تحول سلاح التجويع في يد كيان الاحتلال الإسرائيلي لسلاح صامت يساهم في إكمال جريمة الإبادة الجماعية التي بدأتها آلة الحرب الصهيونية منذ السابع من أكتوبر، فلم يعد الخوف من الموت بصاروخ إسرائيلي كل ما يخشاه الفلسطينيون في قطاع غزة، فالجوع بات كابوساً يلاحقهم ويهدد حياة أطفالهم.
فيما تتصاعد التحذيرات في غزة يوماً بعد يوم من أن تحصد حرب التجويع التي يمارسها كيان الاحتلال أرواح أطفال وأهالي غزة أكثر مما حصدته دباباته وصواريخه، ويقترب وقوع المجاعة في القطاع مع استمرار الكيان الغاصب في منع إدخال المواد الغذائية والإمدادات الأساسية للقطاع، ويقدر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن أكثر من ربع سكان غزة استنفدوا إمداداتهم الغذائية، وحذرت المنظمة الأممية للطفولة (يونيسيف) من أن اشتداد الحرب وسوء التغذية والأمراض في قطاع غزة تخلق حلقة مميتة تهدد حياة أكثر من 1.1 مليون طفل.
وفي مقابل الدعوات لسرعة إغاثة الفلسطينيين، قال وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال الصهيوني إيتمار بن غفير: إنه يجب التوقف عن إدخال أي مساعدات إلى غزة ما دامت “إسرائيل” غير قادرة على تحقيق أي شيء لمن سماهم “المخطوفون”، في إشارة إلى الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية.
وكان مدير الإعلام الحكومي في قطاع أكد مؤخراً أن سكان غزة دخلوا مرحلة متقدمة من المجاعة، وبسبب شح المساعدات، اضطر فلسطينيون في شمال القطاع لطحن علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة، وتناقلت وسائل إعلام محلية روايات عن شهود عيان في مناطق شمال غزة تتحدث عن بدء المدنيين بطحن الرمل مع التبن والأعلاف لصنع الخبز منها، في وقت يؤكد مدونون أن بعض المواطنين يتساقطون في الأرض من شدة الجوع.
برنامج الغذاء العالمي يوقف مساعداته
ما بين الشمال والجنوب، ترتسم ملامح قاتمة السواد، لمصير مئات الآلاف الذين يتهددهم خطر المجاعة، ويعصرهم الجوع وانعدام الإمدادات الغذائية في قطاع غزة، الذي يتعرض للعدوان الإسرائيلي منذ الـ 7 من تشرين الأول الماضي، وعلى وقع هذه الظروف المأساوية، أعلن برنامج الغذاء العالمي مؤخرا أنه أوقف مؤقتا تسليم المساعدات الغذائية إلى شمال القطاع المحاصر حتى تسمح الظروف بتوزيع “آمن”.
من جانبه، قال رئيس مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية أندريا دي دومينيكو إن الوضع ميؤوس منه في غزة، وإن عمليات المكتب صارت محدودة، مشيرا إلى أن حشودا كبيرة تنتظر المساعدات الأممية شمال القطاع.
وأوضح البرنامج الأممي -في بيان- أن “قرار وقف تسليم المساعدات إلى شمال قطاع غزة لم يُتخذ استخفافا” بالنظر إلى إدراك معنى “تدهور الوضع أكثر هناك” وأن عددا أكبر من الناس “سيواجهون خطر الموت جوعا”.
يتقاطع تصريح برنامج الغذاء العالمي، مع تصريحات في اليوم نفسه لليونيسف قالت فيها: إن الموت يتهدد 600 ألف طفل في رفح جنوب قطاع غزة، يعيشون دون غذاء أو دواء وفي ظروف بالغة الخطورة في مخيمات المدينة.
وسبق أن أوقف برنامج الأغذية العالمي -قبل 3 أسابيع- إرسال المساعدات الغذائية إلى شمال غزة، بعد ضربة إسرائيلية أصابت شاحنة له، قبل أن يستأنف شحناته، لكن منذ ذلك الحين تعرضت شاحناته لعراقيل عدة بينها أن هناك قصفا استهدفها في ظل “العنف والفوضى” وفق ما جاء بالبيان.
كما أعلن البرنامج -في وقت سابق- أن كميات قليلة جدا من المساعدات الغذائية تجاوزت جنوب قطاع غزة إلى شماله منذ بداية الحرب، مؤكدا أن خطر تشكل مجاعة في مناطق بالقطاع لا يزال قائما، وأن أكثر من ربع سكان غزة استنفدوا إمداداتهم الغذائية، وباتوا يواجهون خطر الموت جوعا.
