كثيرة هي مآسينا في اليمن، جراء العدوان والحصار، وما يعلمه عامة الناس عن هذه المآسي لا يتعدى جرائم القتل والقصف والحصار والتجويع، لكن هناك مآسي تختفي خلف الحسبان، تتمثل في ما تنتجه آلة العدوان ومرتزقته من آلام وتعذيب واختطاف وسجن لأناسٍ ليس لهم في المشهد العام للقتال والحرب أي شأن..
لكن أن تتعدى إلى اختطاف وسجن وتعذيب غير اليمنيين فهذا أمر في غاية الإسراف من الغلو والعتو والظلم، وخاصة إذا كان ضد المرأة، نحن اليوم بصدد الحوار مع امرأة مصرية، تزوجت من يمني في مصر، وقررا أن يسافرا اليمن لزيارة أهله، والعودة إلى مصر في غضون أشهر على أقصى تقدير، فإذا بهما يقضيان خمس سنوات في سجون مارب، تتعرض فيها المرأة المصرية البريئة لأقسى أنواع التعذيب، وتتعرض للضرب حتى تسقط جنينها الذي حملت به من زوجها في السجن..
وهنا أرحب بالمختطفة المحررة سحر المصري، كما أرحب بالقراء الكرام إلى هذا الحوار الذي يقطر ألماً وحزناً، لولا أن منّ الله على أختنا المصرية وزوجها بالحرية.
فكيف كانت قصة اختطافها، وكيف قضت سنوات خمس في سجن بلا تهمة ولا قضية، وما قصة الطفلة التي ولدت في السجن.. فإلى الحوار:
نرحب بك أستاذة (سحر المصري) في هذا الحوار ونود أن تحدثينا عن مأساتك، التي شهدها العالم عبر القنوات الفضائية اليمنية.. كيف كانت بداية السفر إلى اليمن، وكيف تحول إلى مأساة؟
– كنت قادمة إلى اليمن مع زوجي اليمني لزيارة أهله، ومن ثم العودة إلى مصر، وعندما وصلنا إلى مارب فوجئنا بأن تم القبض علينا، أنا وزوجي، واقتادوني إلى سجن، وزوجي إلى سجن آخر. وأخفوه عني لمدة شهرين في البداية، وسمحوا لنا بأن نلتقي، ثم أخفوه عني سنتين، وبعدها سمحوا لنا بأن نلتقي كل شهر مرة.. ودام سجننا لمدة خمس سنوات.
أين تم اعتقالك، أو اختطافك -بالمعنى الأدق- أنتِ وزوجك، وما التهم التي وجهت إليكِ؟
– تم القبض علينا في إحدى نقاط التفتيش، ولم يوجهوا إليّ أيّ تهمة، بل سألوني بعض الأسئلة، وأجبتهم عن تلك الأسئلة، ولم يعودوا يحققوا معي بعدها.
وكانت تلك الأسئلة حول من يعرف زوجي، ومع من يتكلم، ومن هم أصحابه.. وأجبتهم عن كل أسئلتهم بكل صراحة، دون علم مني هل سأكون سبباً في توريطه أم لا. وعندما لم يجدوا ما يتهموني به، حاسبوني على كوني مصرية وأحب رئيس بلدي، وحاسبوني أيضاً على زيارتي لقبر سيدنا الحسين.
هل علمتِ بأي طريقة عن الجهة التي اعتقلتك؟
– في البداية أخذوني إلى البحث، عند (حسين الحليسي)، ثم عند واحدة اسمها (نادية الجعفري)، ثم أخذوني إلى الأمن السياسي، عند واحد اسمه (أحمد حنشل)، وسجنونا في البدروم أنا وحوالي إحدى عشرة سيدة معتقلة.
كيف كانت ظروف السجن، وكيف كان حالك فيه؟
– كانت ظروف صعبة جداً، وكنت أبكي ليلاً ونهاراً.. وكان المكان مليئاً بالذباب، ونقلوني إليه بدون أغراضي، ولكن في السجن الثاني كانت لديّ (ناموسية) وبعض الأغراض.
كيف كانت مشاعرك عن زيارتك اليمن للمرة الأولى، وكيف مثلت لك هذه الزيارة صدمة باعتقالك؟
– لم أكن أتوقع أن يحصل لي ما حصل أصلاً، صحيح أنني متزوجة من رجل يمني، ولكن لم يكن عندي أي خلفية عن اليمن بالمرّة.
