منذ الإعلان عن وجود محور المقاومة، واعتبار أن ثمة ما هو أبعد من اللقاء على أهداف مشتركة بين أطرافه، وصولاً لصياغة معادلة ردع موحدة، مضمونها ما اصطلح على تعريفه بوحدة الجبهات، إذا اعتبرنا أن مصطلح وحدة الساحات يرمز الى وحدة المواجهة بين الساحات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، تبدو حرب غزة الدائرة منذ 7 تشرين أول الحالي والمرشحة للاستمرار والتوسع، أول اختبار فعليّ لوجود محور المقاومة.
طرحت الحرب أسئلة على صعيدين، الأول هو مدى شراكة محور المقاومة مع حركة حماس في عملية ضخمة بحجم عملية طوفان الأقصى، وهل الالتزام بوحدة الجبهات يستدعي الاعتقاد بأن التنسيق السابق للعمل النوعي في كل جبهة، هو شرط لترجمة هذه الوحدة بعده؟ والثاني هو مدى استعداد وقدرة أطراف المحور على ترجمة مفهوم وحدة الجبهات، أمام مخاطر الذهاب الى حرب كبرى سوف يكون على كل الجبهات أن تدفع نصيباً من ثمن الانخراط فيها؟
واجه محور المقاومة مجموعة من التساؤلات، فقد ذهب البعض الى القول إنه اذا كانت عملية طوفان الأقصى من صناعة حركة حماس وحدها فلماذا على أطراف المحور تبعات فعل لم تشترك في قراره وإقامة حساباته، وذهب بعض آخر إلى القول إن ردود المحور جاءت دون المستوى المتوقع في ظل ما تتعرّض له غزة من عدوان، على قاعدة أن المتوقع هو دخول جبهات المحور في الحرب بكل قوتها، طالما أن ما تتعرّض له غزة هو حرب إبادة تستهدف شعبها ومقاومتها، وإن سقطت غزة ومقاومتها ماذا يبقى للمحور من رمزية اتصال بفلسطين وقضيتها ومقاومتها؟ وهل سيكون باستطاعته وقف مسار ما بعد سحق غزة، والتداعيات سوف تطال القضية ومعها أطراف المحور الذين لن يكون أحد منهم بمنأى عنها؟
عملياً أظهر المحور جوابه وفق معادلة ثلاثية، ركنها الأول أن وحدة الجبهات تقوم على استقلالها، فكل جبهة تملك حرية إدارة الصراع في جبهتها، والمحور ليس إطاراً للإدارة المركزية لكل الجبهات، ولذلك فإن أنصار الله في اليمن يقدّرون وحدهم حسابات جبهتهم ومتى يقبلون الهدنة وضمن أي شروط، ومتى يهدّدون بالتصعيد. وحزب الله يقرّر وحده ساعة بدء عملية تحرير مزارع شبعا، أو التلويح بالحرب في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية. والدولة السورية تقرّر أولوياتها بين جبهات الحرب في الشمال والجنوب، ما إذا كانت ترى مناسباً الرد على الغارات الإسرائيلية وكيف. وقوى المقاومة العراقية المنخرطة في الحشد الشعبي ترسم خطة قتالها في العراق، فتصعّد ضد القوات الأميركية أو تهادنها.
وفي فلسطين الأمر بيد مقاومتها، التي أظهرت معاركها أن الاستقلال يشمل طرفيها الرئيسيين. وهكذا فإن حركة حماس تقرر أن تشارك الجهاد في معركة وحدة الساحات أو تكتفي بالدعم المعنوي والسياسي، والجهاد تقرر ما إذا كانت تذهب لمعركة بالتنسيق مع حماس أو بدونها، علماً أن عائد الانفراد هنا أكثر تأثيراً في نتائجه على الجمع الفلسطيني.
الركن الثاني لمعادلة المحور، هو أنه في سياق هذا الصراع المفتوح مع كيان الاحتلال، والدعم الأميركي اللامحدود الذي يقف وراءه، فإن قوى المحور تدرك بمقدار أهمية استقلال قيادات وقوى المقاومة في إدارة شؤون جبهتها، وحساباتها الوطنية الخاصة والمعقدة في كل جبهة، فإن الأميركي والإسرائيلي يسعيان للاستفراد بقوى المحور وجبهاته، لإدراكهما بأن كل جبهة تتأثر بقوة وضعف سائر الجبهات، وأن وحدة الجبهة المعادية للمقاومة توفر موازين قوى أفضل لهذا الاستفراد، وإضعاف جبهات المحور واحدة واحدة.
