات في السر والعلن للحصول ولو على أيّ تصريح شفهي من طهران أو الضاحية الجنوبية بإمكانية التفكير بما يتم طرحه كمقدمة للعدول عن الرد، أو تعديل بعض التفاصيل.
لغة التهديد والتهويل من حجم الردّ على الردّ على العدوان الموصوف لا يغيّر من جوهر ما تبلور على أرض الواقع من حقائق حتى الآن، والإعلان الرسمي الأميركي وعلى لسان بايدن وبقية أركان إدارته من عسكريين وأمنيين ودبلوماسيين وغيرهم، وتأكيد الجميع على الالتزام بالأمن «الإسرائيلي» وحتمية الدفاع عنه في أي قصاص يفرضه أقطاب محور المقاومة لا يغيّر شيئاً على أرض الواقع، فالتهديد والوعيد والتكشير عن الأنياب ونفخ الصدور والعضلات وتعريض الاكتاف باستحضار البوارج والأساطيل وحاملات الطائرات وتحرّك الجحافل ونقل القوى والوسائط وكلّ ما شابه ذلك لا يهز شعرة لدى أحدث مقاوم.
بل على العكس يمكن أن يُفْهَم من هذه الاستعراضات أنها اعتراف رسميّ وعلنيّ بعجز الكيان عن حماية نفسه، واعتراف بفداحة الأضرار والخسائر التي لحقت به وما تزال، إلى درجة اضطرار كل من يدور في الفلك الصهيوني للاستنفار دفاعاً عن وجود الكيان الوظيفي الذي فشل في الاستمرار بذاك الدور المسند إليه، وأضحى استمرار وجوده مرهوناً بحماية يوفرها الآخرون، والجميع مقتنع أن استمرار الحال من المحال.
اللوحة بدأت تتبدّل معالمها العامة منذ لحظة الإعلان عن حتميّة الردّ على العدوانيّة الإسرائيلية المتوحّشة، وتعهّد سماحة المرشد الأعلى للثورة الإسلاميّة سماحة الإمام الخامنئي بالردّ المؤلم على رعونة حكومة نتنياهو وإجرامها باغتيال إسماعيل هنية في طهران، وهو ضيفها وفي حماها، وكذلك الأمر عند حزب الله وإعلان الموقف الرسميّ على لسان سماحة السيد حسن نصر الله بحتمية الردّ على اغتيال القائد الجهادي فؤاد شكر (السيد محسن).
ولسحب البساط من تحت أرجل المزاودين ومدّعي الحرص على لبنان تحت شتى العناوين كان القرار الحكيم بالفصل بين موقفين أساسيين: موقف حزب الله كجبهة مساندة لغزة، وربط تطوّر الأوضاع الميدانية حِدّةً أو انخفاضاً بجبهة غزة، والموقف الآخر المتعلق بحتمية الردّ القاسي والمؤلم على اغتيال السيد محسن. وفي هذا التفصيل الدقيق كلمة الفصل التي يقتنع الإسرائيليون أنها نافذة مهما كانت النتائج والتداعيات.
وهذا يعني فرض هيبة الردع على تل أبيب التي لم تكن تتورّع سابقاً عن الاجتياح البري لو أنّ أيّ مسؤول لبناني تجرّأ على الحديث بالتفكير في جدوى الردّ على العدوان الإسرائيلي، ومنذ أن اشتد عود المقاومة تغيّر الخطاب، واليوم يفرض حزب الله خطاباً ردعياً بامتياز، ويفرض قواعد الاشتباك التي تقرّها المقاومة، وأي تفكير بخرق تلك القواعد يعني ازدياد الضريبة على الداخل الإسرائيلي، والواقع القائم خير شاهد على صحة ذلك.
يدرك المتابع للإعلام الإسرائيلي المكتوب والمقروء والمرئي أنّ تداعيات الإعلان عن حتمية الردّ أدخلت الكيان بكليته في حالة من الاضطراب والتوتر وازدياد الشروخ والتصدعات الداخلية، وأصابت عجلة الحياة اليومية الاقتصادية والمجتمعية بشبه شلل وتخوّف متزايد من لحظة الإعلان عن بدء تنفيذ الردّ. وهذا يعني أنّ هذا الواقع المستجدّ والمفروض على الداخل الإسرائيلي جزء من الردّ، وقد تكون إطالة أمده كثيرة الجدوى والمردودية، ومساهمة بشكل أو بآخر في تهيئة البيئة المطلوبة لضمان تحقيق جميع الأهداف المرجوة من الردّ قبل تنفيذه.
خلاصة
موعد الردّ وحجمه واتجاهاته وشدّته وعمقه والأهداف المحمّلة على الوسائط اللازمة، وكل ما شابه ذلك وتعلق به يبقى أمراً ذاتياً يخص بعض قادة المقاومة من الصف الأول وحسب، وكلّ تكهّن أو ادّعاء بمعرفة أي تفاصيل تتعلق بهذا الأمر يبقيان كلاماً عبثياً لا يقدم ولا يؤخر، وإذا كان العنوان الجديد الذي حمله معه نتنياهو من واشنطن يظهر الغبطة والرغبة بترجمة المشاركة الأميركية لحكومته في الإجرام والعدوانيّة، وتعمّد فرض مبدأ التفاوض تحت النار، فموقف أطراف محور المقاومة نسف مبادئ واشنطن وتل أبيب من الجذور، ونجح في بلورة مبدأ جديد بقرن القول والعمل وفرضه على مَن فقد الردع وهيبته، ومضمونه: «حتمية الرد»، ومَن يرغب بإيجاد مخارج معقولة وممكنة عليه استبدال «سياسة التفاوض تحت النار» بسياسة «القبول بالتفاوض تحت التهديد المستمر» بعد تنفيذ الرد الحتميّ والمؤلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
د. حسن أحمد حسن
باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية