قبل أيامٍ من اندلاع ملحمة “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، أحيا “الجيش” الإسرائيلي، وأجهزته الأمنية، الذكرى الـ 50 لحرب “يوم الغفران” عام 1973. وبهذه المناسبة، نشرت الأجهزة الأمنية في الكيان الإسرائيلي وثائقَ سرية تُشير إلى وجود جواسيس، زوّدوا “إسرائيل” بمعلوماتٍ عن موعد شنّ الحرب.
جدّدت تلك الوثائق التي جرى الكشف عنها الجدلَ حول الإخفاق الاستخباري في الاستعداد للحرب، إذ إنّه على الرغم من وجود معلوماتٍ عن موعد الهجوم فإن الاستخبارات العسكرية “أمان” تجاهلت تلك التحذيرات، معتبرةً أنّ العرب مهزومون، ولن يجرؤوا على شنّ أيّ هجومٍ بريٍ أو جويٍ عليها.
أكبر فشل استخباري يُصيب “إسرائيل” منذ العام 1948
مع حلول صبيحة اليوم الثاني للذكرى الـ50 لـ”حرب يوم الغفران”، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شنّت المقاومة الفلسطينية، هجوماً استباقياً شاملاً، تحت غطاء قصفٍ صاروخي قُدّر بنحو 5 آلاف صاروخ، الأمر الذي أربك “القبة الحديدية”، عندها حلّق المقاومون بالطائرات الشراعية التي استخدمت للمرّة الأولى لأغراضٍ عسكرية، وعبروا إلى المستوطنات المحتلة المحيطة بقطاع غزّة.
الخداع العسكري الذي أدّى إلى نجاح العملية سبقه عدّة خداعات متفرّقة، إذ خدعت “حماس” الاحتلال من خلال عدم تدخلها في جولات قتالية قادتها “الجهاد الإسلامي” في وقتٍ سابق من العام الجاري، عندها ظنّت “تل أبيب” أنّ “حماس” تميل إلى ضبط النفس لتحافظ على بنيتها العسكرية، كما أنّ مناورة “الركن الشديد4” التي أجرتها غرفة المقاومة المشتركة في أيلول/ سبتمبر الماضي، ظنّ الاحتلال أنّ هدفها إثارة قلق “الجيش” الإسرائيلي بهدف زيادة المنحة المالية القطرية، وتقديم تسهيلات إضافية للعمال في غزّة للعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وبعد تطمينات “حماس” الوهمية للاحتلال الإسرائيلي، جرى تحديد موعد العملية التي تميّزت بعنصر المفاجأة، إذ فشلت فيها الاستخبارات الإسرائيلية في توقّع موعد العملية، وحجمها، وأهدافها الأمر الذي وضع جنود الاحتلال بين قتيلٍ وأسير، لذلك جاء إعلان ساعة الصفر لـ “طوفان الأقصى” على خلاف حرب “يوم الغفران” (أكتوبر) 1973، والتي توافرت حولها معلومات استخبارية مُسبقة.
وأجمع محللون إسرائيليون على أنّ جميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أخفقت في التقديرات الاستخبارية، وفي “سيناريو” التعامل مع مفاجأة “حماس”، التي أطلقت عليها اسم “طوفان الأقصى”. الفشل الاستخباري الذي لحق بـ”إسرائيل” لخّصه المُعلّق العسكري في موقع “مكور ريشون” الإسرائيلي، نوعم أمير بعباراتٍ أكثر دلالة، وقال إنّ “إسرائيل” تحوّلت في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، من قوةٍ استخبارية كبرى في العالم إلى قوةٍ لا توجد لديها أي استخبارات فعّالة، وهذا الأمر يحدث للمرّة الأولى منذ حرب “يوم الغفران”. بينما رأى محللون إسرائيليون أنّ هذا الفشل أكبر فشل استخباري في تاريخ “إسرائيل”.
ووفق الإعلام الإسرائيلي، فإنّ الفشل الذي لحق بـ”إسرائيل” سبقه تقارير استخبارية غير صحيحة عن “حماس” مفادها أنّ العمل العسكري عندها أصبح ضعيفاً، وأنها تريد السلطة فقط وتخلّت عن فكرة المقاومة.
ويُرجع المحللون فشل الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً إلى نقص الموارد المالية والبشرية، ولا سيما أنّ الاحتلال نقل في عام 2023 ثلاث كتائب من جنوده من “فرقة غزّة” إلى الضفة الغربية، وكذلك التقدم التكنولوجي الكبير للمقاومة الفلسطينية الأمر الذي جعل من الصعب على الاستخبارات الإسرائيلية مراقبة أنشطتها، أما السبب الأكبر فيعيده محللون إلى الأزمة الداخلية (التعديلات القضائية) التي أعلنت عنها حكومة نتنياهو وما أدّت إليه من انقسامات داخل الحكومة والمجتمع الإسرائيليين.
