رد الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ مهارة وفن وإبداع يتطلب أولاً القدرة على تحمل وقع الحجر مهما كان شديداً، وثانياً امتلاك الإرادة والبأس الكفيل بالتقاط الحجر وردها على راميها بشدة لا تقل عن تلك التي قذف بها، وعندما يتبين لهواة المغامرة، والمقامرة أن رمي أي حجر ليس لهواً ولا تسلية أو تمضية وقت، وليس “لعبة نقاط” بل “لعبة وجود وفناء”، فهذا يتطلب ضرورة النزول من الفضاء الذي اعتادوا السباحة فيه، وتحسس أرض الواقع والحقيقة بأقدامهم بدلاً من التحليق في فضاء الأوهام والأحلام والأمنيات، لأن أي فعل يفكرون في الإقدام عليه عليهم أن يضعوا في حساباتهم أن مسؤولية كبرى تترتب على أي خطأ في الحسابات، وعليهم تحمل ما قد يسببونه للآخر من ألم وأذى وضرر.
وعندها فقط يقبض أصحاب الرؤوس الحامية أكفهم ويرتدعون، ولعل هذه الحالة تنطبق على حكام تل أبيب بشكل دقيق يتبلور بأسمى المعاني، وأبلغ التجليات بعد كل إطلالة للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، فيتحسر رماة الأحجار على حماقة تفكيرهم وتهديداتهم، ويرغمون ـ ليس فقط ـ على الامتناع عن تكرار جرائمهم، بل وحتى التزام الصمت وابتلاع مرارة العجز عن تجسيد نزعة القتل والإجرام، لا لشيء إلا لأنهم على يقين بالعجز عن تحمل تكلفة الرد المفحم والمستند إلى ثقة عالية بالقدرات الذاتية، وثقة مشابهة بعجز الكلاب المسعورة عن الاستمرار بالتكشير عن الأنياب المسمومة بعد أن ألقمت حجراً مباركاً أدمى المصابين بالسعار، وأرغمهم على الاكتفاء بمد الألسن الطويلة واللهاث المتواصل من دون تكشير عن الأنياب لأنها مهددة بالتكسير والاقتلاع.
من تابع الإعلام المعادي في الكيان المؤقت بعد خطاب السيد نصر الله بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لانتصار المقاومة في حرب تموز وآب 2006م، يدرك أن المشهد المشار إليه سابقاً هو الأقرب إلى حقيقة الداخل الإسرائيلي المنقسم على ذاته بين عنصرية متطرفة متوحشة، وبين الرعب من رفع السقف بشكل غير محسوب لأي تهديدات اعتاد المسؤولون الصهاينة على إطلاقها بلا حسيب أو رقيب، وتكاد لا تخلو وسيلة إعلام إسرائيلية من تناول خطاب سماحة السيد وارتداداته الكارثية على التجمع الاستيطاني لكيان الاحتلال، ولم تقتصر تلك التعليقات على الإعلاميين والمحللين بل امتدت لتشمل العديد من المسؤولين الذين شغلوا مناصب عليا وحساسة، ويكاد القاسم المشترك الأعظم بين تصريحاتهم يسلم بدقة ما قاله سماحة قائد الانتصارات.
وعملية حسابية بسيطة كفيلة بالتأكد من دقة هكذا استنتاج، فإذا كانت مساحة فلسطين التاريخية الكلية تبلغ/26990/ كم2، منها:/365/كم2 مساحة قطاع غزة، و/5655/ كم2 مساحة الضفة الغربية أي ما مجموعه /6020/ كم2 تابعة للسلطة الفلسطينية، وبالتالي تبقى مساحة/20970/ كم2 تحت سيطرة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وقد صدرت عشرات الدراسات والتحليلات عن مراكز دراسات إستراتيجية إسرائيلية مهمة ومقربة من مفاصل صنع القرار الإسرائيلي، وجميعها تؤكد أنه في حال نشوب حرب فإن عدد الصواريخ التي ستنهال على داخل الكيان المحتل من جبهة لبنان وحدها تقدر في الأيام الأولى بستة آلاف صاروخ، ثم تتراجع حتى حدود /1500 ـ2000/ صاروخ في كل يوم قتالي، وتلك الدراسات الإستراتيجية الإسرائيلية تؤكد أن لدى حزب الله ترسانة من الصواريخ تتراوح بين /150000 ـ 200000/ صاروخ، وقسم كبير منها من فئة الصواريخ الدقيقة، أي النقطوية ذات الطاقة التدميرية العالية.
وهنا يمكن التوقف عند بعض النقاط، ومنها:
استناداً لتلك الدراسات الإسرائيلية فإن المقاومة قد تطلق في اليوم الأول /6000/ صاروخ، وهي كفيلة بشل قدرة الكيان على الاستمرار في الحرب، وبخاصة أن بنك الأهداف محدد سلفاً وإحداثيات الأهداف محملة وتنتظر الضغط على زر الإطلاق، وقد أوضح سماحة السيد في خطابه بعض تلك الأهداف”.. المطارات المدنية، المطارات العسكرية، قواعد سلاح الجو، محطات توليد الكهرباء وتوزيع الكهرباء، محطات المياه، مراكز الاتصالات الرئيسية، مجموعة من البنى التحتية ليس هناك من داع لتفصل فيها أكثر، مصافي النفط والبنزين والأمونيا وتستطيع أن تضع معهم مفاعل ديمونا..”، فكل ما ذكره سماحة السيد في خطابه سيكون ـ على الأقل ـ خارج الصلاحية في الساعات الأولى من أية حرب قادمة.
