إذا قلبنا صفحات كتاب تاريخ العلاقات الدولية، سندرك أنه دائماً مع بداية الأزمات الإقليمية، تتدخل القوى العظمى وتتولى إدارة هذه الأزمات، وتستغل هذه الفرص لضرب منافسيها.
اليوم أيضاً، أصبحت حرب الکيان الصهيوني في غزة، الممتدة إلى البحر الأحمر، ميداناً للقوى الشرقية والغربية لمحاولة تحسين وضعها في العالم.
إن الصين هي إحدى القوى الناشئة في العالم، التي حاولت التعامل مع الأزمات في غرب آسيا بشكل مختلف عن الغربيين، وموقف الصين من حرب غزة، مثير للجدل وغامض في نظر العديد من المراقبين.
فبينما أعلنت الولايات المتحدة والدول الأوروبية دعمها الثابت للکيان الصهيوني فور بدء الحرب في غزة، واعتبرت قتل الفلسطينيين وحق الصهاينة في الدفاع عن أنفسهم أمراً مشروعاً، اتخذت الصين موقفاً مختلفاً.
منذ البداية، كان النهج الذي اتبعته الصين في التعامل مع الحرب بين الکيان الصهيوني وحماس حذراً، وفي قمة الحزام والطريق الثالثة، أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ موقف بلاده القديم المتمثل في تنفيذ حل الدولتين، ودعا إلى إنشاء ممر إنساني للسماح بوصول المساعدات إلى قطاع غزة.
ورفضت الصين وصف عملية طوفان الأقصى بأنها هجوم إرهابي، وهو الموقف الذي أثار غضب المسؤولين الإسرائيليين، لكنها وصفت الهجمات الصهيونية على المدنيين الفلسطينيين بالإبادة الجماعية، وأدانت هذه الجرائم باعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي.
كما قدمت الصين نفسها كباحثة عن السلام، ودعت إلى وقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية، وطلبت عقد مؤتمر دولي للسلام لحل القضية الفلسطينية في أسرع وقت ممكن.
إن العديد من دول الجنوب تتعاطف مع فلسطين، وعلى هذا فإن الدعوة إلى عقد مؤتمر للسلام، تشكل قضيةً تستطيع الصين أن تستغلها لدعم قيادتها في الجنوب.
وذهب وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أبعد من ذلك، واصفاً القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة بأنه تصرف يتجاوز نطاق الدفاع عن النفس، وفي الوقت نفسه، تجنبت بكين إدانة إجراءات حماس ضد المدنيين.
معارضة الصين للهجمات الأمريكية على العراق وسوريا
يتناقض نهج بكين بشكل حاد مع نهج واشنطن، التي لم تكن فقط من المؤيدين المتحمسين للکيان الصهيوني منذ تأسيسه، وتدعم هذا البلد بمساعدات عسكرية بالمليارات، ولكنها أصبحت منذ ذلك الحين المدافع الرئيسي عن الکيان الإسرائيلي في الساحة الدولية.
ومن الواضح الآن أن الصين تسعى إلى رسم مسار مختلف عن الولايات المتحدة وحلفائها، ودعمهم غير المشروط للکيان الصهيوني، ويرى الصينيون أن التوترات في غرب آسيا ناجمة عن السياسات الخاطئة التي تنتهجها الولايات المتحدة، والتي قادت المنطقة إلى الأزمات وعدم الاستقرار في العقود الماضية، ولهذا السبب، اتخذوا في الأسابيع الأخيرة مواقف متشددة تجاه المغامرات الأمريكية في المنطقة.
وبعد الهجمات الأخيرة التي شنتها المقاتلات الأمريكية على العراق وسوريا، أدانها الصينيون، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وين بين: إن بكين تعارض أي عمل ينتهك ميثاق الأمم المتحدة، وينتهك السيادة الإقليمية وأمن الدول الأخرى.