لكنكما أتيتما إلى اليمن في ظروف حرب وعدوان، ولزيارة أهل زوجك، كما ذكرتِ، وليس لتمضية شهر العسل؟!!
– أنا لم يكن في خيالي أصلاً أن آتي إلى هنا، كنت أتوقع أن أقوم برحلة لإحدى الدول الأوروبية، كما يعمل البعض البعض بعد الزواج، كرحلة سياحية، وكان بعيداً عن خيالي أن آتي إلى اليمن، أو أي دولة عربية..
وكان قرار زيارتنا لليمن قراراً مفاجئاً، ولم أكن أتخيل أنني سأوافق، أو أنني سأزور أهل زوجي في اليمن، ولم أتصوّر أنني سأقع في ورطة.
هل بإمكانك أن تتحدثي عن كل ما كان يحصل معك في السجن؟
– كان يدخل علينا رجال مُقَنّعون، فيقومون بسحبنا، أنا وبعض السجينات هناك، فبعضنا يتم سحبها من شعرها، والبعض يتم سحبها من رجليها، ويقومون بإطفاء الأنوار في المكان بشكل كامل، ويقومون باستخدام المصابيح اليدوية، ويضربونا بالعصيّ والخراطيم وكابلات الكهرباء، والواحدة منا يقوم بضربها سبعة رجال أو ثمانية.
كم تستمر مدة الضرب؟
– كان يتم ضربنا حتى الواحدة منا يكون جسمها أسوداً كالبالطو التي تلبسه من شدة الضرب، يتم ضربنا في كل مكان من الجسم.
ماذا عن حملك وولادتك وإسقاطك في السجن؟
– كانوا يأخذوني إلى زوجي للزيارة والخلوة كل شهر، وحملت منه في السجن، وقد تم ضربي وأنا حامل، وولدت ابنتي الأولى في السجن، وفي الحمل الثاني تم ضربي وأنا حامل أيضاً، حتى تم إسقاط الجنين من شدة الضرب، وعلى فكرة: فقد أدليت بموضوع الإسقاط في مقابلات تلفزيونية سابقة، وقاموا بقص موضوع الإسقاط هذا، وعندما ضربوني في السجن في الحمل الثاني كنت في الشهر الثالث من الحمل، وبدأ الإسقاط بنزيف شديد، استمر لثلاثة أشهر، حتى أسقط الجنين في الشهر السادس من الحمل، وكان بالتحديد في شهر سبتمبر 2022م.
متى تم الإفراج عنكِ، وكيف كان خروجك من السجن؟
– في 21 مايو 2023م أخذوني إلى فندق، ولكنهم لم يعطوني أشيائي ومتعلقاتي كاللابتوب والموبايل وبقية أغراضي، على أساس أن أكون تحت الإقامة الجبرية، فلم يكن خروجنا نهائياً، ولم يعطوني بطاقتي وجواز سفري ليمنعوني من التحرك، ويضمنوا تواجدي تحت نظرهم، وليمنعوني من التواصل مع أي أحد.
هل تم بعدها الإفراج عنكِ ضمن صفقة من صفقات تبادل الأسرى والمسجونين؟
– لا، لكنهم جعلوني أوقع على أوراق، ألتزمُ فيها بعدم الإضرار بالأمن في مارب، وهم يعلمون أنني ليس لي دخل بمارب ولا باليمن بأكملها. وكنت أرفض التوقيع، لكن زوجي أقنعني بالتوقيع حتى أخرج من عذابات السجن.
هل كنتِ أثناء سجنك وتعرضك لكل هذا العذاب تتوقعين أن تخرجي، أم كنتِ قد يئستِ من الخروج إلى الحرية؟
– لا. لا. لا. أنا واصل وأنا أعلم أنني سأخرج من السجن، ولم ينقطع عني الأمل بالخروج.
هذا يدل على أن لديكِ عزيمة قوية، وإرادة صلبة…
– (أيوه.. أيوه.. أيوه) الحمد لله والشكر لله.
