بعد أن أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، الإثنين 26 فبراير 2024، احتجاجاً على ما يحدث من “إبادة جماعية” في غزة جاء الكشف عن وصية الضابط الأمريكي آرون بوشنل في التبرع بمدخراته لصندوق مساعدة أطفال فلسطين ليلقن العالم أجمع درساً كبيراً بأن القضية الفلسطينية لن تموت و خصوصاً لقادة الولايات المتحدة، الذين أعماهم النفوذ والمنصب وإرضاء المنظمات الصهيونية الداعمة لكيان الاحتلال في الولايات المتحدة، التي تدعم التطهير العرقي والإبادة الجماعية وطرد الفلسطينيين من أرضهم، عبر حشد وشحذ الدعم الرسمي الأمريكي للكيان الغاصب في عدوانه على العرب، وبقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي مشروعا استعماريا وذنبا للغرب في المنطقة.
صوت ظلم غزة من قلب الجيش الأمريكي
تحت عنوان وشعار «الحرية لفلسطين»، قام الشاب الأمريكي آرون بوشنل الضابط في سلاح الجو الأمريكي بحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ورغم كون هذا الحادث الثاني من نوعه بعد حادث مشابه لشاب آخر في ولاية جورجيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلا أنه يبقى حادثا غريبا جدا، من حيث الفعل كواقعة انتحار، ومن حيث الدولة التي وقع فيها الحدث، ومن حيث اختيار موقع الحدث نفسه، ومن حيث جنسية ومهنة القائم بهذا العمل.
في فعل الانتحار الأخير فضيحة للرئيس الأمريكي بايدن ليس فقط لأن القائم بهذا العمل هو من الجنود، بل الأهم من ذلك أنه من الشباب، وهم الفئة العمرية التي يراهن عليها بايدن في الفوز بولاية ثانية، وإن فعل الانتحار هذا نقلة نوعية كبيرة في وسائل الاحتجاج داخل أكبر دولة داعمة للكيان الصهيوني، ومن مؤسسة الجيش الداعم المادي له، ما يجعل أهمية استلهام العظة مما أقدم عليه الشاب المنتحر بأن هناك شعبا مقهورا يعذب، وآخرين يدعمونه، فهل يعى بايدن ومن على شاكلته أثر أفعالهم.
وصية الضابط الأمريكي
كشف صحفي أمريكي، أن الطيار الأمريكي آرون بوشنل (25 عاماً)، خصص مدخراته لأطفال فلسطين؛ بعد أن أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، الإثنين 26 فبراير 2024، احتجاجاً على ما يحدث من “إبادة جماعية” في غزة. وذكر الصحفي الأمريكي كويل لورانس، أن بوشنل، أعلن أنه خطط لوصيته بعناية فائقة مع منظمة خيرية عمل معها، كما أشار لورانس إلى أن بوشنل، خطط لعمله مسبقاً، قائلاً: “أعدّ وصية، وطلب التبرع بمدخراته لصندوق مساعدة أطفال فلسطين”، كذلك، أضاف إن بوشنل، رتب كل شيء (قبل إقدامه على حرق نفسه)، حتى إنه أوصى جاره بالاعتناء بقطته.
وقبيل إضرامه النار بنفسه، قال بوشنل، أمام مقر السفارة: “سأنظم احتجاجاً عنيفاً للغاية الآن، لكن احتجاجي ليس كبيراً مقارنة بما يعيشه الفلسطينيون على أيدي محتليهم”. وكان العسكري الأمريكي يعمل كمهندس ل “ديف أوبس” في البرمجيات ضمن القوات الجوية الأمريكية، كما عمل أخصائياً في تكنولوجيا المعلومات وتطوير الشبكات بشركة Paraclete Press بين عامي 2015-2017.
ردود أفعال
أصبح مشهد العسكري الأمريكي الذي أضرم النار في نفسه أمام مقر سفارة تل أبيب لدى واشنطن “للتنديد بالإبادة الجماعية” التي ترتكبها آلة القتل الصهيونية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، موضوعا ساخناً حيث تجمع مئات المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجا على الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة ودعم الإدارة الأمريكية لها، وحمل المتظاهرون،الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها “فلسطين حرة” و”أنهوا الاحتلال” و”أوقفوا الإبادة الجماعية” و”أوقفوا الدعم الأمريكي لإسرائيل”.
