ينقص العلاقات بين بني سعود وبني صهيون مرحلتين للاكتمال، أولها شرعنة العلاقات الدبلوماسية وثانيها تطبيع العلاقات بين “الشعوب”.
ومهما اقتربت أو ابتعدت فرص الأولى تبقى فرص الثانية شبه منعدمة، وعليه تعمل “السعودية” على مسألة حساسة في أي مجتمع وهي اللعب على المقررات والمناهج التعليمية للأطفال لصناعة جيل جديد من الشباب وقد تعرض لحملة ممنهجة من غسيل الدماغ، قلبت موازين القيم التي كان المفترض أن يعتنقها أي شاب عربي مسلم من حيث العقيدة السياسية والقيمية والثقافية، التي تأتي القضية الفلسطينية والموقف من الاحتلال الإسرائيلي على رأسها.
أجرى معهد “مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي” (IMPACT-se) الصهيوني دراسة حديثة للكتب المدرسية في “السعودية” استعرضت 371 كتابًا دراسيًا منشورا بين عامي 2019 و2024، أولت اهتمامًا خاصًا لموضوعات العلوم الإنسانية، ولا سيما اللغة العربية، والدراسات الإسلامية والاجتماعية، والمهارات الحياتية والأسرية. والتفكير النقدي والجغرافيا والتاريخ والأدب.
في الوقت الذي يحتفي به الذباب السعودي باعتراف دول من الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين ناسبين ذلك إلى “جهودهم”، كشفت الدراسة أنه تمت إزالة “فلسطين” من الخرائط في عدد من الكتب الدراسية، وتركت المساحة خالية. كما أُزيلت التوصيفات التي تعبر عن معاداة للكيان الإسرائيلي من قبيل “العدو”، إلى جانب إزالة الجمل التي تتضمن توثيقا لتهجير الفلسطينيين بهدف احتلال أرضهم.
الكتب السعودية الرسمية بنسختها الجديدة، تشير إلى القدس الشرقية حصرا باعتبارها محتلة وعاصمة لفلسطين نسفا لأحقية الفلسطينيين بالقدس كاملة عاصمة لهم. إلى ذلك تقدم الكتب أمثلة عن ما تراه “أيديولوجيات دينية متطرفة”، زاجة بجماعة الإخوان المسلمين وحزب الله وحركة أنصار الله إلى جانب داعش والقاعدة، كجماعات حاملة لهذه الإيديولوجيا. كما تبين أنه جرى حذف جميع أمثلة الكراهية تجاه اليهود التي تم تحديدها سابقًا تقريبًا.
بالإضافة إلى ذلك، انخفض مستوى التصوير السلبي للكفار والمشركين، فتم إزالة الدلالات القرآنية التي تحرّم تأليه عيسى المسيح. ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية عن الرئيس التنفيذي للمعهد، ماركوس شيف، قوله إن “الكتب المدرسية السعودية المنشورة للعام الدراسي 2023-24 هي خطوة أخرى نحو تحويل المنهج إلى إطار تعليمي يشجع على المزيد من التسامح والسلام والمساواة”.
تنقيح آل سعود للمناهج الدراسية بما يتماشى مع المصالح الآنية لحكمهم ليس بالجديد، فقد كانت خطوات النظام السعودي لإحداث تغييرات في مناهج التعليم تأتي دائماً على وقع ضغوط أميركية واضحة ومعلنة، الهدف منها الحد من جحافل التكفيريين الذين يصدّرهم النظام السعودي إلى العالم، خصوصا بعدما بدأت الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وحلفاؤها معها، يعانون من إرهاب هؤلاء التكفيريين الذين ترعرعوا على الفكر الوهابي قبل أن يتفلتوا من أي سيطرة استخباراتية كانت تديرهم وتوجههم وتسهل لهم الانتقال إلى ساحات المعارك المفضّلة لدى النظام السعودي وحليفته واشنطن، مثل العراق وسوريا واليمن وقبلها أفغانستان وغيرها.
ومع توالي كشف ما تمّ حذفه من المناهج التعليمية، يتأكد أن الهدف ليس محاربة “التطرّف” الذي يدّعيه بن سلمان، بل هو استبدال معاداة الصهيونية والاحتلال بالتعايش والسلام معها.
وحتى آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية التي تتحدّث عن اليـهود تم حذفها من المناهج. وبذلك يكون ما يقوم به ابن سلمان من تغيير مناهج التعليم يرسخ مفاهيم تنافي تعاليم الإسلام وأخلاق العرب وتهدّد بتجريف مبادئ الأجيال وقيمها.
يسير النظام بسرعة بطيئة في تغييره لملامح الكتب المدرسية حتى لا يثير ضجة كبيرة، فبعد أن كا قد بدّل مصطلحَي ”الكيان الصهيوني” و” الصهيونية” واللذَين كانا متعمدَين في الكتب المدرسية الصادرة منذ عام 2019، بمصطلح” الاحتلال الإسرائيلي” في بعض الكتب الصادرة عام 2023، أقدم في الإصدارات الحديثة على حذف العبارات التي توصّف الكيان الإسرائيلي بالمعاداة.
لا تنكر دولة الاحتلال أن معركتها مع الشعوب هي معركة وعي لا معركة سلاح فقط، وأن المشكلة مع الشعوب لا مع الأنظمة، لذا، يحاول الكيان الصهيوني جر المنطقة إلى التطبيع التعليمي والتربوي والثقافي لأنه الباب الأوسع لدخولها إلى عقول الأجيال الجديدة، وبهذا يستطيع تليين حدّة الخطاب تجاهه والقبول به جسما طبيعيا ضمن هذه الجغرافيا التي تلفظه منذ 73 عاما.
يعرف الكيان الاسرائيلي هذا، وهو يرى أن المناعة الذاتية المستديمة لدى العرب خلقت صورة ذهنية “على غرار الطبقات الجيولوجية؛ يصعب جداً التحرر منها”، بحسب وصف رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، ولأجل ذلك فإنه بدون “اختراق الرأي العام العربي فإن السلام سيظل باردا”.
يُجري محمد بن سلمان التغييرات التربوية ليس تبعا لتبدّل ظروف الشعوب وتبعا لها تبدّل طموحهم، لكنه يُجريها تبعا لمستجدات حكمه وضروريات مرحلته التي يأتي التمهيد للتطبيع بين النظام السعودي والكيان الصهيوني على رأسها.