وبالتالي فإن معادلة وحدة الجبهات هي الرد على هذا المخطط، وقاعدتها أنه كلما تعرضت جبهة للخطر فإن المحور معني بالتصرف كقوة موحدة، وإظهار تضامن الجبهات بعضها مع بعض، وإدراك أهمية هذا السلوك المدافع عن أي جبهة مستهدفة في تعديل موازين القوى، وفرض معادلات جديدة، وإحباط مخطط الاستفراد، وإيصال الرسائل التي توضح جدية قوى المحور بالذهاب إلى أبعد مدى في ترجمة وحدتها، إذا اقتضى الأمر، والإعداد لترجمة ذلك مهما كانت الكلفة.
أما الركن الثالث في هذه المعادلة، فهو أن الرابط بين وحدة الجبهات واستقلالها، هو تقدير الموقف الذي تقوم به الجبهة المعنية في ميدان حربها. وفي حالة حرب غزة المعني هو غرفة عمليات المقاومة في غزة. فالخروج بالنصر براية فلسطينية يبقى هو الأمثل، وليس وارداً أن يتصرف أطراف المحور كأنهم يزاحمون مقاومة غزة على صناعة النصر بتسريع حضورهم في الحرب وفق أجندة لا تصل بحسابات غرفة عمليات غزة.
وقد ظهر أثر الراية الفلسطينية في حصاد هائل عالمياً وعربياً، وفي تفاعل شوارع كانت حتى الأمس خامدة، وكان خارج التوقع رؤية تفاعلها بهذه القوة، لكن أطراف المحور معنيون، وقد فعلوا، بأن يطوّروا حضورهم ويظهروه ويعبئوا قدراتهم ويستعدوا لترجمة وحدة الجبهات بأعلى الدرجات بما فيها الحرب الشاملة، عندما يكون ذلك ضرورياً، ومن يقدّر الضرورة غرفة عمليات غزة. والفرق كبير بين اعتبار الحرب الشاملة ترجمة فورية لمفهوم وحدة الجبهات، وبين اعتبارها خياراً أخيراً، لكنه خيار لا تخشاه قوى المحور، ولا تتوقف عن الاستعداد لخوض غماره عند تدقّ ساعته.
ما حدث منذ اليوم الأول للحرب، أظهر جدية محور المقاومة وقواه في ترجمة هذه الأركان، والتزامها الدقيق بموجباتها، بالرغم من أن حرارة الدماء وهول المجازر يخلقان مناخاً من التساؤل المشروع حول دور المحور، وماذا ينتظر، لكن المحور ملتزم بمعادلة ممنوع سقوط غزة وهزيمة مقاومتها. والمقاومة في غزة هي مَن يقول متى يجب التدخل بمفهوم الحرب الشاملة، وهي لم تقل ذلك بعد، بل إنها تعتقد إن الحرب البرية إذا اندلعت سوف تكون فرصتها لتدمير الفرق العسكرية لجيش الاحتلال ودباباته، بينما تحوّل المواجهة الى حرب إقليمية فسوف يخلق تداعيات تمثل سقوفاً تفرض على المقاومة معادلات تفاوضية لا تتناسب بالضرورة مع جدول أعمالها، وربما يكون تجنب الحرب الإقليمية فرصة لتحقيق سقف أعلى في المواجهة.
منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى قام حزب الله القوة الأهم عسكرياً في المحور والأقرب لجبهة المواجهة مع كيان الاحتلال، ببدء حرب استنزاف تصاعدية مع جيش الاحتلال، نجح بتحويلها خلال أسبوعين الى منصة تصلح للانتقال متى أصبح ضرورياً الى الحرب الشاملة، وحقق خلالها الكثير من الإنجازات الميدانية، وجمّد عبرها ثلث جيش الاحتلال على جبهته، وأربك تقدير الموقف الأميركي والإسرائيلي حول قراره بدخول الحرب، بما شكّل قوة ردع لحسابات تصعيد الحرب على غزة، بينما تولت المقاومة في العراق وسورية باستهداف القواعد الأميركية، رداً على التدخل الأميركي في الحرب كشريك لكيان الاحتلال وجيشه، وكشف الأميركي عن قيامه بالتصدّي لصواريخ أطلقها أنصار الله نحو عمق كيان الاحتلال.
يجب الانتباه إلى أن الجزء الأكبر من حملة التشكيك بصدقية محور المقاومة يأتي من الأوساط التي تروّج للانهزام، وتتموضع سياسياً تحت سقوف النظام العربي الرسمي، وتراه نموذجاً يُحتذى، وهي الأصوات ذاتها التي سوف تنقض على أطراف المحور عندما تندلع الحرب الشاملة لتحميلها مسؤولية تعريض بلدانها للمخاطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل