ليست المرة الأولى التي يدَّعي فيها كيان الاحتلال عقد لقاءات مع مسؤولين ليبيين، وإن اختلفت النتائج والتداعيات هذه المرة عن سابقاتها. في واحدة من أهم الدلائل على تهاوي كيان الاحتلال وتأكّل قدراته وسوء تقديراته، ولا سيما في خضم الأزمة الداخلية المستفحلة، وقعت وزارة خارجية كيان الاحتلال في شر تقديراتها، عندما كشفت في 27 آب/أغسطس الجاري عن اجتماع سري عُقد بين وزير خارجية كيان الاحتلال إيلي كوهين ونظيرته الليبية نجلاء المنقوش في العاصمة الإيطالية روما، ووصفته بالأول من نوعه على الإطلاق.
وبحسب بيان وزارة خارجية كيان الاحتلال، قال كوهين: “تحدثت إلى وزيرة الخارجية عن الإمكانات الكبيرة للعلاقات بين البلدين، فضلاً عن أهمية الحفاظ على تراث اليهود الليبيين، بما يشمل تجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد”، وأشار إلى أن “اللقاء التاريخي مع المنقوش هو خطوة أولى في العلاقة بين إسرائيل وليبيا”.
ليست المرة الأولى التي يدّعي فيها كيان الاحتلال عقد لقاءات مع مسؤولين ليبيين، وإن اختلفت النتائج والتداعيات هذه المرة عن سابقاتها. في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، كشفت صحيفة “معاريف” عن اتصالات دارت على هامش القمة الدولية بشأن القضايا الليبية في باريس لمحاولات تدارس إقامة علاقات دبلوماسية بين كيان الاحتلال وليبيا.
وادّعت الصحيفة الصهيونية أنها أجرت لقاء في باريس مع رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، وأنه قال فيما يخص التطبيع إن “هذا الموضوع سيناقش لاحقاً”. لم ينفِ الدبيبة الأمر حينها، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي شجعت الاحتلال على الذهاب بعيداً في ادعاءاته.
في 12 كانون الثاني/يناير 2022، نفى الدبيبة، في بيان مقتضب للحكومة الليبية، صحة “الشائعات” عن لقائه مسؤولين صهاينه في الأردن، وذلك رداً على ما ذكرته قناة “العربية الحدث” السعودية وتداولته وسائل الإعلام الصهيونية بأن “الدبيبة بحث مع رئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع في عمان تطبيع العلاقات بين ليبيا وإسرائيل”.
لم يقتصر الادعاء الصهيوني على الدبيبة؛ ففي أواخر2021؛ ادعت صحيفة كيان “إسرائيل اليوم” أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر تحدث أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة، عن التوصل إلى اتفاق تطبيع. تعدد المرات التي ادعى فيها الإعلام العبري حدوث لقاءات تخص التطبيع، سواء مع ليبيا أو غيرها، يعني أن هناك هوساً صهيونيا محكوماً بعقدة المأزق الباحث عن منفذ، وإن كان مستبعداً. والملاحظ أن كيان الاحتلال يخالف ما جرت العادة في اتفاقيات التطبيع السابقة التي كانت تطبخ بروية وسرية ولا يُعلن عنها إلا لحظة توقيعها.
بات كيان الاحتلال يكرر مؤخراً الحديث عن اقتراب توقيع اتفاقيات تطبيع جديدة، تارة مع السعودية، وتارة مع تونس، ومرة أخرى مع موريتانيا، حتى إنه ذهب بعيداً إلى الصومال، ولم يسقط إندونيسيا من ادعاءاته. أحد محددات هذا الهوس هو استفحال الأزمة السياسة الداخلية في كيان الاحتلال، حتى باتت المحددات والحسابات الشخصية هي الضابطة لعملية وآليات صنع القرار واتخاذه في كيان الاحتلال.
لا تفسير لسوء تقدير وزير خارجية كيان الاحتلال بتسريب لقائه المنقوش سوى أن الرجل وقع تحت تأثير حساب شخصي. وعندما أراد أن يُمرر اللقاء بالمنقوش كإنجاز سياسي شخصي قبل مغادرته موقعه في خارجية الاحتلال نهاية العام، أفسد كل شيء، إذ كان يفترض باللقاء أن يبقى سراً حتى ينضج على مهل، ولم يكن وزير خارجية كيان الاحتلال إيلي كوهين يظن أن تسريب الخبر قد يفضي إلى كل هذه التبعات والتداعيات.
لم تمضِ سوى بضع ساعات على تسريب خبر لقاء كوهين بالمنقوش حتى تدافعت ردود الفعل الليبية الرسمية والحزبية والشعبية تباعاً، وبدأت من سقف المطالبة بإقالة الوزيرة، حتى وصلت إلى محاصرة مبنى وزارة الخارجية والمطالبة بإقالة الحكومة، وسط حالة غضب وسخط جابت الشوارع الليبية، الأمر الذي يعني أن أول التبعات هو تهاوي إمكانية التطبيع مع ليبيا، وإن كانت في التقديرات الصهيونية متوقعة، فقد أعادها الغضب الليبي الشعبي إلى الصفر.
