خلال يومي 21 و 22 من الشهر الجاري، تابع كثيرون جولة المحادثات الثانية التي رعتها بكين على مدى يومين للمصالحة الفلسطينية بمشاركة ممثلين من جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها “فتح وحماس”، أملاً في إنها الانقسام العاصف بالشعب الفلسطيني منذ 17 عاماً، بالرهان على الميزات الجديدة التي تملكها الصين لحلحلة هذا الملف والتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة، ولا سيما بعد قرار الكنيست الإسرائيلي منع إقامة الدولة الفلسطينية.
البيانات الصادرة عن حركتي «فتح وحماس» التي أعلنت فيها المشاركة في محادثات المصالحة والتعاطي الإيجابي مع جهود الصين لتوحيد الصف وإنهاء الانقسام الفلسطيني أشاعت الأمل بانفراج وشيك للأزمة، سيما في ظل الزخم الدولي المؤيد للقضية الفلسطينية وما أفرزته حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة من تحديات وجودية جعلت جميع الفصائل الفلسطينية هدفا لمشاريع الكيان في التدمير الشامل والتهويد والتهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
ويُنتظر أن تشهد بكين جولة حوار سياسي ثانية تواصلا لجهود سابقة رعتها بكين في أبريل الماضي وتناولت وفقا لبكين ملفي المصالحة السياسية واليوم التالي لانتهاء حرب غزة، على أمل أن يتم خلال هذه المحادثات إحراز اختراق في نقاط الخلاف التي حالت دون تحقيق المصالحة في العديد من المؤتمرات واللقاءات التي رعتها دول عربية وأجنبية خلال السنوات الماضية.
وقد أثارت هذه الجولة من المحادثات التساؤلات عن إمكانية نجاحها في تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني خصوصا وأن نبرة التفاؤل الصيني التي سادت محادثات الجولة الأولى في أبريل والتي قالت الصين إن الفصائل أجرت خلالها «حواراً معمقاً وصريحاً» لم تنعكس على مواقف حركتي «فتح وحماس» اللتين التزمتا الصمت حيالها وسط اتهامات متبادلة ظهرت بشأن عدم الجدية، ما عزز التكهنات لدى الشارع الفلسطيني بأن الجولة الجديدة لن تكون أكثر من إجراء بروتوكولي دون نتائج ملموسة.
مع ذلك، ثمة آمال في أن تلعب الدبلوماسية الناعمة للصين دورا محوريا خلال هذه الجولة بانتزاع التنازلات وتعزيز أجواء الثقة والتأسيس لمسارات جديدة تهيئ المناخ لمصالحة وطنية فلسطينية بعد أن صار هذا الهدف متصدرا أولويات جميع الفصائل الفلسطينية في ظل التعنت الإسرائيلي الرافض لأي تسويات تحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية وتصعيده الخطير بمصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون منع إقامة الدولة الفلسطينية.
ما يدعو لذلك أن بكين المتفائلة كثيرا في هذه الجولة تبدو قد استخلصت معطيات مهمة في اللقاء الذي استضافته في أبريل الماضي وجمع ممثلين من حركتي «فتح وحماس» وتسعى اليوم عليها للدفع قدما باتجاه تفاهمات مشتركة تقود إلى مصالحة مستقبلة، خصوصا وأن احتفاظ الصين بعلاقات مع الكيان قد يمنحها فرصا إضافية لإنجاح أي توافقات باتجاه إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أسس الحوار.
أكثر من ذلك فإن الجهود الصينية الحالية تتمتع بمزايا جيدة في جانبي التوقيت ومستوى التمثيل، ناهيك بالميزة المضافة المتمثلة بقدرة الوسيط الصيني على سد الفجوات سيما وأن اللقاء المرتقب للفصائل الفلسطينية سيتيح للمسؤولين الصينيين إدارة حوارات ثنائية مباشرة مع كبار قادة الفصائل في قضية هي في الواقع موضع إجماع وفي ظل رغبة أكثر الفصائل عدم الخوض في التفاصيل المعززة لحالة القطيعة والانقسام الذي تعانيه الساحة الفلسطينية بوجود حكومتين الأولى في الضفة الغربية تقودها السلطة الوطنية الفلسطينية والثانية في قطاع غزة تقودها «حماس».
هذا المعطى على ما يبدو شجع الوسيط الصيني على اعتماد آلية جديدة بتوسيع دائرة الحوار ليشمل سائر الفصائل الفلسطينية بما فيها حركتا «فتح» و«حماس» أملا في التأسيس لتفاهمات مشتركة تحظى بإجماع وتتخطى إمكانية التأثير عليها من أي فصيل وتحصينها من الوقوع في خندق الخلافات الذي طالما عرقل مسار المصالحة في سائر المبادرات الإقليمية الدولية السابقة.
