أعاد التوتر القائم في البحر الأحمر إلى الأذهان الأوروبية المخاوف من عودة ارتفاع التضخم في أسواقها فالاقتصاد الأوروبي، الذي يقف على حافة الركود في ظل مساعيه لكبح جماح التضخم المرتفع، يمكن أن تعيق تلك الاضطرابات خطط البنك المركزي للبدء في خفض أسعار الفائدة العام الجاري.
فيما لا يزال مسلسل معاناة الاقتصاد الأوروبي مستمرًا، في ظل تركبية معقدة من الأسباب التي نجم عنها خفوت نجم ودور أوروبا اقتصاديًا مقابل اقتصادات واعدة كالصين و الهند التي تخطو خطوات ثابتة في هذا الاتجاه، حيث خفضت المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، توقعاتها للنمو لعام 2024، مشيرة إلى أن الاقتصاد “فقد الزخم” في عام 2023 حيث ألقى التضخم بظلاله على الإنفاق الاستهلاكي، وأعاق ارتفاع أسعار الفائدة في البنك المركزي الاقتراض للمشتريات والاستثمار.
فيما رأت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ارتفاع تكاليف الشحن نتيجة للتوترات المستمرة في البحر الأحمر قد يعيق الجهود العالمية ضد التضخم، وتشير تقديرات المجموعة، التي تتخذ من باريس مقراً لها، إلى أن الارتفاع الأخير بنسبة 100% في أسعار الشحن البحري قد يؤدي إلى زيادة تضخم أسعار الواردات في بلدانها الأعضاء الثماني والثلاثين بنحو خمس نقاط مئوية إذا استمرت هذه الزيادة، وقالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أحدث توقعاتها الاقتصادية إن ذلك قد يضيف 0.4 نقطة مئوية إلى إجمالي ارتفاع الأسعار بعد عام.
وكانت قد أدت الهجمات التي تنفذها جماعة أنصار الله اليمنية دعماً لأهل غزة من خلال استهدافها بالصواريخ والمسيّرات لسفن شحن بالبحر الأحمر تملكها أو تشغلها شركات إسرائيلية، أو تنقل بضائع من كيان الاحتلال الاسرائيلي وإليه في الأسابيع الأخيرة إلى تعطيل حركة الشحن في قناة السويس، التي تُعَد أسرع طريق بحري بين آسيا وأوروبا، حيث يمر حوالي 15% من حجم التجارة البحرية العالمية عبرها، بالنسبة للاقتصاد الأوروبي الذي يواجه تحديات اقتصادية ويسعى للتحكم في التضخم المرتفع، يمكن أن يكون تعطيل التجارة لفترة طويلة عاملًا قادرًا على عرقلة خطط البنوك المركزية لخفض أسعار الفائدة هذا العام.
ودخلت التوترات في البحر الأحمر مرحلة تصعيد لافتة منذ استهداف لأنصار الله، في 9 يناير/ كانون الثاني ، سفينة أمريكية بشكل مباشر، فيما أعلن البيت الأبيض، في بيان مشترك لـ10 دول بعد ثلاثة أيام، أنه “ردا على هجمات أنصار الله ضد السفن التجارية في البحر الأحمر، نفذت القوات الأمريكية والبريطانية هجمات مشتركة ضد أهداف في مناطق في اليمن” .
عودة التضخم للأسواق الأوروبية
تضغط في أوروبا، أزمة البحر الأحمر على آمال اقتصاد منطقة اليورو تتوقع تقديرات لمكتب الإحصاءات الأوروبية، أن تتسبب أزمة البحر الأحمر في ارتفاع التضخم بنصف درجة مئوية، على مدى الربعين الأول والثاني من 2022 ، وبهدف كبح التضخم، نفذ البنك المركزي الأوروبي 10 زيادات متتالية على أسعار الفائدة بدأت في يوليو/تموز 2022؛ وبينما كان المحللون يرجحون أن يقوم المركزي الأوروبي بخفض أسعار الفائدة 6 مرات في 2024، إلا أن توترات البحر الأحمر قد تؤجل هذا الخفض، وحسب شبكة “CNBC” عن ستيفن شوارتز، نائب الرئيس التنفيذي لشركة ويلز فارجو للمستحقات العالمية والتمويل التجاري قوله: “لقد شعرت أوروبا بأكبر الأثر من الوضع في البحر الأحمر.. آثار ارتفاع الأسعار بدأت تظهر على السلع”.
وفيما يلي بعض العوامل التي يأخذها صناع السياسات في الاعتبار عند تقييمهم لآثار الاضطرابات.
ما تأثير التوتر الحاصل في الاقتصاد الأوروبي إلى اليوم
على مستوى الاقتصاد الكلي، ذكر المحللون أن التأثير كان طفيف وبعضه لا يذكر، وقالت وزارة الاقتصاد الألمانية الأسبوع الماضي إن التأثير الوحيد الملحوظ على الإنتاج حتى الآن تمثل في حالات قليلة من تأخر التسليم، وفي هذا السياق تتفق تعليقات لرئيس بنك إنجلترا (المركزي) أندرو بيلي مع ما ذكرته ألمانيا، وقال في جلسة استماع في البرلمان إن الأمر “لم يكُن له في الواقع التأثير الذي خشيت حدوثه بقدر ما”، لكن الغموض لا يزال يكتنف الموقف. ولم يظهر حتى الآن أي تأثير للهجمات في المؤشرات الاقتصادية الرئيسة في أوروبا التي تضمنت أرقام التضخم لديسمبر (كانون الأول) الماضي.
علماً أن هذا الأخير ارتفع بقدر طفيف، وقد يتغير الوضع مع صدور البيانات الأولية لمؤشر مديري المشتريات ، لمعرفة نشاط الاقتصادات الأوروبية في يناير (كانون الثاني) الجاري ونشر التقدير الأول للتضخم في منطقة اليورو للشهر نفسه الذي سيصدر في الأول من فبراير (شباط)، ومن المحتمل أن تطرح رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد هذا الموضوع خلال مؤتمر صحفي عقب اجتماع لتحديد سعر الفائدة بعد غدٍ الخميس.
لماذا تأخر وصول تأثير التوترات إلى الاقتصاد الأوروبي إلى الآن؟
ما زال يعاني أداء الاقتصاد العالمي بأنه أقل من المطلوب فهو يظهر الكثير من البطء في المنظومة الاقتصادية العالمية وبالنظر إلى أسعار النفط على سبيل المثال، فهي السبيل الأوضح القادر على نقل مشكلات الشرق الأوسط إلى الاقتصادات في أوروبا وخارجها، إلا أن التأثير لم ينتقل عبرها بعد، لأنه كما قال المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول لـ”رويترز” الأسبوع الماضي، فإن الإمدادات قوية ونمو الطلب يتباطأ، وأضاف إنه “لا أتوقع تغيراً كبيراً في أسعار النفط لأن لدينا كمية كبيرة من النفط في السوق”، وحسب شركة “دويتشه بوست” (دي إتش إل) الألمانية للخدمات اللوجستية أنه لا يزال لديها خيار الشحن الجوي ولكنه ليس ميسراً للجميع لأن الاقتصاد العالمي “لم ينتعش بالفعل بعد”.
وهذه الصورة الاقتصادية القاتمة تجعل من الصعب على الشركات تحميل المستهلكين أي تكلفة أعلى التي قد تأتي على سبيل المثال من الاضطرار إلى تحويل مسار الشحن والالتفاف حول أفريقيا، حيث إن شركات كثيرة عملت في العام الماضي على رفع هوامش الأرباح لذلك فهي قادرة على أن تتقبل احتمال الاضطرار ببساطة إلى السحب من هذه الهوامش، حتى إن شركة “إيكيا” لبيع الأثاث بالتجزئة قالت إنها ستلتزم ما قررته من خفض للأسعار وإن لديها مخزوناً يستوعب أي صدمات في سلسلة التوريد، وما دام أن هذه هي حال عدد كافٍ من الشركات، فلن يؤدي تعطل حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر إلى زيادة تضخم أسعار المستهلكين.
إلى متى يمكن لصناع القرار الأوروبي التحايل على آثار اضطرابات البحر الأحمر؟
الإجابة ببساطة لا يمكن لصناع القرار التحايل لوقت طويل على هذه الآثار، وكلما طالت هذه الأزمة زاد تأثيرها في الشركات وفي الاقتصاد، وعلى المدى الطويل، قد تشجع الاضطرابات الحالية الشركات على تطوير الخطط التي وضعت لإيجاد طرق إمداد بديلة وأكثر قابلية للتوقع بعد أن تسببت جائحة كورونا في تعطيل حركة التجارة، كما تشمل المقترحات الاعتماد على طرق تجارية أطول ولكن أكثر أماناً، إضافة إلى نقل العمليات لمناطق أقرب من الأسواق الرئيسة للمنتجات أو إعادتها بالكامل إلى الأسواق الرئيسة.