ووصف وانغ وين بين الوضع في الشرق الأوسط بأنه حساس للغاية، وأضاف: الصين تريد من جميع الأطراف المعنية الالتزام بالقوانين الدولية، والحفاظ على ضبط النفس.
وقال تشانغ جون، ممثل الصين لدى الأمم المتحدة، في اجتماع مجلس الأمن، إنه يتعين على المجتمع الدولي إدانة العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، ووصف الهجمات الأمريكية على العراق وسوريا بأنها انتهاك صارخ لسيادة هذين البلدين ووحدة أراضيهما، وأكد أن أمريكا لا تبحث عن السلام بل توسيع الصراع في المنطقة، ويجب احترام القوانين الدولية.
إستراتيجية الصين في البحر الأحمر
بالإضافة إلى ذلك، فإن معارضة الصين للسياسات الأمريكية، تظهر بوضوح في التطورات في البحر الأحمر.
فرغم أن الولايات المتحدة حاولت إعلان عمليات أنصار الله اليمنية في البحر الأحمر تهديداً للشحن الدولي، وضم دول إلى تحالفها البحري، إلا أن الصين، التي تعرف أهداف ونوايا واشنطن، لم تدخل في مغامرة منافستها الغربية.
وامتنعت الصين إلى جانب روسيا عن التصويت على قرار مجلس الأمن، الذي أدان العملية الصاروخية التي نفذتها أنصار الله، وقال ممثل الصين في مجلس الأمن، في تفسيره لهذا الامتناع عن التصويت، إن هذا القرار لم يأخذ في الاعتبار ملاحظات بكين وموسكو ودول أخرى، ويضفي الشرعية ضمناً على التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة.
في البداية اعتقدت الصين أن هذا القرار سيكون أفضل لعودة الاستقرار إلى البحر الأحمر، لكن عندما بدأت الهجمات الأمريكية والبريطانية على الأراضي اليمنية، والتي زادت حدة التوتر، طالبت بوقف هذه الهجمات.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية في كلمة، إن “الصين تدعو إلى عدم شن هجمات على السفن المدنية، وتطلب من جميع الأطراف المعنية الامتناع عن إشعال النار في المنطقة، وضمان سلامة الشحن في البحر الأحمر”.
لكن اللافت أن الصين رفضت إلقاء اللوم أو حتى تسمية الجماعة التي تقف وراء الهجمات، في إشارة إلى أن بكين لا تحمل أنصار الله مسؤولية الأزمة في البحر الأحمر.
كما أكد ذلك وانغ وين بين ضمنيًا أيضًا، فقال: “إن التوتر في البحر الأحمر، هو مظهر من مظاهر امتداد الصراع في غزة، والأولوية الآن هي إنهاء الحرب في غزة في أسرع وقت ممكن، لمنع المزيد من التصعيد والحيلولة دون خروج الوضع عن السيطرة”، وأضاف إن “الصين مستعدة للتعاون مع كل الأطراف لتهدئة الوضع، والحفاظ على الأمن والاستقرار في البحر الأحمر”.
لقد تبنت الصين تفسيراً مختلفاً لوجهة نظر الولايات المتحدة وحلفائها بشأن التصعيد، باعتباره أزمةً تتعلق فقط بحرية الملاحة العالمية، وأدرك الصينيون حقيقة أن هجمات أنصار الله في البحر الأحمر، هي نتيجة للسياسات الخاطئة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، والتي بدلاً من تخفيف التوترات، يقرعون طبول الحرب في المنطقة.
لأن قادة صنعاء صرحوا مراراً وتكراراً أن عملياتهم موجهة فقط ضد السفن الصهيونية وحلفائها الغربيين، ولا يوجد أي تهديد للدول الأخرى، وشددوا على أنه إذا انتهت الحرب في غزة، فسوف يوقفون عملياتهم أيضًا، لكن بدلاً من إيقاف آلة القتل الإسرائيلية، قامت واشنطن، مع بعض شركائها، بتحويل البحر الأحمر إلى مخزن بارود.
