مع تصاعد التوترات في البحر الأحمر بين أنصار الله في اليمن والولايات المتحدة، تصاعدت التوترات الجيوسياسية، ما أثار تساؤلات حول تأثيرات الحرب على الاقتصاد في المنطقة والعالم، وخاصةً فيما يتعلق بالأسعار وتأمين طرق إمداد الطاقة.
وبما أن البحر الأحمر وقناة السويس يعتبران أحد الطرق الرئيسية لنقل النفط والغاز، فإن الدول المصدرة لهذه الموارد الغنية، تشعر بقلق بالغ من اندلاع الحرب في المنطقة.
وتعتمد قطر، وهي واحدة من أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم، والمورد الرئيسي لاحتياجات أوروبا من الغاز، على نقل الغاز من البحر الأحمر إلى قناة السويس، وتشعر بالقلق إزاء استمرار انعدام الأمن في هذا الطريق التجاري السريع.
وخلال اجتماع دافوس، قال رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إن شحنات الغاز الطبيعي المسال ستتأثر بالهجمات في البحر الأحمر، ووصف الأزمة في هذا الطريق البحري بأنها خطيرة على التجارة العالمية.
وحسب صحيفة “الخليج الجديد”، أعلنت شركة قطر للطاقة مؤخراً أن الصراع في البحر الأحمر، قد يؤثر على تسليم بعض شحنات الغاز المسال، حيث يتعين على هذه الشحنات اختيار طرق بديلة. وفي منتصف يناير/كانون الثاني، قررت شركة قطر للطاقة وقف الشحنات مؤقتاً عبر باب المندب، لأن الغارات الجوية الأمريكية على أهداف في اليمن، أدت إلى زيادة المخاطر على هذا الممر المائي الحيوي.
وقال مصدر مطلع لرويترز في ذلك الوقت: إن شركة قطر للطاقة علقت الشحن عبر البحر الأحمر لتلقي المشورة الأمنية، لكن إنتاج الشركة من الغاز الطبيعي المسال لم يتوقف، وأكد أنه إذا كان المرور عبر البحر الأحمر غير آمن، فإن شحنات شركة قطر للطاقة ستمر عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا.
ولم تهاجم أنصار الله أي ناقلة غاز منذ أن بدأت مهاجمة السفن الإسرائيلية في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، لكن إحجام قطر عن المرور عبر هذا الممر، يعكس زيادةً حادةً في المخاطر في أعقاب الهجمات الأمريكية والبريطانية على اليمن.
ويأتي الوضع المتوتر في البحر الأحمر، في وقت تعرضت فيه صادرات الغاز عبر قناة بنما، وهي ممر مائي حيوي آخر لشحن الغاز الطبيعي المسال، لقيود شديدة بسبب الجفاف، وهذا يعني أن شحنات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية إلى آسيا، قد تحتاج إلى اتخاذ مسارات أطول عبر جنوب أفريقيا.
وتعدّ قطر، إلى جانب أمريكا وأستراليا وروسيا، من الدول الرائدة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال في العالم، وتعمل قطر على مشروع تطوير حقل الشمال، وهو أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، ويمتد من الخليج الفارسي تحت الماء إلى المياه الساحلية الإيرانية، ويحتوي على نحو 10% من احتياطيات الغاز الطبيعي المعروفة في العالم.
ولا يوجد طريق صالح لإنهاء سريع للأعمال العدائية التي تمنع مرور ناقلات الغاز الطبيعي المسال عبر البحر الأحمر، وإذا استمر القتال في البحر الأحمر، فسوف تواجه قطر فائضاً في سعة الغاز الطبيعي المسال.
وتواجه قطر حالياً زيادةً كبيرةً في قدرتها على التسييل غير المتعاقد عليها، حيث تنتهي العقود السابقة قريباً، وهي بحاجة إلى عقود جديدة لتصدير هذا الحجم من موارد الغاز، والتوتر في البحر الأحمر يشكل عاملاً للإحجام، وقد تعيد الجهات الفاعلة، وخاصةً الأوروبيين، النظر في شراء الغاز من قطر.