وقد عبّرت عن هذا التوجه تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان الذي أكد أن بكين «تدعم كل الأطراف الفلسطينية في هدف تحقيق المصالحة والوحدة عن طريق الحوار والتفاوض وأنها مستعدة لتوفير الفرص لتحقيق هذا الهدف».
سقف منخفض
خلافا لجولة الحوار الأولى التي احتضنتها الصين في أبريل الماضي بدت القيادة الصينية هذه المرة متفائلة تجاه الهدف الصعب الذي وضعته لتحقيق المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح وحماس» خصوصا بعد إعلان بكين استعدادها لتهيئة الأجواء اللازمة لتحقيق التوافق والمصالحة.
ورغم التمثل الرفيع المستوى المعلن عنه لوفدي حركتي « فتح وحماس» في هذه الجولة وتأكيدهما الجدية في الوصول إلى تفاهمات تنهي حالة الانقسام وتعزز الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات، إلا أن التقديرات تقلل من سقف التوقعات من هذه الجولة في ظل القيود التي تكبل الفصيلين في الوصول إلى تفاهمات نهائية لإنهاء الانقسام.
لكن الحديث عن خطوات جدية لمصالحة نهائية تنهي الانقسام على أرض الواقع ليس أكثر من أمنيات بعيدة المنال في الوقت الراهن على الأقل، فالتركة الثقيلة للخلافات وحالة انعدام الثقة القائمة تقلل سقف التوقعات بما يجعل من هذه الجولة خطوة مهمة لخفض التوتر بين الجانبين، بعد أن شهدت العلاقات بينهما تصعيدا خطيرا خلال الشهور الماضية للحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة.
والثابت أن تعقيدات المشهد السياسي الفلسطيني وتباين الرؤى والمواقف والبرامج السياسية بين حركتي «فتح وحماس» يكفي بحد ذاته للتقليل من فرص إحراز أي تقدم في هذا الملف الشائك خلال جولة المباحثات الجديدة، غير أن استئناف اللقاءات والتصريحات الإيجابية التي ظهرت حتى الآن تشير إلى إمكانية حدوث اختراق ما في جدار الأزمة قد يؤسس لخطوات جديدة لترتيب البيت الفلسطيني.
يشار في ذلك إلى عقبات داخلية عدة تتصدرها حالة التوتر المرتفعة بين حركتي فتح « و»حماس» والاتهامات المتبادلة والتهديدات التي ظهرت إلى السطح خلال الشهور الماضية على خلفية الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والشحن الإعلامي والسياسي بين الفصيلين بما أحدثه من انقسام في الشارع الفلسطيني الذي يعيش حالة إحباط من إمكانية التوصل لاتفاق بين حركتي فتح وحماس بشأن تحقيق المصالحة.
وعلاوة على العقبات الداخلية ثمة عقبات دولية قد تحول دون تحقيق الهدف، ولا سيما في ظل الضغوط الأمريكية المنزعجة من التحركات الصينية والروسية في ملف القضية الفلسطينية الذي تحتكره واشنطن منذ عقود في ظل انحيازها الأعمى للاحتلال الإسرائيلي.
تاريخ حافل
يسود الانقسام الساحة الفلسطينية منذ أن سيطرت حركة «حماس» على قطاع غزة في العام 2007م، بعد فوزها في الانتخابات عام 2006، في حين تصاعدت حدة الانقسام خلال السنوات الأخيرة لتبلغ حدا عجز فيه الفصيلان عن إيجاد أي قواسم مشتركة تقود لحلحلة الأزمة.
وقد فشلت العديد من المبادرات المحلية والدولية في مساعيها لرأب الصدع الفلسطيني خلال السنوات الـ 17 الماضية، حيث انخرطت حركتا «فتح وحماس» منذ العام 2007 في العديد من اللقاءات والمؤتمرات التي أثمرت عن اتفاقيات للمصالحة وإنهاء الانقسام، بدءاً من لقائي مكة والقاهرة ثم الدوحة والقاهرة وصولا إلى محادثات الجزائر في 2022 ولقاء العلمين المصرية في يونيو2023، وأخيراً محادثات موسكو وبكين 2024م، دون أن تُسفر عن خطوات عملية جادّة لتحقق هدف المصالحة وإنهاء الانقسام.
واستنادا إلى معطيات الداخل الفلسطيني وتعقيداته فإن القول بإمكانية نجاح الصين في قيادة مصالحة حقيقية بين الفصيلين تنهي الانقسام لا يزال أمرا بعيد المنال فحجم الخلافات لا يزال كبيرا للغاية، وقد فشلت معه جميع المبادرات الإقليمية والدولية السابقة لتصل مؤخرا إلى حالة القطيعة الكاملة.