بمناسبة ذكر ما لديك من عزيمة وإرادة قوية، سمعت أنك قمت بالإضراب عن الطعام وأنتِ في السجن، فمتى كان، وما هي نتيجته؟
– طبعاً أنا عملت إضرابين وأنا في السجن، المرة الأولى عندما حرموني من رؤية زوجي سنة كاملة، فقمت بالإضراب لمدة خمس أيام، والمرة الثانية بسبب أنهم حرموني من رؤية زوجي وابنتي لمدة عشرة أشهر، فقمت بالإضراب عن الطعام لمدة عشر أيام، وبعدها قاموا بإخراجي مع زوجي وابنتي إلى شقة، قبل الإفراج الأخير.
الآن وأنتِ في صنعاء، وقد فرّج الله تعالى عنكِ، كيف تجدين الفرق بين مارب وصنعاء؟
– لا مقارنة إطلاقاً بين مارب وصنعاء، عناصر الأمن هنا محترمون، عكس هناك، والأمن متوفر للجميع.
خلال متابعتي لمقابلات أجرتها معكِ بعض القنوات الفضائية هنا، قلتِ إنه تم اتهامك بأنكِ مع (السيسي)، ما طبيعة هذا، إن جاز لنا أن نسميه اتهاماً؟
– (أيوه.. أيوه.. أيوه) هم هناك لا يحبون (السيسي)، ويحبون (محمد مرسي) كثيراً، حتى أنهم كانوا في السجن يعملون محاضرات، يشتمون بها (السيسي) ويتهمونه بالعمالة وأشياء كثيرة، فيقوم بعض اليمنيين المعتقلين بالرد على الرجل الذي يلقي المحاضرة، وخاصة من اليمنيين الذين سافروا إلى (مصر)، وكنا نسمعهم، رغم أننا في البدروم، والمحاضرة والسجناء الرجال في الحوش، لكن كان صوت الذين يردون على المُحاضر واضحاً ويصل إلينا..
ومن ضمن ما كان يلقيه المُحاضر، أن الحوثيين يقومون بحبس النساء، وأنهم يحبسونهن في (بدروم)، فيقوم الرجال بالصراخ فيوجه الشيخ المُحاضر، ويقولون له إن النساء عندك تحت، في البدروم هناك..
وفي تلك المرة قام الشيخ المُحاضِر بترك المُحاضرة، والمغادرة من المكان، وكأن الشيخ المُحاضر كان مستغرباً كيف أنهم أملوا عليه ما يقول، وجعلوه يؤمن به، بينما النساء لديهم هم في بدروم السجن ذاته الذي كان يلقي المحاضرة فيه.
هل كانوا يسمحون لكِ بالتواصل مع أهلكِ في (مصر)؟
– لا لمدة خمس سنوات لم يُسمح لي بالتواصل مع أهلي ولو مرة واحدة. الآن، وأنتِ في (صنعاء)،
هل تتواصلين مع أهلكِ في (مصر)؟
– نعم الحمد لله.
بالنسبة لابنتكِ التي ولدت في السجن.. هناك حقوق مدنية، نصت بها مواثيق واتفاقات دولية وأممية حول الذين يولدون في السجن، وخاصة في زمن الحرب.. هل رفعتم مذكرات إلى الجهات ذات . العلاقة، كالمنظمات الحقوقية الدولية، للمطالبة بهذه الحقوق، كالرعاية النفسية؟
فبالتأكيد أن ابنتكِ قد تعرضت لظروف معينة تستلزم العناية والرعاية الدائمة؟ –
بالتأكيد رفعنا مذكرة إلى الصليب الأحمر، لكن الصليب لم يتجاوب معنا، ولم يعمل أي شيء، هم كانوا يزورونني في السجن، خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر ابنتي التي ولدت في السجن، ويعطونني (كُروت)، ويعدونني بالعمل على إخراجي، وعودتي إلى بلدي (مصر)، وأخبروني أنهم تواصلوا مع السفارة المصرية، وعند تواصلي مع السفارة المصرية وأنا هنا في صنعاء، فوجئت بأن السفارة لم يكن لديها أي بلاغ من الصليب الأحمر، أي أن الصليب كان يكذب، لكن لدي الأوراق التي تثبت وعودهم وقولهم بالتواصل مع السفارة.