ويتوقع الخبراء أن التوترات في البحر الأحمر وقناة السويس، والتي أجبرت السفن على تحويل مسارها عبر هذا الممر المائي، لن تؤدي على الفور إلى عواقب كبيرة على المدى القصير، ولكنها ستجلب مخاطر سياسية واقتصادية طويلة المدى.
ووفقاً لمعهد “energy flux”، فإن قطر والولايات المتحدة وروسيا هي أكثر الدول نشاطاً في إرسال شحنات الغاز المسال عبر قناة السويس، وحسب معهد ” S&P Global Ratings”، بلغ حجم الشحنات القطرية عبر قناة السويس في عام 2023، 14.8 مليون طن، والولايات المتحدة 8.8 ملايين طن، وروسيا 3.7 ملايين طن، وتتصدر قطر قائمة الدول النشطة في نقل البضائع من الشرق إلى أوروبا، لكنها تزود فقط 5% من صافي واردات الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
تأثير أزمة الغاز المسال على أوروبا
لا شك أن أي أزمة في طرق نقل الطاقة، سيكون لها تأثير سلبي على الدول الأوروبية، ومن الممكن أن يكون للتوتر في البحر الأحمر، تأثير كبير على توصيل الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
وفي ديسمبر/كانون الأول، عندما توقفت خمس سفن شحن الغاز في البحر الأحمر بسبب العمليات الصاروخية لأنصار الله، ارتفع سعر الغاز في هذه القارة بنسبة 7%.
وحسب “الخليج الجديد”، تعدّ قناة السويس الشريان الرئيسي للتجارة العالمية، وتشمل صادرات الغاز الطبيعي المسال المهمة عبر هذه القناة بشكل أساسي، الشحنات من قطر إلى أوروبا، والصادرات من الولايات المتحدة وروسيا إلى آسيا.
ووفقاً لبيانات شركة ريستاد إنرجي، بلغت تجارة الغاز الطبيعي المسال القطرية إلى أوروبا عبر هذه القناة 19.84 مليون طن في عام 2023، وصدرت هذه الدولة هذا العام 13.74 مليون طن من الغاز المسال إلى هذه القارة.
وفي العام الماضي، استحوذت قطر على نحو 13% من استهلاك أوروبا الغربية من الغاز، وحسب الاتفاقيات الأخيرة بين الدوحة والأوروبيين، فإن هذه الكمية سترتفع مستقبلاً.
وقال لو بانغ، كبير المحللين في شركة ريستاد إنرجي، عن تأثير توترات البحر الأحمر على نقل الغاز المسال إلى أوروبا: إن “إرسال السفن القطرية إلى أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح، من شأنه أن يزيد مدة السفر بنحو 18 يوماً، وهو ضعف زمن السفر الحالي، وإذا تعطلت شحنات الغاز الطبيعي المسال القطرية إلى أوروبا في البحر الأحمر، فقد تكون هناك حاجة إلى طاقة شحن إضافية، لتغطية وقت الرحلة الإضافي”.
وذكر التقرير أن واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال، سجلت مستويات قياسية العام الماضي، مع قيام روسيا بخفض صادراتها إلى القارة بعد هجومها علی أوكرانيا، ومع ذلك، كان الطلب ضعيفًا هذا العام بسبب فصل الشتاء الأكثر دفئًا من المتوقع، وارتفاع مستويات التخزين.
وقد طلبت الدول الأوروبية التي تعاني من نقص الطاقة الروسية، المساعدة من لاعبين عالميين آخرين لشراء النفط والغاز، لتعويض احتياجاتها في العامين الماضيين، وكانت قطر إحدى هذه الدول، التي تحاول من خلال توقيع عقود جديدة، توفير جزء من احتياجات أوروبا من الغاز.
