ما يقارب العقدَينِ من الزمان يعيشُ أكثرُ من مليونَي فلسطيني في قطاع غزة، في ظل كابوس إنساني، حَيثُ يسيطر العدوّ الإسرائيلي بشكل كامل على أجواء القطاع وشواطئه وحدوده البرية، فضلاً عن الاحتلال الصهيوني والحصار الخانق المفروض على الشعب الفلسطيني لعقود طويلة، وتصاعد العنف لجيش العدوّ ضد الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم المشروعة، وتكرار استفزازات الصهاينة وانتهاكاتهم المُستمرّة والممنهجة ضد المقدسات الإسلامية، في القدس والأقصى الشريف، لذا فقد أتت عملية “طُوفان الأقصى” العسكرية، كخطوة منطقية وضرورة مصيرية وامتداد طبيعي مشروع لحق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي المجرم لأرض ومقدسات فلسطين، في ظل محيط عربي وإسلامي وعالمي متخاذل ومتواطئ تجاه القضية والمظلومية الفلسطينية، إضافة لفشل مُستمرّ وانحياز سافر للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي مع العدوّ الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في كُـلّ محطات الصراع ومراحل الاحتلال، ومع كُـلّ الانتهاكات التي يقوم بها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني في تحدٍ واضح لكل القرارات وَالقوانين الدولية، ضارباً بكل ما يصدر ضده من قرارات عرض الحائط.
إن توقيت عملية “طُوفان الأقصى” التي أعدتها وخططت لها ونفّذتها المقاومة الإسلامية في فلسطين وعلى رأسها حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام، كان حقاً مفاجئةً للصديق والعدوّ، كما وصفه السيد القائد عبدالملك الحوثي، وكانت لتداعياته وآثاره انعكاساتٌ تبددت لاحقاً بالأسباب والدوافع التي دفعت المقاومة إلى القيام بهذه العملية المباركة والكبرى وخوض معركة نوعية وفارقة مع العدوّ الإسرائيلي، توقيتها المفاجئ والمباغت، والصادم للعدو يتلخص في التطورات التي دفعت المقاومة إلى اختيار تحديد الوقت والمكان وبنك الأهداف، والذي كان عليه بدء العملية العسكرية والتي كان لها أسباب مباشرة، منها قيام حكومة العدوّ المتطرفة بتصعيد إجراءات الأمر الواقع في استهداف الشعب الفلسطيني والمضي بإصرار وتعنت وغطرسة للضم العملي للضفة الغربية المحتلّة، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وفرض الاحتلال الكامل على القدس، كما تشير تقديراتٌ إلى أن هجومَ المقاومة الفلسطينية المباغت وإطلاق عملية “طُوفان الأقصى”، قد استبق مخطّطاً للعدو لتوجيه ضربة قاسية لحركة حماس بعد انتهاء الأعياد اليهودية، حَيثُ عقد نتنياهو اجتماعاً أمنيًّا قبيل عملية “طُوفان الأقصى” بـ7 أَيَّـام، لهذا الغرض، بحسب منصة «أسباب» المختصة بالتحليل الاستراتيجي والسياسي.
في هذا الوسط القاتم والظرف الحالك الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، ومع بزوغ فجر السابع من أُكتوبر 2023م، بدأت عملية “طُوفان الأقصى”، حَيثُ اخترق المئات من مقاتلي المقاومة الإسلامية في فلسطين، السور الحديدي الذي شيدته سلطات العدوّ الإسرائيلي بطول 40 ميلاً حول قطاع غزة والذي كلّفها مليارات من الدولارات، وقد تم تزويد هذا الجدار بأحدث التقنيات الفائقة والرادارات المصممة لاكتشاف أية توغُّلات، وتحَرّكات وهجمات سرية للفلسطينيين على العدوّ الإسرائيلي، لكن ما حدث في صباح يوم السبت، قد ضرب مثالاً صارخاً، ونسفاً عمليًّا للأساطير، التي كان يسعى من خلالها جيش العدوّ، أن يحيط نفسه بها وتسليط الضوء على قدراته «السيبرانية» وجمع المعلومات الاستخباراتية والأسلحة المتطورة، وتركيز كُـلّ ذلك على منع هجمات المقاومة المسلحة، حَيثُ جاءت عملية “طُوفان الأقصى” بهجومها البري والجوي والبحري، كطوفان كاسح ومحطم لأُسطورة وخرافة هذا الجيش المتغطرس وشل قدراته بشكل كبير، لم يكن في الحسبان أَو التصور في الواقع على الإطلاق.
