جاءت ضربات أنصار الله في البحر الأحمر على سفن الشحن التابعة لكيان الاحتلال الإسرائيلي لتشكل ضربة مضاعفة للاقتصاد الإسرائيلي إلى جانب تأثيرات “عملية طوفان الأقصى” والتكلفة الباهظة للحرب على غزة، وتداعيات تفاقم المخاطر الأمنية والجيوسياسية على الميزانية الإسرائيلية التي من المتوقع أن يرتفع فيها العجز، وتكلفة الاستدانة لتمويل نفقات جيش الاحتلال المتصاعدة، وهروب المستثمرين من الأصول الإسرائيلية، وارتفاع الديون وتكلفة خدمتها على البلاد.
حيث أصابت عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من حرب على قطاع غزة اقتصاد “إسرائيل” بركود هز جنباته بصورة متدرجة، فقد عانت قطاعات من شلل شبه تام واستمر نشاط قطاعات أخرى بحده الأدنى، وذلك وسط تعتيم من الجهات الرسمية على نتائج الربع الأخير من العام 2023.
بالإضافة لعدم نجاحه في القضاء عسكرياَ على حماس وبقية فصائل المقاومة رغم مرور أكثر من 100 يوم من القتال وفشله في الوصول إلى الأسرى المحتجزين في القطاع، كبد الهجوم على غزة تل أبيب خسائر بشرية ومادية واقتصادية ضخمة يتعذر حتى على الولايات المتحدة تعويضها، بالإضافة إلى ذلك كانت عمليات حزب الله على الجبهة اللبنانية محسوبة حتى الآن بدقة كبيرة فقد فرضت على جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يخصص لها 60 ألف من قواته العاملة لمواجهتها زيادة على نصف القوى البحرية وحوالي 22 في المئة من وحدات سلاح الجو.
دمار اقتصادي
سلط تقرير لصحيفة نيويورك تايمز تم نشره في 11 يناير الضوء على التبعات التي يواجهها قطاع التكنولوجيا، الذي يشتهر به كيان الاحتلال، بسبب الحرب التي تشنها على غزة، وذكرت الصحيفة أن الحرب أثرت في الاقتصاد الإسرائيلي “بشكل قد لا يبدو ملحوظا خارج البلاد”، حيث توقفت السياحة وارتفعت نفقات الحكومة، والضربة التي تلقتها شركات التكنولوجيا “هزت الثقة في قطاع كان قد أضحى محركا أساسيا في اقتصاد إسرائيل”، وساهم استدعاء 350 ألفا من جنود الاحتياط في تشتيت العمليات التشغيلية لدى العديد من الشركات، كما بدأ المستثمرون بالتردد وفقا لإحصائية أجرتها سلطة الابتكار الإسرائيلية، الممولة حكومياً، بالتعاون مع مركز “Start-Up Nation Policy”.
وقال جوناثان كاتز، الخبير الاقتصادي السابق في وزارة المالية الإسرائيلية، إن مصدر القلق الآخر هو الاستثمار الأجنبي، الذي كان ضعيفا بالفعل قبل 7 أكتوبر بسبب عدم اليقين الناجم عن النزاع بين حكومة رئيس الوزراء، نتانياهو، اليمينية والمحكمة العليا الإسرائيلية، وقال كاتز للصحيفة: “السؤال الآن هو ما إذا كان الأجانب سيظلون يرغبون في الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية، أو ما إذا كانوا يفضلون استثمار أموالهم في مكان آمن وهادئ، مثل أيرلندا”، وبينما ستؤدي الحرب إلى إنفاق مليارات الدولارات الإضافية من ميزانية الدولة، وجه 300 خبير اقتصادي إسرائيلي رسالة مفتوحة إلى حكومة نتانياهو في نهاية أكتوبر، وطالبوه باتخاذ تدابير عاجلة، متهمين إياه بأنه “لا يفهم حجم الأزمة الاقتصادية التي قد يواجهها الاقتصاد الإسرائيلي”.
