ما قبل الحادي عشر من فبراير العام 2011 م، كانت اليمن تعيش مرحلة تشظي، حيث صراع الأحزاب والأقطاب يتخفى وراءه صراع قوى الحكم، مسند إليها مهام حكم ضعيف بفعل سعودي وحضور أمريكي.
اليمن التي تعطلت فيها الحياة السياسية وقتها حيث جمود الحراك السياسي وانسداد أفق التفاهم الحزبي، وصولاً إلى تضرر الدولة، وحدوث التدهور الاقتصادي واستشراء الفساد والاستئثار بالنفوذ والسلطة، والبحث في مؤتمرات الدعم المالي عما يسد عجز فساد حكمٍ كريه الرائحة، وإظهار الوجه القبيح لقصة الحكم الخفي، حيث أوكل ملف اليمن بما فيها دولياً للسعودية؛ البلد الذي يخشى اليمن بثقله التاريخي الجيوسياسي دون سواه.
كانت ثورة 11فبراير 2011م، مرحلة ثورية فاصلة، هدفها البحث عما فقده اليمن من سيادة واستقلال قرار، تاه ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، وما بعد محاولة الرئيس الحمدي لصنع بلد ، يرتبط بالجذور اليمنية ويعتز بالهوية الأصيلة ، ويسخر الإمكانات الهائلة لشعب مفعم بالحيوية ضمن مشروع نهضوي كبير.
الثورة الفتية التي حاولت قدر ما تستطيع أن تتجاوز مرحلة التعثر الطويل، مرحلة دامت لأكثر من خمسة عقود كانت اليمن الجمهورية فيها لقمة سائغة، حيث استطالة اليد السعودية، ضمن سياسة احتواء البلاد في مرحلة استقطابات هائلة، طالت قيادة سياسية وعسكرية وقبلية، ومدنية ودينية واجتماعية وثقافية كبيرة ، حيث كان المشهد أقرب لمشهد خيانة، ومرحلة كان اليمن يدار عبر سفراء آل سعود واللجنة الخاصة التي كانت مخصصة لدفع مرتبات ما يزيد عن 43 ألف شخصية، مثلت فيها الموقف السعودي لا اليمني، وأكدت فيه سياسة الاحتواء للقرار والسيادة اليمنية.
وإذا كانت السعودية من سبقت لإدارة اليمن من الداخل عبر عناصرها التي كشفتها كثير من الوثائق والتي نشر البعض منها، فقد كانت واشنطن من ختمت المشهد حيث بات الحضور الأمريكي القوي واللافت في المشهد اليمني هو السمة الرئيس، حيث ظهرت اليمن أضعف ما يكون، أمام تواجد أمريكي أمني واستخباراتي على أعلى مستوى.
التدخلات السعودية
لقد وقفت السعودية بشكل دائم ضد الثورات اليمنية ابتداء من 62م، ومروراً بـ 14 أكتوبر63م، ثم الجلاء67م وحركة 13 يونيو وانتهاء بثورة فبراير2011م التي صنفت ضمن واحدة من أهم ثورات ما سمي ب”الربيع العربي” والتي سرعان ما تعرضت للاختراق والتهميش لقياداتها الثورية الحقيقية واختزال الصورة فيما بعد بالجماعات والعناصر الحزبية التي مثل جزء كبير منها أحزاب وجماعات كانت جزء أصيل من النظام السابق وكانت تتبع الوصاية السعودية.
لقد كان العام 1970م هو عام بدء سياسة الاحتواء السعودية لليمن، عبر أدواتها التي تم استقطابها في الداخل اليمني خلال تلك المرحلة تعاملت السعودية مع اليمن كدولة تابعة لها، لا دولة جارة لها قرارها السياسي.
والحقيقة المرة كما كان معلوماً أن السعودية هي من تدير الوضع في اليمن بشكل عام”، فقد مثلت ما سميت “اللجنة الخاصة” ذراعاً للسعودية في التحكم بتفاصيل المشهد السياسي في اليمن، منذ ما بعد ثورة سبتمبر، في ستينيات القرن الماضي، وأصبح نفوذ “اللجنة الخاصة” وضخ المال السياسي في اليمن أداة لتوجيه السياسات والنّخب السياسية والاجتماعية والثقافية…الخ.