“طوفان الأقصى” تجرف عقيدة “إسرائيل” الأمنية
في عام 2005، اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون قراراً بتفكيك 25 مستوطنة من قطاع غزة، وذلك بسبب المقاومة المتواصلة خلال سنوات الانتفاضة الثانية، وكذلك لأنّ العدو الإسرائيلي شعر بأنّ للانسحاب كلفةً أقلّ من البقاء في غزة، مع أنّ شارون أكّد في عام 2001 أنّه لن يفكك مستوطنات غزّة على الإطلاق، لأنها تحمي أمن “إسرائيل”.
ومنذ الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، ترى “إسرائيل” التي لا تمتلك عمقاً دفاعياً، أنّ مستوطناتها في محيط غزّة تحمل أهمية إستراتيجية بالنسبة لأمنها، فعملت على تحصينها، وبنت حولها القواعد العسكرية، وعشرات المواقع الأمنية بالإضافة إلى أنّها بنت جداراً استخدمت فيه التكنولوجيا المتطورة، وكل ذلك، لأنّ وجود المستوطنات يضمن لـها التصدّي لأيّ هجومٍ قبل أن يصل إلى عمقها (الضفة الغربية، القدس المحتلة)، كما أنّه يساهم في تطويق القطاع وخنقه (يجعله سجناً كبيراً).
خلال 20 عاماً مرّت على حصار قطاع غزّة، بنت المنظمة الأمنية الإسرائيلية صورةً عنها تُفيد بأنّ منظومتها المحيطة بالقطاع مُتماسكة ولا يوجد فيها أيّ خُروقات سوى الصواريخ التي تُطلق خلال جولات التصعيد على مستوطنات الغلاف وفي بعض الأحيان تصيب الداخل، لكن فصائل المقاومة قالت كلمتها يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وخرق مقاتلوها كل الخطوط الأمنية الإسرائيلية التي حاصرت القطاع وسقطت كلها خلال ساعات، فالجدار العازل اختُرق والسياج قُلع، والمقاومون دخلوا المواقع والمستوطنات مروراً بأبراج المراقبة، ومئات الكاميرات، الأمر الذي جعل المنظومة الأمنية أمام صدمة.
كل هذا الفشل المتراكم، أدّى إلى إخفاق “الجيش” الإسرائيلي في حماية قاعدته العسكرية الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لقطاع غزة، الأمر الذي أدّى بدوره إلى الفشل في حماية 20 مستوطنة في محيط القطاع إذ تمكّنت الوحدات العسكرية للمقاومة الفلسطينية من اقتحام المستوطنات وفرض سيطرتها عليها، وإيقاع خسائر كبيرة في صفوف قوات “الجيش” والمستوطنين.
من جانبه، لفت مسؤول كبير سابق في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، إيغال أونا إلى أنّ “الأسوأ من الفشل الاستخباري هو الفشل العملياتي للجيش الإسرائيلي في حماية قواعده والمستوطنات”.
إنّ الهجوم المباغت الذي شنّه مقاتلو المقاومة الفلسطينية، والأداء الجريء المتمثل بخطوة الطائرات الشراعية، والقدرات التنظيمية، بالإضافة إلى الخبرات العسكرية أفقدت قوات الاحتلال توازنها، وحطّمت عقيدة “إسرائيل” الأمنية، ولا سيما أنّ “الجيش” لم يستطع التدخّل سريعاً لاستعادة قواعده العسكرية والمستوطنات، إذ بقي مقاتلو الفصائل لمدّة لا تقل عن يومين داخل المستوطنات المحيطة بالقطاع، هذا بغض النظر عن عمليات التسلل التي تجري حتى الآن من قبل “القسام”.
سلاح مُبتكر.. وتكتيك أربك “الجيش” الذي لا يُقهر
استخدم مقاتلو المقاومة الفلسطينية مع بداية “طوفان الأقصى” للمرّة الأولى الطائرات الشراعية لأغراضٍ عسكرية، وتجمع هذه الطائرات بين ميّزة المظلة التقليدية التي يتمّ استخدامها للهبوط من الطائرات العسكرية، وقوّة الدفع التي توفّرها محرّكات تعمل بالطاقة، لمنحها القدرة على الانطلاق من الأرض، واتخاذ مساراتٍ مُحددة بقوّة دفع يُمكن التحكّم بها عن طريق المظلي الذي يستخدمها.