ضربات أنصار الله
من المتوقع أن تقود تداعيات هجمات أنصار الله على السفن التجارية إلى عاملين رئيسيين يؤثران على الاقتصاد الإسرائيلي، وهما نقص المواد التموينية وارتفاع معدل التضخم في “إسرائيل”، وكذلك التأثير على الاقتصاد العالمي في الدول الغربية، وخاصة في أوروبا، ومن شأن الضغط التجاري على الشركات الأوروبية التي تعتمد على سلاسل الإمداد الآسيوية أن تضعف من شعبية قادة الدول الأوروبية الداعمين للحكومة الإسرائيلية وتدريجياً تتزايد الموجات الشعبية الغاضبة في الغرب من حرب غزة وبالتالي على الحكومة الإسرائيلية، بطبيعة الحال فإن الاقتصاد الإسرائيلي هو المتضرر الأكبر، حيث تجري الاستهدافات للناقلات المرتبطة بتل أبيب على صعيدي الصادرات والواردات.
وفي ضوء خسائر قطاعات السياحة و انخفاض معدلات النمو في الاقتصاد الإسرائيلي فإن عمليات أنصار الله بالبحر الأحمر أدت إلى تأثيرات سلبية على عمل الموانئ الإسرائيلية، وأصبح بعضها خاويا تماما من السفن، إنه واقع يجبر كيان الاحتلال الاسرائيلي والمتعاملين معه على استخدام وسائل نقل أخرى أو ممرات بحرية بعيدة عن البحر الأحمر، ما يعني زيادة تكلفة التجارة، وسط توقعات بأن تتأثر تجارة كيان الاحتلال الخارجية بشكل عام في ضوء ما أسفرت عنه تداعيات عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية.
ويرى مراقبون أن قيمة التجارة الخارجية لكيان الاحتلال التي بلغت نحو 180.7 مليار دولار عام 2022 -وفقا للبنك الدولي- يتوقع أن تتراجع العام الحالي، وهو ما سيزيد عجز الاقتصاد التجاري، وبشكل عام، يمكن أن تتأثر التجارة الخارجية للدول العربية المطبعة مع كيان الاحتلال (مصر، الأردن، الإمارات، البحرين، المغرب، السودان) بالإضافة إلى تركيا التي لها نصيب كبير في العلاقات التجارية مع تل أبيب.
إحصاء للخسائر
بددت الحرب الحالية التي تعد أسوأ تصعيد مسلح تدخله “إسرائيل” منذ 50 عاماً مكاسب الرفاهية التي كان ينعم بها الاقتصاد على مدار عقود ماضية بدعم من صادرات التكنولوجيا واكتشافات الغاز الطبيعي وارتفاع مستويات المعيشة فتحول الاقتصاد المستقر إلى ركود يعصف بجسده و تمثلت أهم إحصاءات الخسائر في:
خنق سوق العمل
ومنذ بداية الحرب حتى الثلث الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قدم 191 ألفا و666 شخصًا في الأراضي المحتلة طلبات للحصول على إعانات بطالة، فيما استدعت المؤسسة العسكرية نحو 360 ألفا من جنود الاحتياط، وهو أكبر استدعاء منذ حرب عام 1973.
و طبقاً لبيانات مكتب الإحصاءات المركزي الإسرائيلي فقد ارتفع معدل البطالة في الأراضي المحتلة إلى 9.6% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعد فرار عشرات آلاف الإسرائيليين ممن كانوا يعيشون بالقرب من الحدود مع غزة، وبلغ عدد العاطلين عن العمل 428 ألفا و400 شخص مقابل 163 ألفا و600 في سبتمبر/ أيلول الماضي قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، و أظهرت بيانات وزارة العمل الإسرائيلية أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني أن نحو 46 ألف عامل إسرائيلي تم تسريحهم منذ اندلاع الحرب إلى ذلك الحين، وفي 17 ديسبمبر/كانون الأول الماضي أعلن مطار بن غوريون الدولي الإسرائيلي إخراج 600 موظف في إجازة غير مدفوعة، وتقليص مهام وظيفة ألف عامل آخر إلى 75% جراء الأزمة المالية التي يتعرض لها.
