( شكلت الثورة اليمنية مشكلة معقدة بالنسبة للسياسة الأمريكية والبريطانية الشرق أوسطية و إذا ما صمدت الجمهورية العربية اليمنية وازدهرت فالخطر لا محالة مخيم على المملكة العربية السعودية ).
اعتبرت ثورة 26 سبتمبر 1962م جزء لا يتجزأ من المسيرة التحررية الوطنية العالمية التي تفتح الطريق واسعا للنمو الوطني والتقدم الاجتماعي.
مفهوم الثورة
الثورة ليست انقلابا لتغيير حاكم بآخر , وهي ليست حركة عفوية تقوم ببعض الإصلاحات الطفيفة. وإنما الثورة في معناها الحقيقي تستهدف التغيير الجذري الشامل للهيكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتخلف. ومن أولى أهدافها إقامة مجتمع تقدمي جديد يقوم على دعائم الديمقراطية في الحكم والكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع وتكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين.
ثأرا للماضي
الحقيقة أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م التي انبثقت من ضمير الشعب اليمني , وليست وليدة عام 1962م وحده , وإنما سبقتها موجات من الارهاصات الثورية طوال عهود طويلة من العذاب والألم عاشتها البلاد تئن تحت وطأة الحكم الامامي, وتمثلت هذه الارهاصات في عدة انتفاضات وحركات ثورية قام بها الشعب اليمني قبل ذلك ولكنها انتكست نتيجة تحالف القوى الرجعية والاستعمارية ضدها.
فلقد جاءت ثورة 26سبتمبر 1962م ليفتح هذا العهد , عهد تحرير المواطن اليمني ولتحرير أرضه من الاستعمار البريطاني والتسلط السعودي, فالثورة اليمنية التي اسقطت الحكم الامامي وأعلنت قيام جمهورية وطنية متحررة شكلت انذارا ثوريا حازما للاستعمار البريطاني والرجعية السعودية وبنشوبها توفر الشرط الحاسم لانطلاق حركة التحرير الوطنية اليمنية وافشال كل المخططات الاستعمارية.
ولقد ادرك الاستعمار البريطاني وادركت الرجعية السعودية اتجاه الثورة اليمنية التاريخي. ومهمتها العظمى التي وضعها التاريخ اليمني على عاتقها ثأرا للماضي وانتصارا للمستقبل, ولهذا فأنهما قد شنا ضدها حرب تدخل رجعية استعمارية سافرة. ولم يكن اندفاع بريطانيا المسعور ضد الثورة اليمنية دفاعا عن عرش الرجعية الذي سقط في صنعاء بقدر ما كان دفاعا عن برجها الاستعماري في عدن.
كما لم يكن هجوم الرجعية السعودية المحموم ضد الجمهورية والثورة اليمنية استمرارا لتدخلها ضد انتفاضات الشعب اليمني كما حدث عام 1948م. وإنما بالدرجة الأولى دفاعا عن نظام شبيه له اهتزت قواعده بفعل الثورة في صنعاء, ولم تعد تملك السعودية امكانية شن حرب توسعية علنية بقصد الالحاق كما كانت تصنع في الماضي, وأصبح كل ما تملكه هو تجنيد المرتزقة والرجعين من داخل اليمن ومن خارجها ودفعهم إلى احداث اضطرابات سياسية واقتصادية في اليمن.
التغلغل الاستعماري
اقتصاديا فأن الاحتكارات البريطانية الاستعمارية لم تخضع جنوب اليمن المحتل لخدمة اقتصادها فقط بل واخضعت ايضا شمال اليمن فقد تحول الشمال نتيجة لفقدان المؤسسات والبنوك والموانئ إلى شبة مستعمرة تابعة من الوجهة الاقتصادية للاستعمار البريطاني. وقاد هذا التحكم الاقتصادي في البلاد على المستوى السياسي ومارست بريطانيا نفوذا سياسيا معينا على الامامين يحيى واحمد واثرت على سيادة الدولة ومست استقلالها وقد تجلى ذلك خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي عهد الإمام أحمد اخذ البلاط الملكي يتحول بالتدريج إلى مسرح للنفوذ الاستعماري واخذ النفوذ الامريكي يكتسح النفوذ البريطاني وبدا أن الاستعمار الجديد يسعى حثيثا في فرض نفسه في شمال اليمن خلال صراعه وتنافسه مع الاستعمار القديم واصبح للاستعمار الامريكي عملاء مهمون يحتلون أماكن حساسة في جهاز الدولة.
وما كان اعطاء امريكا امتياز التنقيب عن البترول في شمال اليمن الا احد مظاهر تغلغل الاستعمار الجديد أمريكا في اليمن.