ورغم أن الصين قامت بتوسيع وجودها العسكري ومشاركتها من خلال عمليات حفظ السلام ومكافحة القرصنة، فإنها لم تبد حتى الآن أي اهتمام بلعب دور مقدم الأمن الرئيسي في المنطقة.
کذلك، رغم أن الصين بنت قاعدتها الأجنبية الوحيدة في دولة جيبوتي بالقرب من مضيق باب المندب، إلا أن هذه الدولة لا تسعى إلى لعب الدور التقليدي للولايات المتحدة، باعتبارها القوة العسكرية المتفوقة وموفرة الأمن في البحر الأحمر، ولهذا السبب رفضت المشاركة في تحالف واشنطن البحري.
لقد اقتصرت ردود أفعال الصين العلنية على أزمة البحر الأحمر حتى الآن، على الدعوة إلى وضع حد للهجمات على السفن المدنية، والانتقادات المبطنة للعمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد أنصار الله في المنطقة، ما يعكس إحجام بكين عن التحقيق في أزمة البحر الأحمر.
وقال موردخاي تشازيزا، المحاضر المتخصص في العلاقات بين الصين والشرق الأوسط في كلية عسقلان في الکيان الإسرائيلي، في حوار مع شبكة سي إن إن: “إن الصين ليس لديها رغبة في الانضمام إلى التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، لأن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تعزز موقف أمريكا كقوة مهيمنة إقليمية، وتضعف موقف الصين في المنطقة، وعلى الرغم من تصرفات واشنطن ولندن ضد اليمن، فإن الصين تکتفي بالمراقبة لأن ذلك يجعل القادة الإقليميين ينظرون إلى أمريكا على أنها “نمر من ورق”.
سياسياً ودبلوماسياً، تحافظ الصين على علاقاتها المتوازنة مع كل الأطراف في اليمن، وتتبع سياسة عدم التدخل في شؤون الدول والحياد، وتركيزها على المشاركة والابتعاد عن الالتزامات الأمنية، إلى درجة أنه رغم الطلب الأمريكي للصين الضغط على إيران لخفض التوتر في البحر الأحمر، إلا أنها رفضت طلب واشنطن.
خلال الأشهر القليلة الماضية، عزلت الولايات المتحدة نفسها تماماً في الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى، بسبب سياستها تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهذه فرصة جيدة لبكين لتحسين مكانتها العالمية، وتعزيز موطئ قدمها في الشرق الأوسط.
وهذا يلعب دوره على وجه التحديد في الاستراتيجية الصينية، لإظهار مدى عزلة الأمريكيين وكيف أنهم غير متزامنين مع بقية العالم، وإظهار نفاق الأمريكيين للعالم.
التوتر في البحر الأحمر نقطة إيجابية لطريق الحرير الصيني
تنعكس مصالح الصين وأنشطتها في البحر الأحمر، في تفاعلها الاقتصادي، وترى بكين أن المشاركة الاقتصادية، إلى جانب سياسة عدم التدخل، هي الطريقة الرئيسية لكسب الأصدقاء والنفوذ في ساحة البحر الأحمر.
وتشمل المصالح الرئيسية للصين دعم الاقتصاد، وضمان التدفق المستقر لموارد التجارة والطاقة والاستثمارات الاقتصادية في المنطقة، وبناء العلاقات من خلال الآليات الإقليمية متعددة الأطراف بقيادة الصين.
ومع التوسع السريع لأنشطتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية في المنطقة، أصبحت الصين لاعباً مهماً في البحر الأحمر خلال العقدين الماضيين، وقد جلبت هذه المشاركة، وخاصةً من خلال مبادرة الحزام والطريق، البنية التحتية والفرص الاقتصادية للمنطقة والتي يمكن، في ظل ظروف معينة، أن تعود بالنفع على دول البحر الأحمر.