فيما حذر ممثل عن وزارة المالية الإسرائيلية، خلال ديسمبر/كانون الأول من خسائر إسرائيلية كبيرة نتيجة عدم السماح للعمال الفلسطينيين بالدخول إليها، مرجحا أن تصل إلى 3 مليارات شيكل (830 مليون دولار) شهريًا، وفي سياق مرتبط تراجع دخل نحو 20% من الإسرائيليين بشكل كبير منذ بداية الحرب وحتى نهاية آخر شهر في السنة الماضية، وفق تقرير الفقر البديل الصادر عن منظمة ليتيت الإسرائيلية الخيرية المعنية بالأمن الغذائي.
شلل صناعة البناء في كيان الاحتلال
صحيفة جلوبز في تقرير له عنوان خاص منشور، ذكرت أن نصف مشاريع البناء في “إسرائيل” قد تم إغلاقها لأنه لا يوجد عامل أجنبي واحد (بعد فراره بعد 7 أكتوبر) على استعداد للعودة، و تواجه صناعة البناء والتشييد نقصًا حادًا وغير مسبوق في العمالة هذه الأيام، والسبب الرئيسي لذلك هو غياب ولو عامل واحد من دول مثل الهند وسريلانكا، في حين أن “إسرائيل” لا تسمح السياسات للعمال الفلسطينيين بالدخول، ما أدى إلى انخفاض ما لا يقل عن 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي ل”إسرائيل”.
وفقًا لـ Globes، ورغم أن جاكوب آشر، رئيس لجنة الداخلية والبيئة، أعلن في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ضرورة إنشاء قطار جوي لنقل العمال الأجانب إلى “إسرائيل”، إلا أنه لم يأت عامل واحد إلى “إسرائيل” منذ ذلك التاريخ، وحسب التقرير في إشارة إلى الإجراءات المتخذة ضد الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر، يذكر أنه حتى هذا التاريخ، كانت صناعة البناء في “إسرائيل” شبه كاملة واعتمدت على العمالة الفلسطينية، و75 ألف عامل يحملون تصاريح عمل من الضفة الغربية، و12 ألفاً من قطاع غزة، و15 ألفاً آخرين يعملون بشكل غير قانوني في هذه الصناعة، وهو رقم يقارب الثلث، وتشكل صناعة البناء والتشييد القوة العاملة بأكملها.
ولكن بعد بداية حرب غزة، مُنع دخول العمال الفلسطينيين، ما أدى إلى خلق فجوة قدرها 100 ألف شخص في هذه الصناعة، كان عدد العمال الأجانب قبل بدء الحرب 23 ألف شخص، معظمهم يحملون الجنسية المولدوفية أو الصينية، لكن الكثير منهم فضلوا المغادرة بسبب الوضع الأمني في الأراضي المحتلة، في هذا التقرير يتم التأكيد على أن هذه الأوضاع أدت إلى شلل صناعة البناء وخسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد الإسرائيلي برمته، وخسائرها بناء على التقييم المقدم في اجتماع اللجنة الخاصة للعمال الأجانب الأسبوع الماضي، كبّد الاقتصاد الإسرائيلي خسارة شهرية قدرها 2.4 مليار شيكل.
الزراعة في أزمة
أعلنت شركة “مهدرين” للاستثمار الزراعي وهي مصدر رئيسي للحمضيات وغيرها من المنتجات الزراعية في “إسرائيل”، أوائل الشهر الجاري خسارة تفوق 160 مليون شيكل (43.8 مليون دولار) للربع الثالث من عام 2023، وسط توقعات بمزيد من التأثيرات السلبية، بسبب الحرب على غزة، وحذرت “مهدرين” -في تقريرها- من أن الحرب على قطاع غزة التي اندلعت مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي لها “تأثير مادي كبير على القطاع الزراعي في إسرائيل بشكل عام، وعلى منطقة حدود قطاع غزة وشمال البلاد على وجه الخصوص”.
