مقالي هذا كفر بالليبرالية.. وهذا الكفر هو أوقح هرطقة يمكن أن يسمعها المعاصرون.. لأن الكفر بالليبرالية أصبح في الأدبيات المعاصرة أقبح من الكفر بالله، فالكفر بالله مسألة رأي ورأي مخالف.. كذلك العفاف والشرف مسألة ثقافة وثقافة مخالفة.. لكن الليبرالية لا يتسع حولها خلاف لأنها صنم العصر.
لكي نستوعب الفكرة:
تخيل مثقفا يُروّج للشيوعية السوفيتية اليوم.. ربما ستتخيله مناضلا منبوذا لا يُبالي بالموضة ما زال يردد شعارات عفى عليها الزمن، لكنك تعلم أنه مهما كان عبقريا في طرحه فلن يكون له أي مستقبل سياسي ولا وزن اجتماعي ولا تأثير لأن زمن الشيوعية قد ولى.. لكن أليس من الجميل أن تسمع شخصا يطرح أفكارا مختلفة ويتصرف بطريقة مجنونة من باب التغيير وكسر الروتين؟
طائفة المثقفين المتأثرين بالاشتراكية انقرضت قُبيل انهيار الاتحاد السوفيتي وتلاشت تماما بعد التحول الرأسمالي للصين رغم أن هذه الفئة كانت مسيطرة على النخبة العربية عقودا من الزمن حتى ظن الجميع لبرهة أنها النقطة الأرقى للفكر الإنساني والتي لن يتناولها الشك ولن يتجاوزها فكر أو مبدأ..
انقرضت هذه الفئة لأن الناس لا يُراهنون على كرت محترق، فمعظم الناس يركبون الموجة الثقافية للأقوياء والمنتصرين إما تَوهُّماً منهم بأن ذلك هو الحق (لأنه منتصر وقوي) أو طمعا منهم في مستقبل سياسي مع العهد الجديد، لذلك تسمعهم يُرددون شعارات القوي المنتصر ويغازلونها حتى ولو كانوا أبعد الناس عن هذه الشعارات قبل أن تنتصر وتسيطر!
اللبيرالية هي الإيمان بالحريات الأربع: الحرية السياسية – الحرية الشخصية – الحرية الفكرية – الحرية الاقتصادية وما ينبثق عن ذلك من مقولات تسود عالم اليوم مثل “الديمقراطية” – “حقوق الإنسان” – “حرية المرأة” – “التعددية” – “رفض العنصرية” – “التعبير عن الرأي” – وغير ذلك من الشعارات المتداولة..
تسعينات القرن الماضي كانت فترة ذهبية لليبرالية تناسبت مع البريق الحضاري للمجتمع الغربي والهيمنة المطلقة على العالم اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وثقافيا..
النخب العربية بدورها رفعت شعارات الليبرالية حتى أصبحت قيما عليا بالنسبة لجيل التسعينات الذي يُشكّل اليوم واقعنا الفكري والاجتماعي حيث وصل غسيل الدماغ الجماعي إلى عدم الشك مطلقا في صحة قيم الليبرالية أو في كونها قيما عليا يُقاس عليها كل شيء.. يكفي أن تقول “هذا يتعارض مع حقوق الإنسان”.. “هذا غير ديمقراطي”.. “حقوق المرأة”.. “التعبير عن الرأي”.. “حرية الاعتقاد”.. كي يبدأ الطرف الآخر بالدفاع والتبرير خشية من خسارة الرأي العام والظهور بمظهر المتخلف الذي يعيش خارج سياق التاريخ.. لقد بلغ الحد أن أصبحت هذه القيم الليبرالية خلفية ذهنية تُهيمن على العقول وتؤطر تفكير الناس..
حتى الدين رغم قدسيته المتأصلة في نفوس المسلمين كان يُقاس بقيم الليبرالية، وما لم يوافق الليبراليةَ منه فهو مستهجن ممجوج لا بد من تغييره أو إعادة تفسيره بطريقة ليبرالية حتى يبقى مقبولا ولا يخجل المسلمون من فعله أو قوله أو اعتقاده!
