استندت “إسرائيل” إلى تبريرات متنوعة لحظر المقابلات الصحفية مع المحتجزين الفلسطينيين الذين تم الإفراج عنهم من غزة، ورغم أن الجوانب الصحية النفسية للمحتجزين تشكل جزءًا من هذه التبريرات، إلا أن هناك مخاوف بشأن أهداف غير معلنة ومخفية تحت هذا الحظر، وفي إعلان رسمي، أشارت “إسرائيل” إلى الحاجة للرعاية النفسية للمحررين، ورغم أن هذه الحاجة قد تكون مبررة، يظهر أن هناك أهدافًا أخرى يتم التستر عليها، وتشير تصريحات رسمية سابقة إلى أن التحقيق واستخلاص المعلومات الاستخبارية حول حماس وتحركاتها ليست الهدف الوحيد، بل توجد حسابات أعمق وأكثر حساسية، وفي المرحلة الأولى من الحرب على غزة، أكدت “إسرائيل” علانية أن هدفها هو تدمير حركة حماس، متجاهلة بشكل ملحوظ قضية المحتجزين الإسرائيليين، وقد أثارت تلميحات حول إمكانية تضحية هؤلاء المحتجزين كـ”كبش فداء” في إطار خدمة ما تسميه “الأمن القومي”.
الإسرائيليون ومتاهة الاختيار
مع بداية الاستفاقة من الصدمة الكبرى، وتحت ضغط الرأي العام، بدأت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة تلمح إلى هدف آخر للحرب، وهو استعادة المحتجزين، ورغم ذلك، لم تتحرك فعليًا في هذا الاتجاه، حيث بقيت تصريحات قادتها ضريبة شفوية، تراهن على الحلول العسكرية واستخدام القوة والدمار لتحقيق الأهداف المنشودة، عندما بدأت عائلات المحتجزين في رفع أصواتها للضغط من أجل استعادة أحبائهم، تمت دعوتهم إلى الصمت، مع استمرار التوغل البري الذي يخدم هدفين أساسيين: تدمير حماس واستعادة الأسرى، وفي وقت لاحق، أُضيف هدف ثالث إلى المعادلة، وهو “منع وجود تهديد عسكري داخل قطاع غزة يشكل تهديداً لإسرائيل”.
ولكن، لم تجرِ رياح غزة بما تشتهيه السفن الإسرائيلية، على الرغم من إلقاء الجحيم على غزة وارتكاب مذابح بحق المدنيين، والتسبب في قتل وإصابة أعداد مهولة من السكان، فإن المقاومة الفلسطينية لم تُهزَم، حتى اللحظة، تظل حماس قائمة ومتماسكة، بقيادة يحيى السنوار، على الرغم من تصريحات وتقديرات إسرائيلية تُؤكد ذلك، كما يشير المحلل السياسي الإسرائيلي ناحوم بارنياع، الذي أوضح في مقال نُشر في “يديعوت أحرونوت”، أنه لا توجد صفقات سهلة، ويقدم ثلاث خلاصات فورية من تحليله لتطورات الحرب بعد خمسين يومًا، يشير أولاً إلى أن حماس ما زالت قوية وأن يحيى السنوار يقودها، وأن الحديث الإسرائيلي عن انهيارها كان مجرد أمنيات، كما يُشير ثانيًا إلى أن اتفاق الصفقة غير مُغلق تمامًا، ويحتوي على فجوات وبنود غامضة تفتح الباب أمام تأويلات مختلفة، ويتوقع بارنياع تكرار الأزمات والمناورات في المراحل القادمة من الصفقة، مؤكدًا أن من الصعب على “إسرائيل” التراجع عن الصفقة، لأن هذا الاتفاق مُلتزم به ويهم الكثير من الإسرائيليين.
وبجانب ضغوط العائلات والجانب الإنساني، تخشى “إسرائيل” من تكرار سيناريو الطيار رون أراد الذي اختفى منذ سقوط طائرته في لبنان عام 1983، مع تحرر “إسرائيل” من صدمتها الأولية، بدأت أوساط واسعة في البلاد تدرك أن استعادة هؤلاء الأسرى ليست مجرد “قيمة يهودية عليا” كما قال نتنياهو، مستشهداً بالطبيب والفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون، ولكنها تمثل قيمة استراتيجية حيوية لوعي وثقة الإسرائيليين، وبقاء 241 محتجزًا إسرائيليًا في الأسر داخل الغموض يثير مقولة خطيرة لدى الإسرائيليين، تعني هذه المقولة أنهم، في ساعة الأزمة ولحظة الحقيقة، لن يجدوا دولة تحميهم من الهجمات وتستعيدهم إذا وقعوا في الأسر، إن مثل هذه المقولة لها حساسية خاصة بالنسبة لوعي الإسرائيليين، ويمكن أن تفقدهم الثقة ليس فقط في الحكومة التي فقدت شرعيتها، بل في الدولة وفي “الجيش” الذي يعد قدس الأقداس بالنسبة لهم، وأيضًا الثقة في أنفسهم وفي مستقبل العيش في الكيان.