أصداء الثورة
كان لنجاح ثورة 26سبتمبر1962م وقيام الجمهورية العربية اليمنية, أول جمهورية في شبة الجزيرة العربية صدى هائل في العالم أجمع, واعتبرت الثورة جزء لا يتجزأ من المسيرة التحررية الوطنية العالمية التي تفتح الطريق واسعا للنمو الوطني والتقدم الاجتماعي. اما الاوساط الرجعية والامبريالية وقبل كل شيء الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فقد تلقت اخبار الثورة اليمنية بيقظة وعداء. إذ رات هذه الاوساط في الجمهورية الفتية تهديدا لمصالحها النفطية ومواقعها الاستراتيجية.
وبهذا الصدد كتبت الصحيفة الإنجليزية ( أيسيرفر) في تاريخ 2اكتوبر 1962م ( شكلت الثورة اليمنية مشكلة معقدة بالنسبة للسياسة الأمريكية والبريطانية الشرق أوسطية ). أما الصحيفة الفرنسية ( لاكروا) فقد اشارت في تاريخ 10 اكتوبر 1962م ( إن القضاء على الملكية في اليمن خلق القلق والانزعاج على امتداد شبة الجزيرة العربية وقبل كل شيء في المحميات البريطانية وفي العربية السعودية).
ومع استمرار التكالب الرجعي والاستعماري بحربها على ثورة 26 سبتمبر عادت كتبت صحيفة ( أيسيرفر) الانجليزية في تاريخ 5 أبريل 1964م لتكتب: ( إذا ما صمدت الجمهورية العربية اليمنية وازدهرت فالخطر لا محالة مخيم على المملكة العربية السعودية ).
في حين تناولت المجلة الإنجليزية الأسبوعية في عددها 276 بتاريخ7 ديسمبر ( نيوستبسمن ) فقد كتبن بهذا الصدد : ( بنجاح قيام الجمهورية العربية اليمنية وجدت الأنظمة الملكية في شبة الجزيرة العربية – من عدن وحتى الحدود الأردنية – وجدت هذه الأنظمة بأن الثورة على أبوابها ).
تكالب استعماري
لقد وضع التاريخ على شعب اليمن الثائر في الشمال والجنوب مهمة مواصلة كفاحه التاريخي المليء بالتضحيات فبعد اقامة ثورة سبتمبر كان على عاتقه اسقاط الحكم الاستعماري في الجنوب ومواصلة مرحلة التصدي للرجعية في الرياض الطامعة باليمن وخلق دولة يمنية موحدة مستقلة وطنية ديمقراطية.
على أن ما شجع الرجعية السعودية بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م على الاستمرار في سياستها العدائية لليمن وشعبه والتدخل الدائم في شؤونه الداخلية, ومحاولة فرض مطامعها وسياستها عليه هو الاستعمار الانجلو – الأمريكي وظهور أمريكا كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية كوريثه للاستعمار البريطاني والذي أدرك بدوره أن قاعدته العسكرية الاستعمارية في الظهران ونفوذه السياسي والعسكري في الرياض ومصالحه البترولية في المنطقة قد دنت ساعة التخلص منها بقيام ثورة اليمن التحررية.
التي اشاعت في طول الجزيرة العربية وعرضها روحا ثورية جديدة وعهدا ثوريا متأججا وزاد من القلق الاستعماري الانجلو – امريكي التواجد المصري في اليمن لمساندة ثورة 26 سبتمبر ودعم ثوار ثورة ال14 اكتوبر 1963م في جنوب اليمن مما يعني ان مصر ستطوق منابع النفط في الخليج وتتحكم بأهم المضايق البحرية بدأ من مضيق هرمز بالخليج العربي والسيطرة على البحر الاحمر بمضايقه باب المندب وقناة السويس مما يهدد الاطماع الاستعمارية القديمة ممثلا بريطانيا والجديدة ممثلا بأمريكا في المنطقة .
انتصارا للمستقبل
يمكن القول : إن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م التي أسقطت النظام الامامي الملكي وأعلنت الجمهورية العربية اليمنية ماهي إلا امتدادا للأعمال الكفاحية والانتفاضات الثورية السابقة والدؤوبة التي استمرت ثلاثين عاما , وتتويجا لها وتعبيرا جليا عن وضوح الرؤية الثورية وعن تحديد الأهداف.
وبقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م أمكن انتزاع اليمن من واحد من أكثر أقبية القرون الوسطى ظلاما ووحشية ووضعها دفعة واحدة في غمرة أضواء القرن العشرين, فكانت القذيفة الأولى التي لعلعت في ليل الجزيرة العربية البهيم وايقظتها من سباتها الطويل للسير في طريق المستقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي الشراعي