ويُشير خبراء عسكريون إلى أنّ الطائرة الشراعية التي تم استخدامها يمكنها أن تنطلق بسرعة تتراوح بين 40 و60 كيلومتراً في الساعة، مع قدرتها على الوصول إلى ارتفاعات تتجاوز 5700 متر فوق سطح البحر.
ويوضحون أنّ صوت المحرّك مع اختيار توقيت الطيران من أهمّ التحديات عند الاستخدام، لكن اللافت أنّ المقاومين انطلقوا بالطائرات في ساعات الفجر حيث يكون الهواء خفيفاً مقارنةً مع أوقات أخرى خلال النهار، ولاسيما عندما يشتدّ الهواء مع سطوع الشمس فيكون الإقلاع والتحليق أسهل.
الأمر المعقّد، الذي تجاوزه مقاتلو المقاومة هو اختراق أجواء الداخل المحتل من دون الاكتراث لمضادّات الدفاع الجوّية، إنّ الأمر الأساس في المضاد الجوي هو تحديد المقطع الراداري أو البصمة الرادارية، وهو المقطع الذي يستطيع الرادار رؤيته من الجسم الطائر، فكلما كبُر هذا المقطع، كان من الأسهل على الرادار كشفه، وتعتمد تلك البصمة بدورها على عوامل عدّة، وهي: الجسم الطائر، سرعته، شكله، عُلوّ طيرانه، زاوية التقاطه، وجود التضاريس حوله.
مثلاً إنّ الطائرات القاذفة من طراز “بي-52″، تحتوي على مقطعٍ عرضيٍ راداري كبير يصل إلى أكثر من 90 متراً، وبالتالي يُمكن للرادار بسهولة أن يكشفها، وتحتاج تلك الطائرة إلى أجهزة تشويش لتتمكن من الاختراق، أما طائرة من طراز “إف-35” فتصل بصمتها الرادارية إلى خمسة بالألف من المتر المربع فقط، أي ما يُوازي حجم كرة الغولف تقريباً، وتُسمى بالشبح لأنّه لا يُمكن للنظام الدفاعي رصدها.
وفي حالة الطيران الشراعي التي نفذها مقاتلو المقاومة، حلّقوا على علوٍ مُنخفض، واستخدموا التضاريس والأبنية لتفادي موجات الرادار، مع العلم أنّ تحليق الطيران الشراعي إلى داخل المستوطنات جرى بالتزامن مع إطلاق نحو 5000 آلاف صاروخ الأمر الذي أدّى إلى إرباك منظومة “القبة الحديدية” في تحديد أهدافها.
الأمر الثاني، الذي فاجأ العدو ميدانياً، هو تكتيك أربك “الجيش” الإسرائيلي، وهو إعلان المقاومة الفلسطينية في اليوم الثاني لـ”طوفان الأقصى” إجراء تبديل بين عناصرها في الميدان أي بين من هم في المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع، وبين مقاتليها في غزة.
ونجاح هذا الأمر يعود إلى “السرية” في تنفيذ العملية على مستوى القيادة والأفراد، كما أنّه يُدلل على توفّر الطرق الآمنة التي أحدثتها في بداية العملية وحدة الهندسة التي فتحت 80 ثغرة في الجدار والسلك الشائك، وفق الإعلام الإسرائيلي. وكذلك تدلّ عملية تبديل المقاتلين على دقّة استهداف المقاومة لنقاط المراقبة خلال الساعات الأولى من الهجوم، ويعود الأمر أيضاً، إلى وجود روح معنوية عالية جداً عند مقاتلي الفصائل الفلسطينية، وانهيار معنويات جنود الاحتلال ولا سيما بعد النجاح الكبير الذي حققته العملية في ساعاتها الأولى.
بدورها، ألقت صحيفة “فورين بوليسي” الأميركية الضوء على فشل الاستخبارات الإسرائيلية وبالتالي تطور التكنولوجيا التي تستخدمها “حماس” لاختراق السياج الحدودي مع قطاع غزة، وتنقل الصحيفة أنّه وقبل أسبوع، من “طوفان الأقصى” كانت القوات الإسرائيلية في معسكر “رعيم” تستعرض قوّتها أمام الرئيس الهولندي للجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، الأدميرال روب باور، وعندما حصل أمر الاختراق أبدى باور ذعره من الطريقة المتطورة في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الجديدة التي تمكّنت فيها حماس من التهرّب من نظام المراقبة الإسرائيلي.