كان سلوك “اللجنة الخاصة” في اليمن، كما أظهرت ذلك وثائق كشفت جزءاً منها جماعة حزب الإصلاح يتجاهل سيادة البلد، ويدوس على القوانين والأعراف بين الدول، وفي المقابل كانت هناك نخبة يمنية انشغلت بالتزاحم على المال السعودي، فقبضت ثمن استقلال وسيادة البلاد.
وإلى ما قبل 2011م، كانت “اللجنة الخاصة” السعودية تدفع أموالاً شهرية لآلاف السياسيين ومشايخ القبائل وعشرات آلاف الفاعلين في مختلف المجالات، ابتداءً من رئيس الدولة وحتى أصغر شيخ قبلي، كانت الصورة تؤكد أن اليمن دولة ونظام حكم مخترق ومستلب الإرادة أمام نظام “سعودي” جل ما يخشاه ؛ نهضة واستقلال اليمن والذي له ما بعده.
تدخلات أمريكا
تعود العلاقات اليمنية الأمريكية إلى أربعينيات القرن الماضي، عقب الحرب العالمية الثانية ، حين اعترفت واشنطن بالمملكة المتوكلية اليمنية عام 1941م ، ووطأت القدم الأمريكية اليمن وقتها، وشكلت نقطة استخباراتية إقليمية، عرفت بالنقطة الرابعة.
هذه النقطة مازالت المنطقة تحمل اسمها حتى اليوم، وعبرها مارست أمريكا تدخلات خطرة ضد فصائل الحركة الوطنية وضد الأسرة المتوكلية الحاكمة والنظام الوطني لحكومة الإمام، فيما كانت السعودية بوابة أمريكا للتدخل في اليمن ما بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، ضد ثورتي 26سبتمبر و 14أكتوبر، وضد النظام الوطني في اليمن الديمقراطية آنذاك، وضد حكومة الحمدي ، وأي مشروع وطني يرفض الوصاية السعودية والهيمنة الأمريكية.
بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي تجاوزت أمريكا التدخل عبر الوكلاء وظهرت بصورة مباشرة. بداية من العام 1991م، كانت الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة بعد مرحلة تنظيرات مشروع الشرق الأوسط الجديد.
في اليمن مارست الولايات المتحدة شتى التدخلات، في مختلف المجالات السياسية، الاقتصادية، الأمنية، العسكرية، الثقافية، والاجتماعية بصورة مباشرة وغير مباشرة وبطرق عنيفة وأخرى ناعمة.
لقد كانت تلك التدخلات تسوق مبررات مكافحة الإرهاب كستار للتدخل في قرارات البلاد منذ مطلع العام 2000م، مع بداية الهجمة الاستعمارية الأمريكية الجديدة باسم “مكافحة الإرهاب” ، حيث بدأت أمريكا بالتدخلات العسكرية المباشرة في اليمن، حيث كانت اليمن إحدى المناطق الأكثر أهمية لأمريكا ، وصولاً إلى حشد ذرائع محاولة احتلال عدن بعد تفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” العام 2000م ، كما أعترف بذلك صالح، أتاح لها ذلك تدخلاً متدرجاً في الشؤون العسكرية والأمنية لليمن.
حتى وصل الأمر إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسحب السلاح الخفيف والمتوسط من الأسواق بذريعة الحد من انتشار السلاح في اليمن، حيث كانت تشير الإحصاءات آنذاك إلى وجود 50 مليون قطعة سلاح في البلاد” ، مروراً بالتخلص من أسلحة الدفاع الجوية عبر لجنة يمنية أمريكية قامت بجمعها وتدميرها ، وصولاً إلى حوادث سقوط الطائرات الحربية واغتيال الطيارين اليمنية في عدة محافظات بالشمال والجنوب، وكل ذلك تهيئة للساحة اليمنية لمرحلة احتلال أمريكي مباشر.