ونقلت صحيفة “غلوبس” الاقتصادية الإسرائيلية عن رئيس اتحاد المزارعين، عميت يفراح، قوله إن 75% من الخضراوات المستهلكة في “إسرائيل” تأتي من غلاف غزة، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب، وتُعرف المنطقة المحيطة بقطاع غزة باسم “رقعة الخضار الإسرائيلية” وتحوي أيضا مزارع للدواجن والماشية، إلى جانب مزارع للأسماك. وتعرضت هذه المساحة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، لهجمات من المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي ضيّق مستوى الأمن الغذائي الإسرائيلي
سؤال المستقبل
ينتشر الحديث في الداخل الإسرائيلي عن مستقبل قطاع غزة ما بعد الحرب، ولكن السؤال الأهم من وجهة هو ما مستقبل كيان الاحتلال الاسرائيلي ما بعد هذه الحرب؟ كل المؤشرات تؤكد أن مستقبل كيان الاحتلال لن يعود كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول سواء على المستوى العسكري أو المستوى السياسي أو الاقتصادي، فمعركة طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس في العمق الإسرائيلي أحدثت تغييرات جوهرية داخل كيان الاحتلال لمصلحة القضية الفلسطينية.
فعلى المستوى السياسي، فقد انهارت استراتيجية إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال عقيدة اللاحل، التي انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طوال فترة حكمه، التي امتدت منذ عام 2009، واعتمدت على عدم إيجاد حل استراتيجي للقضية الفلسطينية، فدائما ما يُبعد القضية الفلسطينية عن أولويات سلم الأجندة السياسية الإسرائيلية، والتقليل من أهمية إيجاد حل لها، تحت مبرر أنه يمكن تأجيلها لأجل غير مسمى من دون أن يؤثر ذلك على الأمن القومي الإسرائيلي.
وخصوصا بعد حدوث الانقسام الفلسطيني واستمراره لأكثر من 16 عاما، والأكثر من ذلك، تأكيده على أنه يمكن القفز على القضية الفلسطينية وتجميدها بالكامل في ظل سياسات إسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تديم الانقسام من جهة، وتفرض واقعا تهويديا استيطانيا من جهة أخرى، وبالتالي فتح الطريق أمام التطبيع العربي مع الدولة العبرية.
اعتمدت سياسة إدارة الصراع وعقيدة اللاحل لنتنياهو على نقض الفرضية السائدة لدى المجتمع الدولي ودول المنطقة بأن القضية الفلسطينية هي مفتاح للسلم والحرب، وأن لها تأثيرات كبيرة في استقرار منطقة الشرق الأوسط التي تعد من الأقاليم الأكثر أهمية للسياسة والاقتصاد العالميين، لذلك، سَوّق نتنياهو للدول الغربية وبعض دول المنطقة أن هناك إمكانية لإنشاء مشروعات كبرى مشتركة يمكن أن يتعاون بها كيان الاحتلال مع هذه الدول بعيدا عن أي تأثيرات سلبية لعدم حل القضية الفلسطينية.
وحسب صحيفة هآرتس يخشى 45% من الإسرائيليين، الذين شاركوا في استطلاع أجرته المنظمة في نوفمبر/تشرين الثاني، الصعوبات الاقتصادية بسبب الحرب وخصوصاً أن حكومة كيان الاحتلال لا تفصح رسميا عن بيانات اقتصادية للربع الأخير من السنة الذي بدأ بعملية طوفان الأقصى بالإضافة إلى أن الدعم الغربي لكيان الاحتلال يمكن أن يسد رمقها إلى حين لكنه لن يستمر لفترة طويلة بالنظر إلى أن الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات ويهم الرئيس جو بايدن أن تهدأ أوضاع الشرق الأوسط ولو بصورة نسبية حتى لا يؤثر على حملته الانتخابية وينجح في اكتساب أصوات الجالية المسلمة والعربية.