إذا كانت الأوراق معكِ فاحتفظي بها، لأنهم لو أنكروا، فسيتم فضحهم عبر الصحافة. الآن لو سألتكِ عن ما تريدين من الدولة هنا في صنعاء؟
وما هي مطالبك القانونية والحقوقية بشكل عام؟ – أريد من المسؤولين هنا في صنعاء، وأناشد بالتحديد (السيد عبدالملك) باتخاذ موقف تجاه ما تعرضت له، كما أطالب بتسريع الإجراءات المتعلقة بأوراقي، لأن بطاقتي وجواز سفري لا يزالا لدى الذين سجنوني وعذبوني هناك في مارب، وأطالب برد اعتباري، وبسرعة عودتي إلى وطني (مصر).
وعلى فكرة: أرفض العودة حتى تتخذ مأساتي قضية رأي عام في مصر.. وهذا ما يتفق معي بشأنه المستشار المصري الذي يتابع قضيتي بتكليف من وزارة الخارجية المصرية، وهو الآن بصدد استخراج أوراق ثبوتية لي، كالبطاقة وجواز السفر.
وماذا عن مطالبك القانونية؟
– اما عن مطالبي القانونية فأنا أطالب بمحاكمة المتهمين الرئيسيين، وهم كل من:(علي محسن الأحمر، وسلطان علي العرادة، وأحمد حنشل، وعبده الحذيفي)..
ولن أسكت عن كل ما تعرضت له، فسوف أقوم برفع قضية ضدهم أمام القضاء المصري، والدولي، وحتى في محكمة الجنايات الدولية..
وأطالب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي باتخاذ موقف وقرار تجاه قضيتي، والتعاون معي، والوقوف معي لمحاسبة المتورطين في اختطافي وسجني وتعذيبي وإسقاط الجنين من بطني، كما أطالب برد اعتباري، كوني ضيفة على اليمن، وعار على كل اليمنيين..
وللعلم، فقد سبق أن ناشدت السيد عبدالملك، وكذلك ناشدت المستشار المصري على الهواء مباشرة، عبر قناة اليمن الفضائية.
هل نشر الإعلام المصري عن قضيتك؟
– نشروا حتى الآن أخباراً عن قضيتي، وهم الآن بصدد التنسيق مع مذيعين (كباراً) لنشر قضيتي ومأساتي بشكل أوسع. وأنا الآن في تواصل مع الأمن المصري، وهم مهتمون بي وبقضيتي، ويتم التواصل عبر المستشار، والأمن يقوم الآن بالتنسيق مع قنوات معينة في مصر، وأنا أشكر المستشار وأشكرهم على كل الجهود التي يبذلونها.
قبل أن نتكلم عن وصول الأمر إلى قضية رأي عام في مصر، هل وصلت قضيتك إلى قضية رأي عام هنا في اليمن، رغم كثر كثرة الحوادث التي تشبه حالتك؟
– لا. ليس إلى الوقت الراهن بعد.
بالعودة إلى ابنتك. سمعتُ أنها تخاف من الأماكن المغلقة.. فهل حصلتم لها على شيء من الرعاية النفسية التي طالبتم بها؟
– فعلاً.. هي تخاف من الأماكن المغلقة.. بمعنى أنها تريد أن يظل الباب مفتوحاً حتى تنام، وبعد أن تنام فقط نقوم بغلق الباب، وبالفعل عرضناها مرتين على طبيب نفسي في صنعاء، وأعطوها أدوية، ونصحوني بالعودة بشكل منتظم.
وبالنسبة لكِ أنتِ هل لديكِ أي آثار نفسية؟
– أنا أحسن حالاً، لكني بعد ما حصل لي أصبحت أشعر بالتوتر، وأي موضوع ممكن يعصبني.
أختم هذا الحوار بتقديم الشكر لكِ على إتاحة هذه الفرصة للحديث معك حول مأساتك التي فرج الله عليك منها، وأهنئك على خروجك من مأساةٍ حدثك لكِ هنا في وطنك الثاني اليمن، بسبب حرب وعدوان لا ناقة لكِ فيها ولا جمل.
فألف مبروك على نعمة الحرية، وأتمنى لك المقام هنا في صنعاء مع زوجك وابنتك في سلامة وأمن وسعادة، حتى تعودي إلى وطنك الأول مصر، والذي هو وطن كل عربي-عربي، بالسلامة والأمن والسعادة، وأن يعوض الله عليكِ، عن كل ما تعرضت له. – شكراً جزيلاً لك