لأن توصيفه للمرحلة بأنها تاريخية، وتوصيفه الحرب الدائرة بأنها فاصلة، فقد كان السيد حسن نصرالله معنياً بأن يرسم الإطار الاستراتيجي للحرب، والخطاب الاستراتيجي ليس وظيفياً، لا في محاكاة المشاعر والألم في توصيف الواقع وصناعة القرار، ولا في إطلاق العنان للحماسة في مقاربة المسائل الحساسة.
والخطاب الاستراتيجي تم ضبطه بدقة بحيث لا يستفزّ المستنفرين، ولا يحبط أصحاب الآمال العالية، فلم يقل إنه يعلن الحرب المفتوحة، كما يخشى الكثير من الأطراف اللبنانية، لكنه أبقى الاحتمالات مفتوحة، ربطاً باثنتين هما السلوك الإسرائيلي تجاه لبنان، محققاً بذلك ربط التصعيد بالتزام المقاومة بحماية لبنان، وبتطور الأوضاع في غزة، حيث سقوط غزة إغراء للاحتلال بالتحضير للحرب على لبنان يصير استباقها خيراً من انتظارها، بمثل ما هو إنهاء للقضية الفلسطينية وخصوصاً لحق العودة، ما يوجب حماية غزة كترجمة للإجماع على رفض التوطين، وهذا معنى أن انتصار حماس مصلحة وطنية لبنانية.
الخطاب الاستراتيجي يكتشف مركز المعادلة التي عليه التعامل معها، وهنا أصاب السيد نصرالله باعتبار الحرب حرباً أميركية تنفذها «إسرائيل». وهذا يعني ان وقف العدوان ينتظر قراراً أميركياً تنفذه «إسرائيل». والقرار الأميركي يستدعي أن توضع واشنطن بين خيارات صعبة، أهونها هو وقف العدوان، وهذا معنى اللغة التي خصصها للحديث عن التمركز الأميركي في المنطقة براً وبحراً، لأن الوجود الأميركي كقوة احتلال في العراق وسورية يمنح المقاومة مشروعية استهداف هذه القوات، والرد على تحديها وتهديدها للمقاومة في لبنان يمنح شرعية إبلاغها بأن حاملاتها ليست أداة صالحة للتهديد، لأن المقاومة أعدّت لها عدتها.
الخطاب الاستراتيجي يقول إنه رغم الدماء والآلام في مذبحة غزة المفتوحة، بل ربما بسببها، فإن «إسرائيل» سقطت كقوة عسكرية، ولو بقيت كأداة عمياء للقتل. فالقتل الأعمى هو ترجمة لسقوط القدرة العسكرية لجيش الاحتلال في تحقيق نصر. وإذا كان هذا أهم ما قالته عملية طوفان الأقصى، فإن زوال عنصر المفاجأة من يد المقاومة في المواجهات البرية، لم يغيّر من معادلة العجز الإسرائيلي والفشل في تحقيق الإنجاز.
وهذا معنى الدخول بتحليل تفصيلي لتظهير حجم الإنجاز الذي حققته المقاومة، التي لا خشية عليها من الهزيمة، بعدما قالت عملية طوفان الأقصى إن تشكيلات المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها حركة حماس دخلت مرحلة التفوّق الاستراتيجي لجيش الاحتلال، ولو احتفظ جيش الاحتلال بالتفوق الناري.
الخطاب الاستراتيجي يرسم مفاتيح الحركة التي ستحدّد اتجاهات المرحلة المقبلة، وهي هنا ثلاثة، تكريس القيمة التاريخية لنصر 7 تشرين الأول، ووقف العدوان على غزة، لأن النصر الاستراتيجي على كيان الاحتلال يتمّ بالنقاط لا بالضربة القاضية، أما المفتاح الثالث فهو النجاح والمثابرة في تحويل التهديد الأميركي لقوى المقاومة انطلاقاً من التزام وجودي وعقائدي ومصلحي للأميركي بحماية كيان الاحتلال، إلى فرصة تستند الى العجز الأميركي عن خوض حرب بينما قواعده منتشرة في المنطقة، وصولاً لفرض انسحاب أميركي من العراق وسورية لضمان بقاء المصالح والقواعد في الخليج.
الخطاب الاستراتيجي يؤسس لخطابات تكتيكية تترجم خطواته المرحلية، تقول كيف تكون الاحتمالات مفتوحة، وتقول معنى إن المقاومة أعدّت العدّة لمواجهة الحشود الأميركية، اذا اقتضى الوضع ذلك، وتقول كيف يمكن لجميع الخيارات أن تكون مطروحة في أي وقت، انطلاقاً من السلوك الإسرائيلي تجاه لبنان، وفي ضوء تطوّر الأمور في غزة، وقد نسمع في الخطابات التكتيكية المعادلات الملموسة التي تثلج قلوب المنتظرين، أو نسمع التهنئة بالنصر.
لم يكن عادياً ما خصّصه السيد نصرالله لتعظيم مكانة حركة حماس، وهو ما سوف تظهر آثاره في المعارك المقبلة، ولا ما خصصه لشرح أهمية ما فعلته المقاومة على الجبهة الحدودية، وهو ما سوف تظهر أهميته إذا فتحت الاحتمالات على التوغل براً داخل فلسطين المحتلة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل