يعيش اليمن حالة استنفار غير مسبوق على المستويَين الرسمي والشعبي، لمواكبة التطوّرات الميدانية في قطاع غزة، فيما يتهيّأ لتفعيل دوره المحوري نصرةً للقضية الفلسطينية.
وبالفعل، أُجريت الترتيبات العسكرية اللازمة، فيما بات الجيش اليمني جاهزاً للسيناريوات كافة، بما فيها المشاركة في ما هو أبعد من المناوشات الجارية حالياً، وآخرها إرسال مسيّرة للتحليق فوق «إيلات».
إذ تبدي صنعاء التزاماً بتوجّهات «محور المقاومة»، أكد رئيس «المجلس السياسي الأعلى»، مهدي المشاط، أن «هناك غرف عمليات مشتركة، وجهوداً تراقب وتعمل لمواجهة أيّ حماقة صهيونية باقتحام غزة».
ومن جهتها، تُدرك الولايات المتحدة خطورة مشاركة اليمن في أيّ حرب إقليمية مقبلة، إذ يشكّل موقع هذا البلد تحدّياً إستراتيجيّاً للحضور الأجنبي في المنطقة، في حال فعّلت صنعاء أصولها العسكرية كافة، واستثمرت في موقعها الجغرافي (وقدراتها).
ويطلّ اليمن على بحرَي الأحمر والعرب وخليج عدن، وعلى أهم ممرّ يَربط بحر العرب بالبحر الأحمر، هو مضيق باب المندب الذي يُشرف بدوره على أهمّ الطرق الدولية الواصلة بين الشرق والغرب.
وكانت قد أعلنت قيادة صنعاء، أكثر من مرّة، أن قدراتها العسكرية تغطّي كامل مساحة البحر الأحمر، كما أنها أجرت، في الأشهر الماضية، أكثر من مناورة عسكرية استَخدمت فيها معدّات وأسلحة حديثة، منها ما هو معلن، ومنها ما لم يُكشف عنه بعد، علماً أن البحرية الأميركية راقبت تلك المناورات.
كذلك، يدرك المطّلعون على مجريات الأحداث، أنه في حال اضطرّ اليمن لخوض حرب إقليمية إلى جانب فلسطين، فإن الموانع التي كان يلتزم بها في معركة الدفاع التي خاضها في مواجهة السعودية والإمارات، ومن خلفهما أميركا، لا تنسحب على مواجهة من هذا النوع، سيُتاح فيها استخدام الإمكانات والقدرات كافة، مع الأخذ في الحسبان خصوصاً قدرته على تعطيل الملاحة.
على أن الجانب الأميركي بدأ يتحسّس خطورة دخول صنعاء على خطّ المواجهة، لِما في ذلك من تهديدات كارثية للأمن وسلامة المرور، ولا سيما لإمدادات الطاقة.
وقد عبّرت عن تلك المخاوف وكالة «إس آند بي غلوبال» الأميركية، بالقول إن «قوات صنعاء لديها عدد من الخيارات في ترسانتها العسكرية التي يمكنها عبرها تهديد السفن في جنوب البحر الأحمر، وهي تشمل صواريخ مضادة للسفن، وزوارق مسيَّرة محمّلة بالمتفجّرات، وسفناً وطائرات من دون طيار».
وأشارت الوكالة إلى أن «هناك دلائلَ على أن الصراع الإقليمي الشامل قد اجتذب بالفعل قوات صنعاء، مع ما يترتّب على ذلك من آثار أوسع نطاقاً على تدفّقات السلع التي تمرّ عبر مضيق باب المندب».
وإذ لم يُقْدِم اليمن على استخدام ورقة البحر الأحمر أو باب المندب أو التلويح بهما، رغم الظروف الصعبة التي مرّ فيها، والحصار المُحكَم على موانئه البحرية والجوية والبرية، إلّا أن صنعاء تبدو حاضرة لتكرار تجربة حرب أكتوبر 1973.
حيث شهدت السواحل اليمنية أول عملية إغلاق بحري أمام السفن الإسرائيلية وتلك الداعمة لها في باب المندب، ليتعرّض كيان الاحتلال لأول حصار بحري في تاريخه، الأمر الذي دفع رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، إلى القيام بجولة «استغاثة» مكوكية إلى الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، حيث لبّتها الأخيرة بتهديد اليمن ومصر بأنها «ستحرّك أسطولها الرابع – الأسطول البحري العسكري – لرفع الحظر والحصار عن تل أبيب».
أما اليوم، فتتيح حرب الإبادة على غزة، الفرصة لليمن للمشاركة، على نحو بات رسمياً منذ أمس، في نصرة الشعب الفلسطيني. وإذا كانت هذه المشاركة جاءت بقرار إستراتيجي من القيادة السياسية اليمنية، ولكنها، في الوقت نفسه، تمثّل استجابة لمطالب شعبية واسعة، فضلاً عن أنها تدخل في مجال الدفاع عن الأمن القومي، وإنْ كانت القيادات السياسية في العهود السابقة قد أبطلت تلك المحدّدات الإستراتيجية، ورهنت السياسة الخارجية بكلّ من الرياض وواشنطن.
ويمكن القول إن خروج اليمنيين إلى الشوارع بأعداد ضخمة، سواء في المناطق التي تقع تحت سلطة صنعاء، أو تلك التي لا تزال تحت سلطة «التحالف»، يُعدّ تفويضاً لقيادة «أنصار الله» بالمشاركة في نصرة غزة، وفقاً لما تراه مناسباً.
وتَنظر النخب اليمنية، رغم خلافاتها الداخلية، إلى المشاركة اليمنية بعين الرضا والافتخار، بل ثمة مطالبات قوية بزيادة جرعة الانخراط، حتى لو أدى ذلك إلى بذل مزيد من التضحيات.
وفي الجانب المقابل، أصابت إسرائيل في تقديراتها بأن اليمن يتحوّل بسرعة، إلى تهديد إستراتيجي وظهير حقيقي لـ«محور المقاومة» في المنطقة، وهو ما عمد إلى تكراره مسؤولون إسرائيليون ومتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي طوال مدة الحرب على اليمن، وذلك بتوقّعهم أن يأتي الخطر على إسرائيل من العراق واليمن، وباتهامهم إيران بأنها تساعد على تطوير منظومات الصواريخ الذكية والطائرات المسيّرة في هذين البلدين لتستطيع الوصول إلى الكيان.
وقد صُنّف اليمن والعراق في دائرة القرار الأمني الإسرائيلي ضمن الخطّ الثاني من التهديدات، في حين اقتصر الخطّ الأول على لبنان وسوريا، فيما يعود الإخفاق الاستخباري في توقّع عملية «طوفان الأقصى» إلى تجاهل غزة كتهديد إستراتيجي خارج الخطّين.
وعليه، فإن إسرائيل تركّز، منذ نشوب الحرب بين السعودية واليمن، على قضية أمن الممرّات المائية التي تمثّل أولوية لها وللعالم، حيث تمرّ سفن وبواخر إسرائيلية يومياً عبر مضيق باب المندب، في اتّجاه دول أوروبا وأفريقيا والصين والهند.