وفي نوفمبر 2022، وقعت ألمانيا وقطر عقدًا مدته 15 عامًا لتصدير الغاز الطبيعي المسال، ووفقاً لسلطات برلين، اعتباراً من عام 2026، سيتم تصدير ما يصل إلى مليوني طن من الغاز الطبيعي المسال إلى محطة غاز برونسبوتيل في شمال ألمانيا.
وبما أن قناة السويس تعتبر أهم طريق لنقل شحنات الغاز المسال القطرية إلى أوروبا، فإن التوترات في البحر الأحمر يمكن أن تغرق أوروبا في أزمة طاقة مرةً أخرى، ولهذا السبب، لم تشارك العديد من الدول في التحالف البحري الأمريكي، لأنها لا ترى أن من مصلحتها الصدام مع أنصار الله.
السياسات الحربية الأمريكية للسيطرة على سوق الغاز المسال
يعتقد بعض الخبراء أنه على الرغم من أن التوترات في البحر الأحمر تعتبر تهديداً للقطريين، إلا أنها تمثل فرصةً جيدةً لدول مثل الولايات المتحدة، للسيطرة على أسواق الطاقة.
وكتب واين أكرمان، الخبير في مجال التنقيب والإنتاج وتطوير المشاريع الرأسمالية الكبيرة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، في مقال حول هذا الموضوع: “إن اتساع نطاق عدم الاستقرار في البحر الأحمر، يمكن أن يجذب السوق الآسيوية لتزويد المزيد من الغاز الطبيعي المسال من أمريكا الشمالية، ويدعم هذا الوضع بشكل عام تطوير وتوسيع سلاسل توريد الغاز الطبيعي المسال الجديدة، التي تقلل من مخاطر النقل”.
ويری أكرمان أن شركات الطاقة الأمريكية ستستفيد من مرونة سوق الاتحاد الأوروبي، لكن الغاز الطبيعي المسال على الساحل الغربي لأمريكا الشمالية، سيصبح أيضاً أكثر جاذبيةً مع إقبال المشترين الآسيويين، وتؤدي الجهود المبذولة لتجنب مشاكل الجفاف في قناة بنما والاضطرابات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، إلى مزيد من المنافسة مع الموردين في الشرق الأوسط مثل قطر.
وأضاف: لكن إذا تم إغلاق البحر الأحمر عملياً أمام الشحن التجاري، أو توسعت الأنشطة العسكرية في المنطقة، فإن سوق الطاقة سيشهد بلا شك المزيد من التقلبات في العرض والسعر.
وأوضح أكرمان أن استمرار الانفلات الأمني في البحر الأحمر، سيجبر الأوروبيين على اختيار طرق بديلة، وقال: “يمكن توقع المزيد من التغييرات في السوق، حيث من المرجح أن تحاول أوروبا تأمين كميات متزايدة من المنتجين في حوض الأطلسي، بما في ذلك الولايات المتحدة”.
وزعم هذا الخبير الأمريكي أن ناقلات الغاز الطبيعي المسال التي ترفع علم قطر، آمنة حاليًا من الهجمات في البحر الأحمر، وأضاف: “لكن ستكتشف أنصار الله أنه على الرغم من أن السفينة تابعة لقطر، إلا أنهم سيستهدفونها إذا كان من المرجح أن تكون هذه الشحنة متجهةً إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر بعض أعضائه من أشد المؤيدين لإسرائيل”.
ويأتي ادعاء هذا المحلل في حين أنه في الأشهر الأخيرة، يحاول المسؤولون في واشنطن إلقاء اللوم على اليمنيين في التوترات في هذه المنطقة، من خلال الادعاء بأن أنصار الله قد عرضوا أمن الشحن الدولي للخطر بعملياتهم في البحر الأحمر، في حين أكد قادة أنصار الله مراراً وتكراراً أن عملياتهم موجهة فقط ضد السفن الصهيونية وحلفائهم الغربيين، ولم يتخذوا حتى الآن أي إجراء ضد الدول الأخرى.
وكما قامت الولايات المتحدة بتصدير غازها إلى حلفائها الأوروبيين بأربعة أضعاف سعره بعد الأزمة في أوكرانيا، وما تلاه من توقف صادرات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا، حتى تتمكن من كسب الكثير من الدخل من النقد الأجنبي من هذه الأزمة التي افتعلتها، فهي تسعى الآن أيضًا إلى كسب مصالح جديدة من خلال السياسات الحرية في البحر الأحمر.
کذلك، تحاول أمريكا جعل البحر الأحمر غير آمن لطرق نقل النفط والغاز، من خلال خلق أجواء إعلامية وتكثيف التوترات، حتی تدفع مشتري الطاقة لشراء الغاز الطبيعي المسال منها، وبالتالي تزيد ثقلها في معادلات الطاقة العالمية.
إن التحذيرات الأمريكية المتكررة لمصدري النفط والغاز في الخليج الفارسي بشأن تهديدات أنصار الله، تهدف إلى تخويف العرب ومنعهم من تصدير الطاقة، لكن قطر تتمتع بعلاقات جيدة نسبياً مع اليمنيين، وواصلت سفن هذا البلد السفر عبر باب المندب وقناة السويس دون أي عوائق في الأشهر الأربعة الماضية.
ولم تشارك الدوحة في حرب التحالف السعودي ضد اليمن، وحاولت خلال هذه الفترة إنهاء هذه الأزمة الإقليمية كوسيط، ولذلك، لم تتخذ أنصار الله أي إجراء ضد مصالح الدوحة في المنطقة.
قناة السويس هي طريق مناسب لصادرات الطاقة الأمريكية، وحسب شركة ريستاد إنرجي، صدرت الولايات المتحدة العام الماضي 6.41 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال عبر قناة السويس، في حين بلغ هذا الرقم 10.84 ملايين طن عبر قناة بنما.
وقالت الشركة نقلاً عن بيانات التتبع: إن الرحلة من الولايات المتحدة إلى شرق آسيا عبر قناة السويس تستغرق حوالي 39 يومًا، مقارنةً بـ 42 يومًا عبر رأس الرجاء الصالح، ولذلك، تعتبر واشنطن البحر الأحمر مهماً لتصدير غازها إلى الأسواق الآسيوية.
ورغم أن واشنطن تطرق كل باب لتقيس نبض سوق الطاقة في العالم، إلا أن الدول المنتجة للنفط والغاز مثل قطر تعرف جيداً كيف تتجنب الأزمات، وكانت التوترات الأخيرة في البحر الأحمر بمثابة دفع لدول المنطقة للتركيز على طرق أخرى، ولا شك أن قطر ستختبر ممرات جديدة لتجنب عواقب الأزمات المستقبلية.
ويرجع قرار شركات الشحن والطاقة الكبرى بوقف مرور شحناتها عبر البحر الأحمر، إلى هشاشة الاستقرار الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وبينما يتصارع المجتمع الدولي مع تعقيدات هذا الوضع، يجب أن تركز الجهود الدبلوماسية على تهدئة التوترات وإيجاد حل دائم.
إن البحر الأحمر، بأهميته الاستراتيجية في التجارة العالمية، يتطلب تضافر الجهود لضمان سلامة الممرات البحرية والتدفق المستمر للموارد الحيوية، وتحاول الدول الابتعاد عن هذه المياه غير الآمنة، وتجنب الغرق في المزيد من الفوضى، لكن ما دامت مغامرات أمريكا والكيان الصهيوني مستمرةً في المنطقة، فإن تحقيق الاستقرار والأمن أمر بعيد عن المتوقع.