في 6 أكتوبر 1973، أحد أقدس الأيام في التقويم اليهودي المعروف باسم “يوم الغفران”، بدأت مصر وسوريا هجوما عسكريا مفاجئًا ضد الكيان المؤقت. لم تفاجأ إسرائيل فحسب، بل واجهت ما اعتبره بعض قادتها تهديدًا وجوديًا. وقتل أكثر من 2600 جندي وضابط إسرائيلي، وجرح الآلاف. في هذه الحرب، عانت إسرائيل من عواقب الغطرسة التي خلقها انتصارها العسكري السريع على مصر وسوريا قبل ست سنوات فقط، في حرب الأيام الستة.
وبفضل المساعدات الأمريكية، تمكن جيش الاحتلال من تحقيق نصر عسكري بعد 19 يومًا من القتال، لكن ماذا عن الإنذار المبكر، الذي كان من المفترض على الاستخبارات الإسرائيلية تقديمه؟ الواقع أن صدمة حرب أكتوبر أو ما يسميه الإسرائيليون حرب يوم الغفران، ما زالت تدرس حتى اليوم في أسباب غياب مثل هذا الإنذار المبكر، والذي أوقع القيادة الإسرائيلية في عقلية المفاجأة، ولم يتمكّن الإسرائيلي من حشد قواته في الوقت المناسب، وحتى عشية ليلة الغفران من العام 2023، كان لا يزال هؤلاء يناقشون في هذه المناسبة ما أسموه بالـ “الاستخبارات المعيبة” و “التحليل المعيب” الذي كان السبب الرئيسي للحرب، وفي صباح اليوم التالي، السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023، يقعون في نفس الثغرة “المعيبة”، بعد 50 عامًا من جهود تطوير الاستخبارات والتحليل الاستراتيجي والعسكري في الكيان الإسرائيلي المؤقت.
كانت “ليلة غفران” عادية ما خلا ما يشهده الكيان من أزمات داخلية، كل شيء متوقّع في التصورات المثبتة لدى الإسرائيليين، مثل استحالة مشهد دخول مجموعات من المقاومة الفلسطينية إلى المستوطنات والسيطرة على مراكز الشرطة فيها. بل إن السنوات الـ 50 الماضية، كانت عمليات أسر الإسرائيليين مسألة أمنية معقدة جدًا، وكانت أكبر المعارك بين الكيان والمقاومة الفلسطينية لا تتمكن من القضاء على جزء بسيط، سواء من المستوطنين أو الجنود، نظرًا للنسبة التي كان سُجّلت في تصفية وقتل الفلسطينيين. لكن في صباح اليوم التالي، كل ذلك قد كان.
التصورات المثبتة والاعتماد على التفكير الحدسي والاستقرائي
قبل حرب أكتوبر تشرين، كانت المنهجية التحليلية، وتحديدا نظرية المعرفة، ضمنية فقط، مع الاستدلال الاستقرائي، كونه النهج السائد لخلق المعرفة. عام 2018، اعترف أحد الاستخباريين البارزين في الكيان، أن مثل هذا التفكير الاستقرائي لا يزال هو النهج السائد في المخابرات الإسرائيلية حتى اليوم.
مرة أخرى، يفشل الإسرائيليون في فهم وتحديد قدرة الطرف الآخر، وهذه المرة، المقاومة الفلسطينية التي عمل الاحتلال على محاصرتها وتقويضها لأكثر من 70 عامًا. ويحصل ذلك في ظلّ تحولات عالمية ومؤامرات إقليمية على القضية الفلسطينية، وجهود حكومة الاحتلال الحثيثة على صفقة تطبيع من البلد العربي الأكثر ثراءً ومركزية. ولدى الاستقراء الإسرائيلي العملياتي للواقع بالنظر إلى التراكم التاريخي للتكتيكات ونمط التفاعل للمقاومة الفلسطينية مع الأحداث والأطراف الإقليمية، فشل هؤلاء مرة أخرى، في عدم توقّع مفاجآت المقاومة الفلسطينية.
الإنذار المبكر: النوايا أم القدرات؟
الإنذار المبكر بالحرب هو جوهر الاستخبارات الإسرائيلية. ومنذ أيامها الأولى – أي الاستخبارات – اعتبِر تقييم النوايا من أساسيات الإنذار المبكر، على الرغم من أنّ هذا أدى إلى العديد من الإخفاقات الاستخباراتية. ففي عام 1960، فشلت المخابرات الإسرائيلية في تقديم إنذار مبكر بانتشار عسكري مصري على طول الحدود المصرية الإسرائيلية، رغم وفرة المعلومات حول الأعمال العسكرية المصرية، لأنها اعتمدت على تقييم خاطئ فيما يتعلق بالنوايا المصرية. وفي عام 1967، فشلت المخابرات الإسرائيلية في إدراك عملية التصعيد التي أدت لاحقًا إلى حرب الأيام الستة، معتمدة على تقييم خاطئ بشأن النوايا المصرية. ومرّة أخرى، استطاعت المقاومة الفلسطينية تضليل كل تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، التي كانت تشير إلى أنّ حماس لا ترغب بالتصعيد.