فيما كشف فيديو، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، انتشر على نطاق واسع عبر منصة إكس، أشخاصا يحرقون زيهم العسكري وخلفهم لافتة كبيرة كتب عليها «المحاربون القدامى يقولون: فلسطين حرة! تذكر آرون بوشنل» من جانبه عبر الموسيقي البريطاني لوكي أنه “من المحتمل أن تقوم قريبا صحيفة وول ستريت أو نيويورك تايمز بتعيين عميل مخابرات إسرائيلي سابق لكتابة مقال يشوه سمعة بوشنل”.
بدورها قالت الكاتبة الأسترالية كايتلين جونستون إن بوشنل “كان على حق في احتجاجه”، وأضافت: “الناس في غزة يُحرقون أحياء، ويختنقون حتى الموت تحت المباني المنهارة، ويخضعون لإجراءات طبية دون تخدير، ويتضورون جوعا، ويموت أحباؤهم أمام أعينهم”.
وذكرت جونستون أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يحرق فيها شخص نفسه في الولايات المتحدة، حيث قام متظاهر مجهول بإضرام النار في نفسه بالعلم الفلسطيني أمام القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا في ديسمبر/كانون الأول الماضي. كما شاركت فيوريلا إيزابيل، الصحفية والخبيرة في الشؤون الجيوسياسية في صحيفة روسيا اليوم، مشهد بوشنيل، لافتة إلى “وقوف الشرطة على أهبة الاستعداد لإطلاق النار على العسكري الذي كانت تأكل جسده النيران”.
ورغم انتشار مشاهد العسكري الأمريكي وهو يضرم النار في نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “الاحتجاج من أجل غزة”، إلا أن المؤسسات الإعلامية الأمريكية الرائدة تجنبت استخدام رسائل بوشنل حول غزة وفلسطين والإبادة الجماعية في عناوينها الرئيسية أثناء تغطيتها للحدث.
الإنسانية المحترقة
إقدام الطيار الأمريكي على حرق نفسه يجعلنا نتذكر الياباني تاكاو هيموري قبل أكثر من عقدين من الزمن الذي قام هو الآخر بإضرام النار في جسده في حديقة “هاباي” في طوكيو، احتجاجاً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ورفضاً للحصار الذي كان مضروباً على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
بين حادثتي حرق الأجساد من تاكاو إلى آرون زمنٍ طويل تراكمت فيه جرائم الاحتلال وتغولت فاشيته الآخذة في الاتساع والشمول في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمتجلية في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، والتي شكلت تحدياً حقيقياً لمفهوم العدالة والإنسانية وحقوق الإنسان وحريته التي يتشدق بها عالم ولم يتوقف عن ممارسة النفاق والدوس على هذه المفاهيم بمراقبة جرائم الإبادة والسكوت عنها ودعمها.
وحين يراقب العالم وحكوماته حرب التجويع بعد جرائم الإبادة الجماعية لخمسة أشهر، ويفشل في إنقاذ حياة أكثر من مليوني إنسان يعيشون في ظروف تلائم كل الأوصاف المحزنة القاسية غير الإنسانية، بعد سقوط كل المحاذير التافهة للاحتلال وتدميره المستشفيات والمدارس ودور العبادة والأحياء السكنية، وحشر مليون ونصف في شريط ضيق في مدينة رفح، والتهديد بإبادتهم أو تهجيرهم، ومن دون تحرك فعلي وسريع لوقف المذبحة، يتأكد لنا أن حالة التعاطف الشعبي مع فلسطين وشعبها في شوارع الكرة الأرضية من أمريكا إلى أوروبا وآسيا، هو تعبير عن رفض سياسات التعامي الرسمي عن جرائم الإبادة الصهيونية من حكومات هذه الشعوب، وطريقة الاحتجاج على السياسة الاستعمارية الصهيونية بالطريقة المحزنة المأساوية لمحاولة تحريك الضمائر بطريقة “أحرقت نفسي لو ناديت حياً”.
ختام القول
حين ننظر حولنا نتيقن أن هناك نقطة مضيئة في مشهد الصراع ومقاومة الظلم مع الاستبداد والاحتلال المدجج بكل عناصر القوة، فهناك غزة وجنين ونابلس وطولكرم والقدس والخليل وكل أرض فلسطين التي بقيت تحمل البشارات من جيل الى جيل كشرط من شروط البقاء والصمود، ولأن العالم لن يخلو من راشيل، وفيتوري وهيموري وبوشنل ومن يشبههم في قائمة الأسماء العربية، لكل ذلك، سنسترد حريتنا ونشفي إنسانيتنا المحترقة.