وبالإضافة إلى ذلك، تزيد معضلة الـ 220 ألف إسرائيلي الذين غادروا منازلهم في المناطق الحدودية في الجنوب والشمال ويُحتمل أن يرفضوا العودة بسبب الخوف وفقدان الثقة، وعلى هذا، يؤكد رئيس الجناح الأمني-السياسي في وزارة الأمن السابق، الجنرال في الاحتياط عاموس غلعاد، أن استعادة كل المحتجزين تمثل مهمة وطنية استراتيجية، وفي حديثه للإذاعة العبرية صباح اليوم، أشار غلعاد إلى أن استعادة كل المحتجزين تعد مهمة من الناحية القيمية اليهودية، وهي هدف ضروري للحفاظ على الأمن القومي والمناعة القومية، ويفسر هذا تصريح أحد المسؤولين البارزين في منطقة غلاف غزة، حاييم لافين، الذي ألقاه أمام عشرات الآلاف من المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب مؤخرا، والذين كانوا يعبرون عن تضامنهم مع عائلات المحتجزين، قال لافين إنه من دون عودة كل المختطفين، لا يوجد انتصار في هذه الحرب.
وفي مظاهرة تل أبيب المنظمة لاستذكار 50 يومًا من “طوفان الأقصى”، دعا لافين إلى مواصلة التظاهر كل سبت وإطلاق الصرخة حتى عودة الجميع، وأكد أنه يجب مواصلة القتال حتى تحرير جميع المحتجزين، بمن فيهم شاؤول أرون وهدار غولدن، وأفراهام مانغيستو وهشام السيد الذين تم احتجازهم في غزة منذ عام 2014، وفي استمراره، قال لافين، الذي يعتبر رئيسًا سابقًا لمجلس “أشكول”، أمام المتظاهرين: ‘هذه المرة لدينا قوة كافية، علينا أن نملأ الكيان بصرخة كبرى’.
وتظهر القيمة الحيوية للمناعة الوطنية وثقة الإسرائيليين بأنفسهم التي لا تزال تتسرب، كما يرى محلل الشؤون السياسية والدولية في القناة 12 العبرية، نداف أيال، الذي يقول في مقال نُشِرَ في صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم: إن “التكافل هو طبقة مهمة جدا في منظومة الدفاع والحماية الإسرائيلية”، يتسق هذا التصريح مع رؤية تقليدية من معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، الذي يعقد سنويًا مؤتمرًا حول المناعة الوطنية، مؤكدًا فيه أن المناعة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية في منظومة الحماية والردع، ويشارك في البحث المستمر حول كيفية صيانتها.
تعقيد السرد الإسرائيلي
في مقال بعنوان “شظايا ضوء”، يقول أيال في تحليله إن ‘التكافل هو قيمة عليا وينبغي إثباته قولا وفعلا وصب المضمون فيه، ولذلك فإن القرار بالقيام بهذه الصفقة هو قرار جوهري جدا’، يفسر هذا المفهوم، الذي توافقت عليه “إسرائيل”، قرارها الرسمي وغير الرسمي بإبعاد المحتجزين العائدين من غزة عن الكاميرات، ويتعلق هذا مباشرة بموضوع المناعة ومحاولات تجنب ما قد يزيد من جراح الوعي، ويؤثر سلبًا على الثقة المتشظية التي تعاني منها منذ السابع من أكتوبر، وفي توجيهاتها للصحافة بالامتناع عن مقابلة المحتجزين العائدين، تسعى المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة لتحقيق غايتين مرتبطتين بمناعة الإسرائيليين، بناءً على تجربة سابقة مع السيدة الإسرائيلية يوخباد ليفشيتس، تخشى من تكرار سيناريو يتحدث فيه عن المعاملة الحسنة والإنسانية مع المحتجزين من قبل حماس، ما يتناقض مع جهود شيطنة الحركة ويزيد من تعقيد السرد الإسرائيلي في العالم.
ومع ذلك، أشارت تسريبات وتصريحات قليلة من أقارب المحتجزين إلى أن حماس قد عاملتهم بشكل إنساني، وقد أكد تقرير نشره موقع “واللا” العبري ذلك في تقرير أمس، وفي المقابل، يخشى الجانب الإسرائيلي من الكشف عن شهادات محتملة للمحتجزين العائدين حول عمليات التعذيب والتنكيل، والتي قد تعمق حالة الخوف في نفوس الإسرائيليين، وتزيد من ضغط عائلات المحتجزين لاستعادتهم بكل الوسائل الممكنة، ولذلك، تعمل سلطات الاحتلال على منع مظاهر الاحتفال داخل الضفة الغربية مع الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال، ويكون هذا ليس فقط انتقامًا أو خوفًا من ديناميات قد تؤجج حالة الاحتقان وترفع من روح المقاومة لدى الفلسطينيين، بل أيضًا من أجل حماية وعي الإسرائيليين من المزيد من التأثيرات السلبية.