لكن الليبرالية اليوم لم تعد كما كانت في التسعينات.. المجتمع الغربي بنفسه ينقلب عليها.. هناك حراك يميني شعبوي يتصاعد مناهض لليبرالية يحصد أصوات الأغلبية في انتخابات عدد من البلدان الغربية.
لكن رغم كل تلك التغيرات ما زال كثير من المثقفين العرب عالقين يرددون شعارات الليبرالية باعتبارها قيما عليا لا يتناولها الشك يحددون بموجبها مواقفهم ويبنون عليها تحليلاتهم وتوقعاتهم ويقيسون بها كل شيء رغم إن التطورات توحي بأن الزمن قد تجاوزها..
يا لها من مفارقة.. الليبرالية نفسها والتي تقوم على فلسفة مادية “نفعية” تُدين تقديس الأفكار وجمودها وتحث الليبراليين على أن يُطوروا خطابهم ويُعيدوا ضبط ساعات قيمهم العليا ليُسايروا مزاج الأغلبية ويُواكبوا المتغيرات وإلا فإن الزمن سيتجاوزهم كما تجاوز غيرهم.
لكن أين وصلت الليبرالية؟
الليبرالية التي بدأت بشعار الحرية انتهت اليوم بترويج المثلية..
الليبرالية التي بدأت بالإيمان بالتعددية أصبحت اليوم أيديولوجية متطرفة للشواذ تُسخّر إمكانات دول لتربية الناس على الشذوذ وتفرضها على الأسوياء وتضطهدهم رغم أنهم هم الأكثرية بحيث أصبحت في تطرفها وإرغام الناس على معتقداتها أوقح من الأديان..
وقبل الشذوذ فعلت ذلك حين روجت أيديولوجياً للرذيلة والانحلال الأخلاقي!
وقبل الشذوذ فعلت ذلك حين روجت أيديولوجياً لعقوق الوالدين وتفكيك الأسرة من الداخل!
وقبل الشذوذ فعلت ذلك حين روجت أيديولوجياً للنسوية فأصبحت الأسرة هدفا ثانويا ومجرد كماليات اختيارية في المجتمع!
وقبل الشذوذ فعلت ذلك حين فرضت الديمقراطية على دول وثقافات وشعوب كانت تنعم بنوع من الأمن والاستقرار فدمرتها!
وقبل الشذوذ فعلت ذلك حين روجت أيديولوجياً للإلحاد وضربت الأساس الفلسفي للأخلاق وقوضت الأمل البشري بالعوض والقصاص في الآخرة!
لقد أصبحت الليبرالية بإصرارها على تحدي فطرة الإنسان وتغيير الواقع الديمغرافي للعالم أيديولوجية مثل المذاهب الدينية المتطرفة..
منعوا ارتداء الحجاب منعا أيديولوجياً بينما لا مشكلة في التهتك والمجون والجنون
جرّموا تعدد الزوجات تجريما أيديولوجياً بينما لا مشكلة في تعدد العلاقات العابرة (الزنا)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استغل هذه الحقائق فأعلن استنكاره لغطرسة الليبرالية الغربية وإصرارها على التدخل في خصوصيات الشعوب وثقافاتها ساخرا من سياسة فرض الشذوذ عبر المنظمات والمؤسسات التربوية والفنية والرياضية.. ثم أبدى انحيازه لقيم الأسرة وللفطرة البشرية السوية واحترامه للأديان السماوية وأوحى أن كل ذلك هو جزء من معركته مع الغرب الذي ظهر مترنحا بعد ٤ مستجدات:
1- انحسار الديمقراطية:
يوم 4 مارس 2018 قال دونالد ترامب خلال اجتماع مع المانحين للحزب الجمهوري بولاية فلوريدا: “الرئيس الصيني شي جين بينغ أصبح للتو رئيسا مدى الحياة، أعتقد أنها فكرة عظيمة.. ربما نجرب نحن الأمريكيون أن يكون لنا رئيس مدى الحياة يوما ما”.
إعلامي نرجسي ملأ الصحف الصفراء والمحاكم بالفضائح الأخلاقية ثم أصبح بفضل الديمقراطية قائدا للغرب المتحضر ورئيسا لأقوى دولة في العالم..