ومما يبدو، أن الإسرائيلي فشل في تقييم الحركة الفلسطينية عند السياج الأمني، على الحدود مع قطاع غزة، والذي شهد عمليات احتجاج طيلة الشهر الماضي. فيما يبدو أنها كانت غطاء لمناورات الدخول إلى غلاف غزة. ولكن، ماذا عن التعزيزات الإسرائيلية التي وصلت إلى السياج، وماذا حقّق تفقّد غالانت لقواته على الحدود ومستوطنات غلاف القطاع؟ لا شيء. واللافت أن كلّ ذلك كان يجري وسط إغراق الصحافة ومراكز الأبحاث بمخاوف من عمليات فلسطينية خلال الأعياد اليهودية التي بدأت في 15 من شهر أيلول الماضي.
الثقة المفرطة والغطرسة
إعادة تقييم النماذج الحالية والاستعداد للتخلي عنها واعتماد نماذج جديدة، والاستعداد لقبول التقييمات المتناقضة، هو من الدروس الرئيسية التي يستنتجها الإسرائيليون من فشل حرب يوم الغفران. لذلك فإنهم مدركون بأنها قضية ثقافية، بالإضافة إلى أنها قضية مهنية. لكن يبدو أنّ التحيّزات الإدراكية لدى هؤلاء حول “وهم التفوق”(تحيّز أو تشوّه معرفي قائم على اعتقاد بعض الأشخاص بأنهم متفوقين على الأفراد الآخرين فيقومون بتضخيم الإيجابيات وتصغير السلبيات، وينتج عن ذلك سوء تقدير للقدرات الذاتية والبيئة المحيطة)، لا شكّ بأنها لا تزال تسيطر على العقلية الإسرائيلية.
على الرغم من تشكيل قسم مخصص للتفكير المعاكس والنقدي هذا العام 2023، يسمى “قسم المراجعة”، والمعروف في الغالب باسم “محامي الشيطان”. بدأ نشاطه اعتبارًا من أوائل هذا العام، وتوسعت مسؤولياته لتشمل ليس فقط مراجعة التقييمات الاستخباراتية، ولكن أيضا عمليات الاستخبارات. مع ذلك، لا تزال هناك مناقشات حول المساهمة الفعالة لهذه الإدارة في منتج الاستخبارات. وفيما يبدو من التجربة العملية، أن فشلًا ذريعًا آخر قد جرى قبل أن يصبح فعّالًا.
سوء تفسير الدوافع الفلسطينية
ومن الجوانب الأخرى للفشل التحليلي الاستخباري الإسرائيلي في حرب أكتوبر تشرين أو حرب يوم الغفران، الفهم الخاطئ للجوانب الثقافية والاجتماعية التأسيسية لعملية صنع القرار في مصر، في السنوات التي سبقت الحرب. إذ فشلت في الاعتراف بأن مصر كانت على استعداد لتحمل مخاطر كبيرة من أجل “محو إذلال عام 1967″، أي استعادة الكرامة واحترام الذات بعد الخسارة الهائلة لإسرائيل في حرب الأيام الستة. كما أغفلت المخابرات الأمريكية مثل هذه الجوانب الثقافية، ما يعكس ظاهرة أوسع تتمثل في الفشل في فهم المجتمع الذي تميّز بصعود القومية العربية آنذاك.
أما اليوم، وفي ظلّ التآمر الرسمي الإقليمي على الرغم من التبجّح في الغطرسة لدى حكومة نتنياهو، وفشل كل مفاوضات تحرير الأسرى بسبب عدم وجود نية إسرائيلية في التنازل للفلسطينيين، أوضح قائد سرايا القسام محمد الضيف أنّ هذه العملية، طوفان الأقصى، “جاءت لوضع حدّ لكل جرائم الاحتلال، وانتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب”.
يتحدّث الإسرائيليون في تقديراتهم للإخفاق، وبشكل لافت، عن الذكاء الثقافي، أي الاستخبارات التي تهدف إلى فهم ثقافة الخصم، باعتبارها أمر بالغ الأهمية للتحليل الاستراتيجي، وللإنذار المبكر. وعلى الرغم من تقدم الدراسات الاجتماعية في ظلّ البيانات الضخمة التي جعلت الذكاء أكثر اعتمادًا على التقنيات المتقدمة والبيانات القابلة للقياس الكمي، والعقود الطويلة في التعامل مع الفلسطينيين بشكل خاص ومحور المقاومة بشكل عام، إلا أنّ هؤلاء ما زالوا يسيؤون التقدير، وعاجزين عن فهم الظواهر التشغيلية والتكتيكية للمقاومة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
زينب عقيل