تداعت القوى السياسية والرسمية الليبية إلى استنكار اللقاء، وطالب المجلس الرئاسي حكومة الوحدة بتوضيح حقيقة لقاء المنقوش وكوهين، فيما طالبت كتلة التوافق في المجلس الأعلى للدولة بإقالة وزيرة الخارجية من منصبها، كما طالبت باستقالة جماعية للحكومة والمجلس الرئاسي في حال وُجد تنسيق مسبق بشأن اللقاء.
واستنكر حزب العدالة والبناء اللقاء، وطالب رئيس الحكومة بإقالة وزيرة الخارجية من منصبها فوراً لإقدامها على هذا اللقاء المشبوه، الذي يعبر للحكومة بأن هذه الخطوة المسيئة إلى مشاعر جميع الليبيين تقتضي إيضاحاً وافياً. ووصفت دار الإفتاء “اللقاء بالاعتداء الصارخ على ثوابت الوطن والدين”، ودعت الشعب الليبي قاطبة إلى المطالبة بإقالتها (المنقوش) ومحاسبتها على ارتكاب هذه الجريمة، بحسب تعبير البيان.
على المستوى الرسمي، أوقف الدبيبة وزيرة الخارجية عن العمل احتياطياً، وأحالها إلى التحقيق، في حين أعلن جهاز الأمن الداخلي الليبي في طرابلس إدراجها في قائمة الممنوعين من السفر لحين امتثالها للتحقيقات. شعبياً، اندلعت احتجاجات في عموم المدن الليبية، وأحرق المحتجون الإطارات أمام مبنى رئاسة مجلس الوزراء في العاصمة طرابلس، وأغلقوا الشوارع ملوحين بالعلم الفلسطيني، واقتحموا مقر وزارة الخارجية الليبية، مطالبين بإقالة الوزيرة المنقوش، مرددين هتافات داعمة للقضية الفلسطينية.
على عكس التقدير، لم يفضِ تسريب وزير خارجية كيان الاحتلال إلى رفع رصيده السياسي وقد شارف على مغادرة موقعه في وزارة الخارجية، ولم تضمن له المجازفة غير محسوبة العواقب موقعاً في العاصفة التي تضرب أركان المشهد الصهيوني. والمفارقة أن فرقاء “تل أبيب” اتفقوا على مهاجمة الوزير وانتقاده لتسريب خبر لقائه بالمنقوش. وقد تتم التضحية به إذا صار بقاء حكومة نتنياهو على المحك.
وقال زعيم المعارضة في كيان الاحتلال يائير لابيد: “دول العالم تابعت هذا الصباح التسريب غير المسؤول لاجتماع وزير الخارجية الصهيوني ونظيرته الليبية. هل هذه دولة يمكننا أن نقيم معها علاقات خارجية؟ هل هذه دولة يمكنك الوثوق بها؟”، ورأى أن تسريب عقد الاجتماع هو “عمل غير احترافي، وغير مسؤول، وفشل خطر في الحكم”.
ودعا وزير حرب كيان الاحتلال السابق بيني غانتس إلى إنهاء حكومة نتنياهو بعد تداعيات تسريب خبر اللقاء. وقال: “العلاقات الخارجية لدولة إسرائيل مسألة حساسة وجدية، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الدول العربية، وبالتأكيد تلك التي لا تربطنا بها علاقات رسمية”.
تهاوى التطبيع، وتردت حظوظه، ولم يكن تسريب خبر اللقاء بين وزير خارجية كيان الاحتلال ونظيرته الليبية بحاجة إلى هذه المجازفة لمعرفة التبعات. ولو كان وزير خارجية الاحتلال مطلعاً ومتابعاً، لعثر على أحدث استطلاع للرأي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 4 كانون الثاني/يناير الماضي، وأفاد بأن 96% من الليبيين يرفضون التطبيع أو الاعتراف بكيان الاحتلال.
وبحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه المركز على 14 دولة عربية، حلّت ليبيا في المرتبة الثانية في رفض الاعتراف بـ”إسرائيل” بعد الجزائر وموريتانيا بنسبة 99%، في حين بلغت نسبة رافضي التطبيع في العراق 92% وتونس 90%.
في عرف الشعوب الحرة، لا تتوقف تبعات التطبيع على سوء التقدير، ولا ترتهن سيناريوهاته لتسريب الخبر من عدمه، فالأمر ببساطة شديدة أن كيان الاحتلال هو كيان مرفوض وملفوظ، وأي مجازفة بالتطبيع معه أو الاقتراب منه ستفجر غضباً شعبياً لن يكون بمقدور الحسابات السياسية والرهانات الواقعية استيعابها، وأن أول التبعات أن تضطر وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إلى الهروب متسللة من بلادها إلى تركيا ككبش فداء، بعدما تملص الجميع من الأمر وتُرك معلقاً على قارعة تبادل الاتهامات.
إن استمرار كيان الاحتلال بالمكابرة في رواية اللقاء، والادعاء بأنه كان مخططاً له مسبقاً، وأن الحكومة الليبية في طرابلس تدرك ذلك، يدفع إلى التساؤل: هل ينجو إخوان ليبيا من شرك التطبيع أم أن سيناريو المغرب قد يتكرر في ليبيا؟
ــــــــــــــــــــــــ
ثابت العمور