هذا المستهين بالبيئة الذي لا يُبالي بخطر الاحتباس الحراري ولا بمستقبل الكرة الأرضية الذي ارتكزت حملته الانتخابية على فكرة بناء جدار عنصري يفصل بين أمريكا والمكسيك وعلى حظر المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارهم إرهابيين.
هذا الترامب الذي رفض التخلي عن الرئاسة بعد انتهاء فترته وتسبب في أحداث “الكابيتول” التي صعقت العالم ودنست الصورةَ المثالية للديمقراطية في عاصمة الديمقراطية وظن الجميع أنه قد انتهى سياسيا في ظل القيم الأمريكية..
ترامب الذي تسبب وصوله إلى البيت الأبيض في اتهام رسمي أمريكي لروسيا بأنها تدخلت في الانتخابات الأمريكية ونجحت في تزويرها فدنس الأمريكيون بنفسهم نزاهة انتخاباتهم..
ترامب الذي تسبب خروجه من البيت الأبيض في انقسام المجتمع الأمريكي والطعن مجددا في نزاهة الانتخابات الأمريكية ونزاهة القضاء الأمريكي ونزاهة الإعلام الأمريكي..
ترامب الذي عاش طول فترة حكمه فضائح مدوية وصراعا مريرا مع الدولة الأمريكية العميقة والمخابرات CIA ومع وسائل الإعلام ومع القيم الأمريكية وظن الجميع أنه قد انتهى سياسيا ها هو الآن في 2024 المرشح الأبرز للفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية والعودة إلى البيت الأبيض..
هذا التدنيس المتكرر للديمقراطية في قلب الديمقراطية النابض هو دعاية سلبية للديمقراطية وهي التي وصفها بعض الفلاسفة قديما بـ”سلطة الغوغاء” ويصفها فيلسوف أمريكي معاصر اسمه “بيتر شيف” بأنها انقلاب على جوهر النظام الجمهوري الذي تأسست عليه أمريكا..
الديمقراطية التي قد تُوصل إلى الرئاسة شخصا جاهلا عنادُه العقيم يُعادلُ عقلَ طفل في الصف الخامس الابتدائي، حسب وصف وزير الدفاع الأمريكي ماتيس..
أذكر أني شاهدت تقريرا إخباريا ساخرا يُبرر تعيين الرئيس الصيني رئيسا مدى الحياة رفع فيه الصينيون دمية على شكل ترامب وكتبوا عليها “هل تريدون ديمقراطية تُوصل لكم مهرجا مثل ترامب ليقود الصين؟”
ألم يصل هتلر عدو الأنظمة الديمقراطية عبر الديمقراطية إلى قصر الرايخ؟
ألم تصل حماس إلى حكم غزة عبر الديمقراطية؟
ألم تقم شرعية الجمهورية الإسلامية في إيران عبر استفتاء شعبي ديمقراطي؟
أليست هذه الديمقراطية هي نفسها التي ستُعيد ترامب إلى البيت الأبيض في 2024 بعد أن طعن الديمقراطية في قلبها بدبوس مسموم؟
لكن ترامب لن يعود إلى البيت الأبيض كما كان عام 2016 منبوذا ضعيفا وحيدا محط سخرية، بل سيعود هذه المرة أقوى وأكثر جدية بزخم شعبي هائل ومشروع سياسي جريء بحيث لا يمكن هذه المرة ابتزازه ولا تخويفه مما قد يتيح له فرصة لتنفيذ تغييرات ثورية قد تُغير وجهَ أمريكا فتخلق تناقضات حادة داخل المجتمع.
2- انحسار حرية الرأي – مصداقية وسائل الإعلام:
بعد أن وجّه القضاءُ الأمريكي اتهاما جنائيا لترامب في أغسطس 2023 صرح قائلا: “انهم يلعبون معي لعبة مطاردة الساحرات والهدف هو منعي من الترشح وإسكاتي، هذا هو الاضطهاد السياسي”.. وبنفس الطريقة يلحظ جميع مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي القيودَ المفروضة والتي تحظر أي منشور وردت فيه كلمة “شهيد” أو “إسرائيل” أو غيرها من الألفاظ التي يتم رصدها تلقائيا عبر الذكاء الاصطناعي ثم طمسها بحزم..