وفي هذا الصدد تخطط شركة “تيسلا” الأميركية لصناعة السيارات الكهربائية لتعليق جزء كبير من الإنتاج في مصنعها بألمانيا في الفترة من الـ29 من يناير الجاري إلى الـ11 من فبراير المقبل بسبب نقص المكونات، كما أوقفت “فولفو” السويدية الإنتاج في مصنعها ببلجيكا لمدة ثلاثة أيام الشهر الماضي، ومن المرجح أن تترك أزمة البحر الأحمر تأثيراً أكبر في أنشطة الاستيراد مقارنة بتأثيرها في التصدير، إذ إن ما يقارب ربع البضائع الواردة إلى أوروبا تسافر عبر طريق البحر من آسيا، بينما يمر عبر الممر البحري نحو 10 في المئة فقط من صادرات القارة.
من جانبها قدرت “أكسفورد إيكونوميكس في مذكرة بتاريخ الرابع من يناير استندت إلى توقعات صندوق النقد الدولي لكلفة التأثير في حركة الشحن، أن ارتفاع تكلفة الشحن بالحاويات ستزيد التضخم بمعدل 0.6 في المئة خلال عام، ورجح البنك المركزي الأوروبي أن ينخفض التضخم في منطقة اليورو من 5.4 في المئة في 2023 إلى 2.7 في المئة هذا العام، وقالت “أكسفورد إيكونوميكس”، “على رغم أن الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر لن توقف تباطؤ التضخم، فإنها ستؤثر في وتيرة عودته للمعدلات الطبيعية”، ولا تتوقع المذكرة أن تؤثر الاضطرابات في التوجه نحو خفض أسعار الفائدة.
نقص في الإمدادات إلى أوروبا
نقلت وكالة رويترز عن بيانات لمجموعة بورصات لندن، وتجار ومحللين، قولهم إن سوق خام برنت وبعض أسواق النفط في أوروبا وأفريقيا تشهد نقصا يعود، في جزء منه، إلى تأخر الشحنات بعد تجنب بعض سفن الشحن للسفر عبر البحر الأحمر، وتزامن التعطيل مع عوامل أخرى منها انقطاعات في الإنتاج وزيادة الطلب في الصين لتشتد المنافسة على إمدادات الخام التي لا تحتاج إلى عبور قناة السويس، ويقول محللون إن الأزمة أوضح في الأسواق الأوروبية، وفق الوكالة.
وفي علامة على نقص الإمدادات، سجل هيكل سوق العقود الآجلة لخام برنت القياسي أعلى مستوياته في شهرين أمس، مع ابتعاد الناقلات عن البحر الأحمر بعد ضربات جوية شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على أهداف في اليمن، وتراجعت كميات الخام المتجهة من الشرق الأوسط إلى أوروبا، إذ تظهر بيانات كبلر أن حجم الخام المتجه إلى أوروبا من الشرق الأوسط انخفض إلى النصف تقريبا مسجلا نحو 570 ألف برميل يوميا في ديسمبر/كانون الأول من 1.07 مليون برميل يوميا في أكتوبر/تشرين الأول.
آثار المخاطر السياسية على الاقتصاد الأوروبي
مع تفاقم المخاطر السياسية عالمياً وتراجع الطلب على المنتجات الأوروبية عمدت دول الاتحاد الأوروبي لاتباع سياسات تقشف صارمة أضعفت عاملين مهمين:
الأول: البحث و التطوير الذي تراجع مقارنة مع كل من الصين و الولايات المتحدة.
الثاني: تراجع حوافز الاستثمار وخصوصاً في المشاريع الكبيرة والاقتصار على المبادرات الضيقة والمحدودة.
من جهة أخرى، انعكست التوترات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي والمناطق القريبة منه في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الذين حملوا معهم أعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة رغم مساهمات الكثيرين منهم إلى حد ما في دعم سوق العمل.