الحرب الأخيرة في غزة، رغم أنها تجري في أبعاد جغرافيا صغيرة، إلا أن آثارها الجيوسياسية والأمنية تتجاوز حدود الأراضي المحتلة، حيث كان لدخول حركة أنصار الله اليمنية في صراعات غزة والهجمات الواسعة التي تعرضت لها السفن الصهيونية في البحر الأحمر، أثر كبير على السياسات الأمنية للدول العربية في المنطقة، وكانت السعودية في ظل هذه التطورات أكثر من الاخرين.
التحالف البحري الأمريكي تحت عنوان “عملية حراس المنافع” الذي انطلق مؤخراً لحماية أمن السفن الصهيونية في البحر الأحمر، لم يذهب إلى أي مكان بسبب عدم مشاركة دول الخليج العربية في هذا التحالف وهي مسألة سيكون لها بلا شك تأثير سلبي على العلاقات العسكرية لهذه الدول، وخاصة السعودية مع واشنطن، وفي العام الماضي، بذلت الحكومة الأمريكية الكثير من الجهود لحمل السعودية على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلا أن السعوديين أعلنوا عن شروط للدخول إلى معسكر تل أبيب من أجل الحصول على تنازلات من واشنطن مقابل التعاون مع الكيان الصهيوني.
وكان أحد هذه الطلبات هو توقيع “اتفاقية أمنية” مع الولايات المتحدة بحيث تقدم الولايات المتحدة الدعم العسكري لهذه الدولة العربية عندما تتعرض سلامة أراضي المملكة العربية السعودية للتهديد. والاتفاقية الأمنية هي نفسها التي تم توقيعها مع الكيان الصهيوني منذ عدة عقود وتدعم هذا الكيان بكل قوته ضد الفلسطينيين.
ولذلك فإن السؤال المهم المطروح هنا هو ما هو تأثير هجمات أنصار الله في البحر الأحمر على الاتفاقية الأمنية بين الرياض وواشنطن مستقبلا؟
الاتفاقية الأمنية موضع شك
وفي الوقت الحالي، وبسبب حرب غزة، توقف مشروع تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، لكن السعوديين مارسوا ضغوطا على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الأشهر الأخيرة لقبول توقيع الاتفاقية الأمنية، ولم يتم الرد على هذا الطلب حتى الآن من قبل مسؤولي البيت الأبيض، بحجة أن الالتزام الدفاعي الرسمي للمملكة العربية السعودية سيكون غير مقبول ويتعارض مع المصالح الأمريكية، وسيكون فدية كبيرة جدًا بحيث لا يمكن دفعها للرياض لمجرد إقامة علاقات مع تل أبيب، الأمر الذي يبدو أنه أحد أسباب عدم مشاركة الرياض في التحالف البحري الأمريكي هو إعلان عدم الرضا.
ويستند الموقف السعودي الحذر بشأن الانضمام إلى التحالف البحري إلى تفسير بعض المراقبين الذين يعتبرون أن الغرض من “عملية حرس الرفاه” هو حشد جبهة دولية لحماية مصالح الكيان الصهيوني، ولذلك فإن حكام السعودية لا يريدون الدخول في تحالف هدفه ضمان مصالح محتلي القدس، في ظل غضب شديد لدى الرأي العام العالمي من جرائم هذا الكيان في غزة، بل إن هذا التحالف الذي أعطته الولايات المتحدة اسما دوليا، فشل حتى في جذب الحلفاء الغربيين، وأظهر انسحاب الدول الأوروبية من هذا التحالف أنه لا أحد مستعد للوقوف في مواجهة أمريكا والكيان الصهيوني في هذا الأمر.
ومن ناحية أخرى، فإن عدم مشاركتها في التحالف البحري، تكون بمثابة إشارة لقادة البيت الأبيض بأن الرياض ليست مستعدة للدخول في دوامات تل أبيب وواشنطن دون الحصول على تنازلات أمنية، لأن المشاركة في هذا التحالف الفاشل بالفعل هي أمر غير مقبول، وهي بمثابة إعلان الحرب على أنصار الله.
إن نيران هجمات أنصار الله هي فقط ضد السفن الصهيونية، وقد صرحت صنعاء مرارا وتكرارا أن هذه العملية لا تشكل أي تهديد للدول الأخرى، فإذا كانت السفن السعودية آمنة في البحر الأحمر، فذلك بسبب عدم تعاون البلاد مع التحالف الأمريكي.