وبالنسبة لـ”إسرائيل” أيضًا، كانت وما زالت عملية ‘طوفان الأقصى’ زلزالًا وحدثًا جليلًا، خسائره الخطيرة أكبر وأخطر من قتل وإصابة آلاف الإسرائيليين من الجيش والمدنيين، واحتجاز مئات منهم، وخسارة مادية هائلة، الخسارة الخطيرة تشظي الوعي وتهتز لدى الإسرائيليين، ما يبدو أحيانًا ككسر في الزجاج يحتاج إلى بحر من الجهود لترميمه على مدى فترة طويلة، من ضمنها التوافق الواسع جدًا على ضرورة استعادة كل المحتجزين حتى لو كان الثمن باهظًا.
وهذه الحاجة الكبيرة في “إسرائيل” دفعتها للتوجه مجددًا ليلة أمس إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي كان في عطلة عيد، لطلب تدخل قطر للضغط على حماس لإخراج الدفعة الثانية من تبادل الأسرى، ويعبر مراقبون إسرائيليون عن ارتياحهم لدور بايدن كوسيط قادر على تحقيق الاتفاق، مشيدين أيضًا بـ ‘الدور المهم الذي تؤديه مصر هذه المرة أيضًا’، وفقًا لتعبير عاموس جلعاد، وهو الجنرال في الاحتياط ورئيس الجناح الأمني- السياسي السابق في وزارة الأمن، حيث يعتبر جلعاد وغيره من المحللين أنه يجب التركيز على دور مصر وعدم التركيز الكبير على دور قطر، التي تعتبر أقرب لحماس وراعيًا لها.
وفي هذا السياق، يقول المحلل العسكري في صحيفة ‘هآرتس’، عاموس هارئيل: إن ‘الهدف المركزي للعملية في السابع من أكتوبر كان إشاعة مشاعر الرعب في نفوس الإسرائيليين، وقد نجحت حماس في ذلك للأسف’، ويضيف إن يحيى السنوار يواصل ‘اللعب على الأعصاب’ ويدير حربًا نفسية بدأها في السابع من أكتوبر وسيواصلها في المراحل القادمة، وحول هذا، يقول هارئيل: ‘هذه ليست مفاجأة، فالسنوار يحاول تصعيد الحرب النفسية ضد “إسرائيل”، وكان من الواضح أنه سيحاول إدارة حرب نفسية ضدها من أجل زيادة وسائل الضغط التي بحوزته، ففرض الخوف وترهيب الإسرائيليين بشكل كبير كان واحدًا من أهداف هجمات السابع من أكتوبر، وبشكل مؤسف، نجحت حماس في تحقيق هذا الهدف بالكامل، ومن جانب السنوار، لا سبب لعدم مواصلة ذلك.
هارئيل، الذي شكك في النجاح العسكري الإسرائيلي خلال الهجوم البري منذ السابع والعشرين من أكتوبر الماضي، يرى أن التأخير ليلة أمس في إتمام الدفعة الثانية من الاتفاق مع حماس، يشكل إشارة تحذير لتنفيذ المراحل اللاحقة من الصفقة، حيث يعتبر أن تأجيل الحرب التي يتطلع إليها السنوار يجب ألا يستمر إلى الأبد، وأن تقرر القيادة الإسرائيلية خلال أسبوع ما إذا كانت ستواصل المعركة أم لا، ويعبر البروفيسور أيال زيسر، المحاضر في علوم الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، عن رغبة واسعة في أوساط “إسرائيل” بالاستمرار في الحرب رغم الخوف المذكور، في حديثه للإذاعة العبرية العامة، حيث يعبر زيسر عن أمله في عدم نسيان “إسرائيل” لهدفها المركزي من هذه الحرب.
ويرافق هذا الرأي محلل الشؤون الفلسطينية آفي سخاروف، الذي يقول في مقال نُشر في صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’: ‘إن السنوار يحاول التغرير بنا لمنع الاستمرار في الحرب، ويتابع: ‘إذا توقفت إسرائيل عن الحرب دون تدمير حماس، ستدفع ثمنًا غاليًا في العقود القادمة من الناحية الأمنية والاقتصادية، ويؤكد معلقون آخرون في صحيفة ‘يسرائيل هيوم’ وفي قنوات التلفزة العبرية على أن عددًا كبيرًا من محلليها أصبحوا جنودًا مجندين في الحرب دون محاولة إخفاء ذلك، وفي هذا السياق، قالت المعلقة المختصة في نقد الإعلام، ياسمين هليفي، في صحيفة ‘هآرتس’ اليوم: إن السنوار يواصل التهكم عليهم، وأن رجال الأمن الإسرائيليين المتكبرين لم يتعلموا شيئًا، وأضافت: ‘لو شاهد السنوار قنوات التلفزة العبرية، لاكتشف متفاجئًا أن الخبراء الأمنيين المنتفخين الغارقين بالثرثرة لم يتعلموا شيئًا”.