وقالت المتحدثة باسم البرنامج الأممي في الشرق الأوسط عبير عطيفة: إن من الصعب الوصول إلى أماكن تحتاج للمساعدات، وخاصة شمال القطاع.
انهيار الأونروا
حسب المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، إن الوكالة في غزة قد وصلت إلى مرحلة الانهيار، في ظل دعوات كيان الاحتلال المتكررة لتفكيكها وتجميد الجهات المانحة مساهماتها، وأضاف إنه خلال 4 أشهر فقط، قتل في غزة من الأطفال والصحفيين والطواقم الصحية وموظفي الأمم المتحدة أكثر مما قتل في أي صراع آخر في العالم.
كما حذّر لازاريني من أن المجاعة في غزة باتت على الأبواب، ومنذ الـ 26 من كانون الثاني الماضي، علقت 18 دولة والاتحاد الأوروبي تمويلها للأونروا، على خلفية مزاعم إسرائيلية بأن موظفين من الوكالة شاركوا في الهجوم على مستوطنات محاذية لقطاع غزة في الـ 7 من تشرين الأول الفائت، فيما أعلنت الوكالة أنها تحقق في هذه المزاعم.
من جانبه حذر منسق “عملية السلام” في الشرق الأوسط تور وينسلاند من أن سكان غزة في خطر شديد بسبب نقص المساعدات، وقال الأمين العام لمنظمة “أطباء بلا حدود” كريس لوكيير: إن قوات الاحتلال الإسرائيلية تهاجم قوافل المنظمة بشكل متعمد، وإن تلك الهجمات أصبحت نمطًا متكررًا للقوات الإسرائيلية، وبشأن أزمة الغذاء المستفحلة، وعلى وقع المجاعة التي يواجهها سكان القطاع، قال المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري: إن المساعدات الإنسانية تصل إلى قطاع غزة بشكل متقطع، وحذر فخري من أن حياة كل الفلسطينيين في غزة معرضة للخطر، وأن مصيرهم على المحك.
وبدوره، شدد المدير التنفيذي للجنة الإنقاذ الدولية ديفيد مليباند، على ضرورة احترام الحقوق الإنسانية والعمل على وقف إطلاق النار في غزة، وقال مليباند “ليس هناك عذر في عدم حماية المدنيين وعدم إدخال المساعدات إلى القطاع”.
حياة الأطفال والمرضعات الأكثر تهديداً
الأطفال في الواقع هم الأكثر عرضة للخطر في هذه الحرب العدوانية على القطاع، وعندما يتضورون جوعا، ويعانون من سوء التغذية، فإنهم يصابون بسهولة بجميع الأمراض، وخاصة الإسهال، وحسب تقارير طبية يمكن أن يسبب الإسهال لدى الأطفال ضعيفي البنية والذين يعانون من سوء التغذية بالوفاة خلال يوم واحد، الأمر الذي يكاد أن يكون بمثابة حكم بالإعدام بالنسبة للعديد من الأطفال.
كما أن الأمهات المرضعات معرضات بشدة لخطر سوء التغذية، وحليب الأم هو الغذاء الأفضل والأكثر سلامة الذي يمكن أن يحصل عليه الطفل منذ الولادة وحتى الشهر السادس من عمره، ويحمي حليب الأم الطفل من نقص التغذية والإصابة بأمراض فتاكة مثل الإسهال، وخاصة عندما يكون الوصول إلى مياه الشرب السليمة محدودا للغاية.
حرب تجويع ممنهجة
تشير الوقائع اليوم إلى أنه ومنذ اليوم الأول للعدوان قد وضع كيان الاحتلال خطة ممنهجة لحرب تجويع مساندة لحرب الصواريخ والدبابات فبعد 48 ساعة من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة أعلن وزير الدفاع في كيان الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت، قراره بمنع دخول “الغذاء والماء والوقود إلى القطاع”، ليشكل هذا القرار اللحظة الفعلية التي بدأ فيها الاحتلال فرض حصاره التجويعي على قطاع غزة.
أغلقت قوات الاحتلال الصهيوني جميع المعابر مع قطاع غزة الذي كانت تدخله يوميا 600 شاحنة عبر معبر كرم أبو سالم، وظلت المساعدات الإنسانية التي تدفقت إلى مطار العريش المصري محتجزة لـ 15 يوما كاملة، قبل التوصل إلى اتفاق أمريكي مصري إسرائيلي لإدخالها بكميات لا تلبي 1٪ من احتياجات القطاع في الوضع الطبيعي، وبعد ذلك، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي اجتياحه البري لشمال قطاع غزة في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد أيام من السماح بالدخول المقنّن للمساعدات، واقتصارها على خان يونس جنوب قطاع غزة.