وخلال جولات الحوار السابقة، لم تتمكن الفصائل الفلسطينية الرئيسية من إيجاد أرضية مشتركة في قضايا رئيسية كمقررات اتفاق أوسلو وخطط تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإصلاحات منظمة التحرير الفلسطينية، وأضيف إليها اليوم الخلافات الحاصلة بشأن مرحلة ما بعد حرب غزة، في ظل الضغوط الأمريكية التي تطالب بإنهاء حكم «حماس» على قطاع غزة شرطا لإنهاء الحرب والتآم البيت الفلسطيني تحت قيادة حركة «فتح» المقبولة دوليا لإدارة خطة ما بعد الحرب.
تقاطعات وفرص
رغم كل الميزات التي وفرتها الصين لجولة الحوار الحالية فإن التفاؤل الفلسطيني والعربي بشأن نجاحها لا يزال حذرا للغاية، بالنظر إلى حجم القضايا الخلافية وفي الصدارة قبول حماس بإقامة دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين والذي لا يزال حتى اليوم من أهم القضايا الخلافية في مسار جهود المصالحة.
ذلك أن حركة «حماس» ، اعتمدت منذ تأسيسها، استراتيجية عدم الاعتراف بإسرائيل وانتهاج الكفاح المسلح ومعارضة اتفاقات السلام الموقعة في أوسلو عام 1993، في حين لم يكف قادة «حماس» عن التأكيد في مناسبات عدة أن هذه الأمور محسومة وغير مطروحة للنقاش.
يضاف إلى ذلك الخلافات بشأن التسويات الانتخابية وتشكيل الحكومة وإدارة الحرب مع العدو الإسرائيلي وغيرها من القضايا الخلافية التي لا يمكن حلها في الوقت الراهن إلا بقبول الطرفين بالواقع الجديد الذي فرضته الحرب، والعمل من أجل الشراكة السياسية الحقيقية في القرار والحكم سواء في الضفة أو القطاع في حين أن ارتهان بعض الأطراف للمواقف الخارجية، وللمصالح الخاصة بحلفائهم الإقليميين لا يزال يمثل عائفا كبيرا أمام تحقيق المصلحة.
وفقا لذلك فإن التقديرات الواقعية تذهب إلى أن جولة المحادثات الثانية في بكين ستكون محطة مهمة على مسار تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية في ظل تعاظم دور الصين على المستوى العالمي وتبني بكين مواقف مؤيدة للدولة الفلسطينية المستقلة على قاعدة «حل الدولتين» في المحافل الدولية.
ذلك أن هدفاً كبيراً لتحقيق المصالحة وتوحيد الصف الفلسطيني يحتاج بالضرورة إلى كثير من المحادثات التي يصعب التكهن بأنها ستمضي قدما دون إسناد دولي، في ظل الصعوبات التي ستوجهها «فتح وحماس» لحسم خلافاتهما في ظل المناخ السياسي والأمني المضطرب على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية ولا سيما في قضايا مرحلة ما بعد حرب غزة وإصلاح منظمة التحرير وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
وأكثر ما يؤمل الوصول إليه من محادثات بكين الثانية، هو أن تفتح الطريق لمسار جديد من المفاوضات يمكن أن تقود إلى توافقات مستقبلية من غير أن يكون لها صدى على أرض الواقع في الوقت الراهن.
مع ذلك فإن وقائع الحرب الإسرائيلية المروعة في قطاع غزة بما أحدثته من خراب شامل ونزوح الملايين وامتداد الحرب الإسرائيلية إلى الضفة الغربية بما فرضته من معاناة شاملة للشارع الفلسطيني، يمكن أن تدفع بالفرقاء إلى خطوات متقدمة على طريق المصالحة وهو أمر تراهن الصين عليه بتقديم الطرفين تنازلات من شأنها تعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة الحرب الإسرائيلية التي تسعى للاستفراد بكل فصيل على حدة بما يحقق مشروعها في إنهاء الوجود السياسي الجغرافي والبشري الفلسطيني بصورة عامة.
يزيد من ذلك إدراك قيادات الفصائل أن استمرار الانقسام قد يؤدي إلى خسارة الدولة الفلسطينية للزخم الدولي الذي أحدثته المجازر الوحشية للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، سميا وأن أكثر الدول المؤيدة للقضية الفلسطينية تريد أن ترى فلسطين موحدة وليس مناطق جغرافية تحكمها أو تسيطر عليها فصائل، كما تدرك أن عدم الوصول إلى مصالحة وطنية في الوقت الراهن قد يزيد من تعقيدات أزمة فرض الوصاية الخارجية على قرار ومصير الدولة الفلسطينية.
___
الثورة نت