ضربةٌ قاصمة:
العملية المباركة التي بدأت بهجوم صاروخي واسع النطاق على مختلف المستوطنات الإسرائيلية وثكناته ومواقعه العسكرية من ديمونا جنوباً إلى هود هشارون شمالاً وإلى القدس شرقاً، مع تزامن إطلاق صواريخ المقاومة كانت اقتحامات برية للمجاهدين عبر السيارات الرباعية الدفع، والدراجات النارية والطائرات الشراعية وغيرها في غلاف غزة، حَيثُ تم السيطرة على عددٍ من المواقع العسكرية للعدو في سديروت وأوفاكيم ونتيفوت نتج عن ذلك قتل المئات من جنود العدوّ وأسر المئات، فضلاً عن اغتنام الكثير من الآليات العسكرية، وقد عكست هذه العملية المزلزلة، حالة الذعر والصدمة الشديدة التي انتابت الصهاينة، وتفاقمت هذه الحالة مع انتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات جيش العدوّ، وهي إما محروقة أَو تحت سيطرة مجاهدي المقاومة، كما حوت المشاهد القبض على عدد كبير من جنود العدوّ والمستوطنين الصهاينة، وسيطرة كاملة للمجاهدين على المستوطنات.
هذه الضربة القاصمة، دفعت حكومة العدوّ الإعلان للعالم بأن إسرائيل في حالة حرب، وهو إعلان يعتبر للمرة الأولى منذ حرب أُكتوبر 1973م، وهو أَيْـضاً اعتراف صريح للعدو بأن هجوم المقاومة هو هجوم عسكري، وليس كما ادعى لاحقاً بأنه هجوم إرهابي، حَــدّ وصفه.
عملية “طُوفان الأقصى” جعلت من المنطقة، والعالم بأسره يعيشون ساعات وأيامًا ولا زالت للآن، مليئةً بالمشاعر المتناقضة بشكل حاد، بين الصدمة والرعب في نفوس الصهاينة اليهود المهزومين عسكريًّا، ونفسياً للمرة الأولى منذ 50 عاماً، وبين الفلسطينيين، الذين بدا وكأنهم يتنفسون أخيراً ويصرخون بصوت عالٍ ما زلنا على قيد الحياة، وما زال الله معنا، وما زال أحرار الأُمَّــة بجانبنا، وقادرون بعون الله وتأييده على المقاومة وتحقيق الانتصارات مهما كانت سطوة العدوّ وجبروته ومهما كان الدعم الذي يتلقاه من أمريكا ودول الغرب.
العدوّ الإسرائيلي المترنح، جراء وقع هذه الضربة، أطلق لحنجرته العنان، ليصرخَ طالباً النجدة والاستغاثة من حليفه التاريخي «أمريكا» والدول الغربية؛ لإنفاذه قبل أن تقضيَ عليه المقاومةُ ويُسحَقَ بأقدام مقاتليها، فالعالم بأسره، شعوبه وحكامه وبلدانه شاهد ويشاهد ما حدث ويحدث في غزة عقب هذه العملية الكبرى وما تلاها من ردود، كشفت للعالم اليوم حجم الدعم الأمريكي الغربي لهذا الكيان المجرم المحتلّ، وحجم وفظاعة التواطؤ معه والمشاركة الفعلية في سفك دماء الشعب الفلسطيني المظلوم، هذا الدعم الذي أطلق لكيان العدوّ العنان ليرتكب المجازر الشنيعة، والإبادة الجماعية لأطفال ونساء وشيوخ غزة اليوم، كشف ذلك، بأن هذا الكيان اللقيط المجرم وداعميه قد تجردوا بوضوح من كُـلّ ما يمت للإنسانية، بفطرتها وضميرها وبكل ما يتصل بالدِّين والتشريعات والقوانين الدولية التي تحرم وتجرم كُـلّ هذه الجرائم الشنيعة والتي سقطت وتعرت وفاقت بشكل فضيع، كُـلّ محطات ومراحل التأريخ الإنساني، في مثل هكذا حالة وحدث.