ورغم أن الصين عانت أيضاً من التوترات في البحر الأحمر التي تهدد الشحن الدولي، إلا أنه من ناحية أخرى، فإن المواجهة بين أمريكا وأنصار الله ستنتهي دون قصد لصالح بكين.
لأن أمريكا كشفت، بمشاركة الهند ودول عربية، عن خطة بناء ممر “الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” في سبتمبر الماضي، والذي كان من المفترض أن يحل محل طريق الحرير الجديد الصيني، لكن مع بداية الحرب في غزة وبداية التوترات في البحر الأحمر، ظلت هذه الخطة عقيمةً.
تعتبر الولايات المتحدة السيطرة على البحر الأحمر هدفًا استراتيجيًا خاصًا، حيث يتم شحن العديد من المنتجات الصينية عبر هذا الممر البحري إلى أوروبا وشمال إفريقيا، لكن هذا الترويج للحرب، كلّف واشنطن أكثر مما كلّف الصين.
والهند، باعتبارها منافسة الصين، والتي ركزت أكثر على هذا المشروع، تشعر الآن بخيبة أمل إزاء تنفيذ خطة واشنطن، كما تشير زيارة وزير الخارجية الهندي إلى إيران لتطوير العلاقات الاقتصادية، وكذلك الرحلة المرتقبة لمسؤولي تجارة نيودلهي إلى طهران في مارس المقبل، لتطوير البنية التحتية والاستثمار في ميناء تشابهار، إلى حقيقة أن الهنود يحاولون إعطاء الأولوية للممرات البديلة.
ولذلك، فإن عقم الخطة الأمريكية يشكل خدمةً كبيرةً لتحقيق ممرات الصين، التي اتخذت العديد من الإجراءات لتطوير البنية التحتية لهذا المشروع في العقد الماضي.
وحسب معهد “تشاتام هاوس”، فإن “الصين لا ترغب في أن تحل محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنها بلا شك ستكون سعيدةً إذا تم جر الولايات المتحدة إلى الصراع في المنطقة مرةً أخرى”.
ويعتقد الخبراء الصينيون أنه كلما زادت المسارح الإستراتيجية غير الشرق آسيوية التي تتطلب اهتمام واشنطن، كلما كسبت الصين المزيد من الوقت والمساحة لتأكيد هيمنتها الاستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وبشكل عام، فإن الهدف النهائي للصين في النظر إلى التطورات في الشرق الأوسط، هو إضعاف المكانة العالمية للولايات المتحدة وكسب حرب “قوة الخطاب”، من خلال الاستثمار في التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين، حيث إن العديد من دول الجنوب دعمت قضية فلسطين ضد جرائم الکيان الصهيوني.
وفي اتفاق السلام بين إيران والسعودية، أظهرت الصين أنها تستطيع حل الأزمات الإقليمية كوسيط سلمي، وفي الصراع الفلسطيني أيضاً أعلنت استعدادها للتوسط بين الجانبين لإيجاد حل دائم.
وحسب الصينيين، فإن بقاء القضية الفلسطينية كأطول أزمة عالمية منذ أكثر من سبعة عقود، يرجع إلى الدور التدميري للولايات المتحدة، التي فشلت في إرساء الاستقرار والسلام في الأراضي المحتلة كوسيط، بل إنها وسعت نطاق التوترات من خلال دعمها المستمر للکيان الإسرائيلي.
من وجهة نظر بكين، إن ما يحدث الآن في غزة، هو نتيجة سنوات من الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، وما تقوم به فصائل المقاومة لاستعادة الأراضي المفقودة، لا يعتبر عملاً إرهابياً فحسب، بل دفاعاً عن حقوقها أيضاً.
رغم أن عمليات أنصار الله خلقت مشاكل للتجارة البحرية في البحر الأحمر، فإن الصين ترى أن أهدافها لا تخلو من أساس منطقي، لأن الولايات المتحدة لم تختر طريقةً معقولةً لحل المشكلة، بل اختارت طريقةً تؤدي إلى تفاقم الأوضاع.