المندوب السامي
تحت غطاء “مكافحة الإرهاب” منذ العام 2000 وحتى 2010 م، جرت تدخلات أمريكية مارست فيها واشنطن تدخلات مباشرة حيث كان لسفراء واشنطن مطلق الحرية في التنقل والسفر بين المحافظات والمدن اليمنية ومقابلة شيوخ وزعماء القبائل والشخصيات المؤثرة في البلاد، للحد الذي كانت الصحافة اليمنية تطلق على أحد سفراء واشنطن وهو أدموند هول بـ “شيخ مشائخ اليمن ” من باب السخرية. وقتها كانت اليمن مستباحة الجغرافية بحراً وبراً وجواً.
هذا ما ظهر بوضوح في سلسلة اغتيالات طائرات الدرونز الأمريكي لليمنيين كانوا عناصر من القاعدة أو مواطنين عاديين. لقد وصل الأمر بأن أصبح سفراء أمريكا في اليمن بمثابة المندوب السامي والحاكم الفعلي باسم واشنطن، يومها لم تكن السفارة الأمريكية كسفارة، بل سفارة ومقر حكم أمريكي، وغرفة عمليات وقيادة واسعة متطورة للغاية.
وهذا لم يكن معلناً، كما لم يكن تدفق قوات المارينز إلى اليمن معلناً، حيث كان هذا التواجد العسكري يثير حساسية اليمنيين ويترجم حالة غضب ورفض شعبي لهذه القوات الأجنبية جملة وتفصيلاً.
التدخل لإجهاض 11 فبراير
وعلى مدار أربعة أعوام خلال الفترة 2011_2014 برزت التدخلات الأمريكية كتدخلات سياسية مباشرة في تحديد السياسة الرسمية لليمن.
وعندما بدأت ثورة 11فبراير 2011م وقفت الولايات المتحدة الأمريكية ضدها بكل قوة، ضمن مؤامرة إفراغ الثورة الشبابية خرجت المبادرة الخليجية عبر مجلس التعاون الخليجي والجانب السعودي الأشد حرصاً على إضعاف وتقسيم اليمن، وكانت المبادرة بالأساس مشروع تفكيك وتقسيم لليمن. بريطانيا من تقف خلف هندسة ذلك المشروع عبر التقسيم الناعم للبلاد وقتها إلى ستة أقاليم، وتدعيم ذلك المشروع وفرضه استناداً إلى القرار “2014 الذي ألغى ثورية 11فبراير، ثم القرار “2216” الذي فتح الباب للتدخل والعدوان على اليمن في 2015م.
أما مؤتمر الحوار الوطني، فقد كان البوابة الأمريكية البريطانية، ثم السعودية لفرض التفكيك والتقسيم وفقاً للمبادرة الخليجية والتي اتضح أنها كانت مادة المؤامرة على مشروع اليمن الموحد، فخلال مؤتمر الحوار مورست كل أنواع الضغط الأمريكي والغربي والسعودي لإقرار مشروع الأقاليم ذلك المشروع كما كان يستهدف اليمن بكل اتجاه، كان يستهدف بالدرجة الأساس فصل الأقليم الصحراوي ثم عدن حيث الأطماع الاستعمارية في النفط والجغرافية الحساسة.
لقد عبر عن هذا الخبث السياسي السفير البريطاني الأسبق في اليمن “تورلوت” حينما صرح أن الأقليم الشرقي الصحراوي لليمن “خط أحمر” على اليمنيين وليس مادة لنقاشهم فيه، أو تفاهمهم عليه.
على خطى الحرية
بالحق فإن ثورة 11فبراير كانت البدايات الأولى للخروج من عباءة الوصاية والتدخل الأجنبي المباشر في حكم اليمن، عبر رفض نسخ قوى الحكم المهترئة، والبحث عن جديد لا علاقة له بثلاثي الحكم “الأحمر”.
هذه الثورة التي صبغها وهج أمل شبابها المتطلع للمستقبل، والتي أفرغت بحضور قوى الحكم السابق وتسابقهم للهيمنة عليها، كانت على موعد مع ثورة تثأر للدم وتنتصر للحلم، وتنهض بالأمل، مستكملة الجهد الوطني والنبض الثوري، حيث كان هذا الموعد مع ثورة 21سبتمبر التي كانت بحق الامتداد الطبيعي لثورة شباب 11فبراير الفتية.