ومع اندلاع الحرب الأوكرانية تعامل الغرب مع الشعب الروسي بعنصرية حتى أن القطط الروسية لم تسلم منهم، كما تمت مقاطعة روسيا رياضيا ليتأكد الجميع حجم النفاق العظيم في شعار “لا ينبغي إقحام السياسة في الرياضة”.
ومؤخرا ما تشهده الجامعات الأمريكية من تنكيل بالاعتصامات المناهضة لحرب الإبادة في غزة، فهذا التنكيل طعن جوهر الحريات في بلد يتفاخر بأن صدره يتسع لكل الآراء وبأنه وطن الحريات لكنه لم يتسع لصوت أبنائه الرافضين للقتل والإبادة والتهجير.
كما أن جميع الاستطلاعات السابقة لانتخابات 2016 في قنوات إعلامية كان يظنها الجميع مهنية ودقيقة كانت تؤكد ضعف شعبية ترامب وخسارته المحققة في الانتخابات، ثم ثبت أنها كانت مسيسة ومُضلِلة، ثم في النهاية وجهوا طعنة نجلاء لحرية الرأي حين كمموا فم رئيسهم في تويتر وغير تويتر، وهو الذي كان لا يثق بالقنوات الإعلامية ويتهمها بالتضليل المتعمد ويتجنب التصريح فيها.
3- انحسار الدولار – العقوبات الاقتصادية – تحديات العولمة:
هيمنة الدولار تترنح وتكاد تسقط في أي لحظة حسب تصريحات خبراء وسياسيين أمريكيين وغربيين، لذلك فإن ترامب يهدد في حالة عودته للرئاسة بفرض عقوبات على الدول التي ستمس هيمنة الدولار..
لكن العقوبات الاقتصادية الغربية لم يعد لها تأثير، فروسيا مثلا أصبحت أقوى بعد العقوبات الاقتصادية الغربية، وإيران رغم العقوبات المستمرة منذ عقود والحصار التام لم تنكسر ولم تذهب للتطبيع مع إسرائيل ولم تُوقف برنامجها النووي ولا تطوير ترسانتها العسكرية ولا دعمها لحركات المقاومة!
اقتصاديا التجارة الحرة تستفيد منها الصين ويجب إعادة النظر فيها، فالأولوية ينبغي أن تبقى للمصلحة الغربية – الأمريكية وأي حرية لا تُغلّب هذه المصلحة يجب إعادة النظر فيها، هذه كانت أولوية ترامب.
وكذلك توقيع اتفاقية المناخ فهي تُقيّد الغرب وأمريكا في مجال الصناعات الثقيلة الملوثة للبيئة ولا بد من الانسحاب منها، وهذا ما فعله ترامب.
4- انحسار النسوية – النزعة الفردية – الحرية الجنسية:
المجتمع الغربي الآن ضعيف، يعيش حالة تفكك، يعيش حالة شيخوخة، معدل التكاثر فيه ينحدر بشكل مقلق، وهذه نتيجة طبيعية للعقلية الغربية فإذا كان الفرد يستطيع الحصول على لذة جنسية خالصة فما الذي سيدفعه للإنجاب وتكوين أُسرة؟
إذا كانت الدولة تُشجع على الشذوذ فكيف سيُولَد الأسوياء؟
إذا كانت الثقافة قائمة على النزعة الفردية فمن سيُضحي ويتقبل المسؤولية؟
إذا كانت المرأة مشغولة بالعمل خارج المنزل فمن سيُقيم المنزل ومن سيرعى الأبناء؟
هذا المجتمع من الطبيعي أن ينتهي هكذا ويتفكك تلقائيا دون حرب لأنه يحمل فيروس اندثاره داخل أفكاره.
“وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا”
(تنويه: حين بدأت مقالي بإعلان الكفر بالليبرالية كان غرضي هو لفت انتباه القارئ لرفض تقديسها وإدانة اعتبارها قيمة مطلقة، لكن لم يكن قصدي شيطنتها مطلقا أو احتقارها بالكلية، فالليبرالية فكر إنساني عظيم ساهم في دفع التاريخ البشري وله إضاءات إنسانية وإسهامات حضارية وجوانب إيجابية لا يمكن إنكارها).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد حسن زايد