ومن ثم بدأ الاحتلال بفصل محافظات غزة وشمال غزة عن المحافظة الوسطى عبر قطع شارع صلاح الدين، والتقدم باتجاه شارع الرشيد الساحلي غربا لإطباق الحصار على مدينة غزة ومدن شمال القطاع، التي واجهت تقدما بريا مماثلا، وسارعت المنظمات الدولية للانسحاب من شمال قطاع غزة، وتركت أكثر من مليون مواطن تحت سطوة آلة الحرب الصهيونية.
وبذلك بدأت المواد الغذائية بالنفاد التدريجي مع محاصرة الشمال من أركانه الأربعة، واستمرار منع دخول أي نوع من المساعدات إليه، والتدمير الممنهج للأحياء السكنية والأسواق والمتاجر والمخابز، وواجه المواطنون صعوبات جمّة في تعويض ما ينقص من إمدادات.
في الأسابيع الأولى، استنفد شمال القطاع مخزون بيوته ومحاله التجارية من المواد الغذائية، ولجأ المواطنون إلى البحث في البيوت المدمرة أو الخالية من السكان عن المعلبات أو المجمدات، ويروي بعض السكان كيف أنهم اضطروا إلى خلع أبواب المحال التجارية التي هجرها أصحابها بحثا عما يسدّ جوعهم وأفراد أسرهم، بعد نفاد مخزون الطعام لديهم، وبدأت ملامح المجاعة تظهر على من تبقى من سكان شمال القطاع مع إصرار الاحتلال الصهيوني على منع دخول أي مساعدات غذائية، في ظل موجات من القصف الجوي العنيف، ومواجهات برية شرسة مع المقاومة.
غضب شعبي وقادة العالم تتفرج
أشعلت مشاهد ونداءات الأمعاء الفارغة في غزة غضبا بين نخب سياسية غربية وعربية ومدونين، حيث نددت النائبة البريطانية كلوديا ويب باستخدام كيان الاحتلال التجويع كسلاح حرب، قائلة “المدنيون يموتون جوعا في غزة يأكلون العشب والأعشاب وأعلاف الحيوانات، وتتعمد “إسرائيل” استخدام التجويع كسلاح حرب، وإن قادتنا السياسيين يلعبون بالكلمات، إنهم متواطئون، من خلال السماح “لإسرائيل” بالتصرف دون عقاب”.
واستهجن الصحفي باسل رفايعة فشل الدول العربية في توفير مواد غذائية قائلا “ما الذي يمنع كل دولة عربية مطبعة مع “إسرائيل” من إرسال 3 طائرات طعام يوميا إلى غزة، هل بات المستحيل أقل الواجب وأقل الحمية؟ المجاعة بلغت ذروتها في غزة يا عرب وأهلكم.. إن كنتم صادقين.. يموتون جوعا.. حرفيا طائرات شحن محملة بالطعام ليس أكثر، لم يطالبكم أحد بطائرات حربية لا سمح الله”.
وتساءل الكاتب رضوان الأخرس بألم وغضب “ما كل هذه البلادة؟ الناس في مدينة غزة وشمال القطاع ينادون بالصوت والصورة نريد طعاما لا نريد أن نموت جوعا فقد اشتدت عليهم المجاعة التي باتت تنهش أجسادهم حرفيا والعالم يشاهد التجويع ويسمع صرخات الجوعى وجله لا يحرك ساكنا، مئات الآلاف من البشر يحاصرهم الاحتلال الإسرائيلي المجرم في منطقة جغرافية ضيقة ويمنع عنهم الغذاء والدواء والماء.. ظلم عظيم وخذلان”.
وكتب الصحفي يوسف الدموكي تعليقا مطولا عن مشهد طفل كان يجمع طحينا من الأرض ويضعه في جيبه، قائلا “خبز معجون بماء الدمع مما سقط على الأرض وما تبقى من أثر لبضع شاحنات مساعدات متوجهة لنحو نصف مليون إنسان جائع ليتذوقوا الخبز ولم يشربوا الماء العذب منذ 100 يوم وأكثر، يلملم الصبي كبشات من الطحين مخلوطةً بخشاش الأرض وترابها وجراثيمها ويخبئها في جيبيه الصغيرين عساه يعود بما تبقى في ثوبه لمن تبقى من أهله ليصنع رغيفًا من الخبز يتقاسمونه”.