ولقد منح الدعم الأمريكي الغربي للعدو الإسرائيلي اليوم، فرصة لمواصلة تنفيذ سياساته الإجرامية واستراتيجياته الوحشية الفاشية، المتمثلة بالأَسَاس في «الأرض المحروقة» من خلال المئات من الغارات التي يشنها طيرانه الحربي على قطاع غزة والتي تسببت باستشهاد الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين العزل من أبناء الشعب الفلسطيني، ويرى الكثير من المراقبين أن العدوّ الإسرائيلي اليوم بعد عملية “طُوفان الأقصى” ومن خلال ردة فعله الهستيرية والجبانة في ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية في غزة، بدا في أعلى درجات الرعب وحالة الضعف والهشاشة والتصدع، أكثر من أية مرحلة من تاريخه الأسود، وما يقوم به هذا العدوّ اليوم صراخ وهذيان وإمعان سافر في ارتكاب الجرائم ما هو إلَّا هروب واضح من هزائمه القاسية التي تلقاها على يد مجاهدي المقاومة الفلسطينية ومحور الجهاد والمقاومة.
طوفان مُستمرّ:
وتكشفُ هذه المرحلة بأن هذا الكيانَ مقبلٌ على تحوُّلات مرعبةٍ وحتمية يزدادُ معها تصدُّعٌ بنيويته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وانهيار وشيك لقوته العسكرية، وقرب زواله وإزالته من فلسطين والمنطقة، وهذا الكيان يدرك اليوم أن ما قبل عملية “طُوفان الأقصى” ليس كما بعدها.
وهذه حقيقة مؤكّـدة وعلامة استشرافية مسارها واضح وهدفها ثابت، برغم أن هذه الحربَ الغاشمة ما زالت مُستمرّة، فهذه العملية العسكرية الكبرى للمقاومة لها ارتدادات عميقة على العدوّ وتعد تمرداً مباشراً للمقاومة الفلسطينية وللمحور وضربة نوعية للاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، حيال المنطقة التي كانت تدفع وتعزز بقوة في البنية الإقليمية لتقع أنظمتها في وحل التطبيع مع كيان العدوّ الإسرائيلي ودمج هذا الكيان عبر مشاريع اقتصادية وتنموية كبيرة.
“طُوفان الأقصى” مُستمرّ بعد أن أحدث تحولات فارقة توحدت فيه كُـلّ فصائل المقاومة في فلسطين والتحمت مع أحرار محور المقاومة، ولاقت أصداء مؤيدة ومتضامنة من شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني المظلوم، فاليوم المعركة في تصاعد لافت بعد إعلان ناطق القوات المسلحة اليمنية عن عملية كبرى هي الثالثة للقوات المسلحة اليمنية تم من خلالها إطلاق عدد كبير من الصواريخ البالستية والمجنحة والطائرات المسيَّرة إلى عمق كيان العدوّ الإسرائيلي في أهداف عدة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهي عمليات تاريخية نصرة لغزة وللشعب الفلسطيني المظلوم، وهي عمليات ستستمر حتى يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزةَ، حسب تأكيد العميد يحيى سريع الناطق الرسمي للقوات المسلحة اليمنية.
وبهذا التحول الكبير في مسار المعركة يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية مع محور المقاومة في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وإيران قد وضعت وخطت كلمة الفصل في نهاية ومصير العدوّ الإسرائيلي الوجودي مع حليفه الأمريكي وعملائهم المطبعين في المنطقة، وتلك حتمية يحملها “طُوفان الأقصى” الذي سيبقى هادراً ومدوياً مع طوفان كُـلّ دول وأحرار محور المقاومة والجهاد حتى استئصال الغدة السرطانية من جسد الأُمَّــة العربية والإسلامية.