وبما أن قادة أنصار الله قالوا إن مصالح أعضاء هذا التحالف تعتبر جزءاً من أهدافهم المشروعة، فإذا تعاون السعوديون مع مخططات واشنطن فإن مصالح السعودية في مياه البحر الأحمر ستكون أيضاً مهددة، أي إن الرياض تستقبل معظم شحناتها النفطية منها، وتنقلها إلى أوروبا وإفريقيا عبر مضيق باب المندب، ولذلك، فإن السعودية، التي تتابع عملية السلام مع أنصار الله في الأشهر الأخيرة، لم توافق على الانضمام إلى التحالف المناهض لليمن لزعزعة عملية التفاوض والانجرار إلى دوامة الحرب مع اليمنيين مرة أخرى، لأنه في اللحظة التي لا يوجد فيها تهديد من اليمنيين ضد المصلحة الاقتصادية السعودية، لكن المشاركة السعودية في التحالف البحري تعطي أنصار الله ذريعة لرفض التوقيع على أي اتفاق لإنهاء الحرب.
شراء الأسلحة من أمريكا
ومن القضايا الأخرى التي منعت السعودية من الانضمام إلى التحالف الأمريكي هي مسألة عقود الأسلحة بين البلدين، وتحاول السعودية، التي اعتمدت على الأسلحة الغربية لتأمين حدودها في العقود الأخيرة، تعزيز ترساناتها، لكن الحكومة الأمريكية فرضت قيودا في هذا المجال في العامين الماضيين، وحتى الكونغرس بعد التوتر النفطي بين الرياض وإيران، فإن واشنطن بشأن الأزمة في أوكرانيا دعت إلى وقف كامل لمبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية.
وتريد السعودية الضغط على الحكومة الأمريكية لاستئناف عملية بيع الأسلحة، لكن مسؤولي البيت الأبيض يرفضون بيع أسلحة متطورة للحلفاء العرب من أجل الحفاظ على التوازن العسكري في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني، وكما في مناقشة بيع مقاتلات F-35 للإمارات، فقد نفذوا السيناريو نفسه، وبسبب معارضة سلطات تل أبيب، أوقفوا بيع هذا السلاح الخطير وبدلاً من ذلك، سيقومون بتسليم انخفاض كفاءة عينة من هذه المقاتلة إلى أبو ظبي.
لا يريد السعوديون من قادة البيت الأبيض أن يمنعوا بيع الأسلحة بحجة انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، ولذلك، فإن سياسات “سقف واحد وهواءان” التي تنتهجها واشنطن في المجال الأمني، دفعت السعوديين إلى التوجه نحو التعاون العسكري مع روسيا والصين، ومن خلال زيادة العلاقات الأمنية مع دول الشرق، تحاول الرياض خلق توازن في البعد العسكري بين الولايات المتحدة وموسكو وبكين، حتى تتمكن من الاعتماد على دعم حلفائها في حال حدوث أزمة.
لقد أدرك حكام السعودية حقيقة أن الصين الآن تستطيع أن تلعب دورا على الساحة الدولية، وخاصة في منطقة غرب آسيا، أكثر من الولايات المتحدة، بما ينسجم مع مصالحها السياسية والأمنية، تماما كما لعبت بكين دورا مهما في اتفاق السلام بين إيران والسعودية، حتى إن الصين تتمتع بعلاقات وثيقة مع حكومة الإنقاذ الوطني اليمنية، ويمكنها المشاركة بنشاط في اتفاق السلام بين الرياض وصنعاء وإعادة الاستقرار إلى شبه الجزيرة من خلال التوسط بين الجانبين، لكن الولايات المتحدة لم تعمل فقط كعنصر فاعل، و إن هذه الأداة لم تكن في الخليج الفارسي، ولكنها من خلال تأجيج التوترات بين دول المنطقة جلبت عدم الاستقرار إليها.
ونظراً لتعقيد التغيرات والتطورات في المنطقة، يمكن القول إن توقيع الاتفاقية الأمنية بين السعودية والولايات المتحدة يخيم عليه جو من عدم اليقين، لأن هناك احتمالاً ألا يكون مسؤولو البيت الأبيض على استعداد للتوقيع على مثل هذا الاتفاق للانتقام من الرياض بحجة عدم مشاركة السعودية في التحالف البحري، ومن ناحية أخرى، فإن أمريكا المتورطة في قضايا أمنية كثيرة في مناطق مختلفة، لا تريد الدخول في مرحلة جديدة من الأزمة في المنطقة التي أصبحت غير مستقرة إلى حد كبير بعد حرب غزة، من خلال زيادة التزاماتها الأمنية في منطقة الخليج الفارسي، كما أن توقيع اتفاقية أمنية مع السعودية سيدفع مشايخ العرب الآخرين نحو مثل هذه الاتفاقيات، وإذا رفضتها واشنطن، فقد يتجهون إلى التعاون مع روسيا والصين، وهو ما يتعارض مع سياسات واشنطن.