لنفترض سلفاً أن ترسانة الدفاع الجوي الإسرائيلي “القبة الحديدة ـ مقلاع داوود ـ الباتريوت..” وغيرها من منظومات الدفاع الجوي ووسائط التشويش والحرب الالكترونية نجحت في اعتراض حتى 50% من تلك الصواريخ، فهذا يعني وصول 3000 صاروخ إلى أهدافها، مع أن معظم الدراسات العسكرية الإستراتيجية تؤكد أن أقصى ما تستطيع أحدث المنظومات التصدي له تتراوح نسبته بين 27 ـ 40% في أحسن الأحوال، وهذا يعني أن أهم/3000/ هدف ستخرج من خدمة الأعمال القتالية.
من المسلم به أن الكيان الإسرائيلي يمتلك أكبر وأحدث قوة جوية في المنطقة، ولديه من الطائرات القاذفة والقاذفة المقاتلة وحتى القاذفات الإستراتيجية ما يستطيع به تدمير البنية التحتية للطرف الآخر، وهذا لا يجوز أن ينسينا أنه من المسلم به أيضاً أن غالبية الطائرات التي تقلع لتقصف مواقع المقاومة لن تجد مدارج للهبوط في المطارات التي أقلعت منها، وهذا يعني أن قسماً كبيراً مما يتغنى به الجنرالات الصهاينة ويسمونه “ذراع إسرائيل الطويلة” لن يستطيع الإقلاع ثانية إذا استطاع أن يهبط بعد الإقلاع الأول.
حتى لو بقي سلاح الجو الإسرائيلي فاعلاً في الحرب، فمن المتعارف عليه في العلوم العسكرية أن بلوغ النصر يتوقف على تقدم عنصر المشاة على الأرض، بغض النظر عن حجم التدمير الحاصل جراء القصف الجوي والصاروخي والمدفعي، وإذا كانت صواريخ الكورنيت قبل 17 عاماً حولت “الميركافا” فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية إلى كتل من لهب ونار، فما تملكه المقاومة في حزب الله اليوم أضعافاً مضاعفة مما كان لديها 2006، وإذا كان الجنود الإسرائيليون عجزوا عام 2006 عن اقتحام مارون الراس وبنت جبيل وتحول وادي الحجير إلى مقبرة للقوات المهاجمة وفرن صهر لمدرعاتها، فكل القرائن تؤكد أن مقاتلي حزب الله لن “يكلفوا” الجنود الإسرائيليين عبء التقدم باتجاه خطوط التماس والاشتباك، بل سينقضون عليهم في داخل الأراضي المحتلة وهذا ما تعنيه عبارة “سنعبر”.
جمهور المقاومة اعتاد على التعايش مع القصف والدمار، وامتلك خبرة كبيرة في تفادي الكثير من وحشية آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، ويستطيع البقاء في أكثر الظروف خطورة، لكن ماذا عن الداخل الإسرائيلي “البطن الرخو” الذي لم يعرف قبل عام 2006 شيئاً عن تداعيات الحرب؟ وكم يوماً يستطيع الاستمرار من دون ماء أو كهرباء أو اتصال، وإذا أضفنا إلى ذلك امتلاك غالبية المستوطنين جوازات سفر مزدوجة، فهذا يعني أن المطارات الإسرائيلية ستتحول إلى مراكز هجرة معاكسة باتجاه واحد.
منذ 25 مايو 2000 وجنود الاحتلال يحملون في عروقهم وجملهم العصبية فيروس الهزيمة، ومن يحمل فيروس الهزيمة سيبقى أسير تداعياته المتوقعة وغير المتوقعة، وإذا كان هناك من اتبع دورات تخصصية لتجاوز الشعور المسبق بالهزيمة والخوف من الموت فخطابات سماحة السيد كفيلة بحقن أوردة جميع المستوطنين مدنيين وعسكريين وسياسيين ومسؤولين بهذا الفيروس الممكن نقله بسهولة مع أي إطلالة لسيد المقاومة حفظه الله.
نعم يستطيع الكيان المؤقت التلويح بما لديه من طاقة تدميرية قادرة على إعادة لبنان إلى العصر الحجري كما يتبجح بعض الجنرالات الصهاينة، لكن أولئك أنفسهم ابتلعوا ألسنتهم بعد خطاب سماحة السيد لأنهم على يقين بدقة ما قاله، وأن كيانهم سيعود إلى العصر الحجري حتماً في حال قيامه بحرب ضد لبنان ومقاومته، ويبقى السؤال المفتوح والمشروع: وماذا لو لم تكن الحرب ضد حزب الله فقط؟ أي مصير ينتظر ذاك الكيان المؤقت لو انضمت إلى أية حرب قادمة بقية أطراف المقاومة، بمن فيها الداخل الفلسطيني في مثل هذه المرحلة التي يعيش فيها حكام تل أبيب انقسامات وتشظية كفيلة بانهيار الكيان من الداخل من دون أية أعمال قتالية؟.
قد يتساءل بعض القراء والمتابعين المهتمين: طالما أن لدى محور المقاومة كل هذه الإمكانيات، فلماذا لا يبادر إلى شن الحرب على العدو المغتصب للأرض والحقوق، ويقطع دابر الشر دفعة واحدة وإلى الأبد؟ يبدو أن الأمريكيين كانوا سباقين في تقديم الجواب المقنع والموضوعي، حيث يرى الدبلوماسي الأميركي السابق المعروف Chas Freeman أنّ “إسرائيل” تواجه تحديّات كبيرة، في المرحلة الراهنة، ولفت إلى أنّ كيان الاحتلال الإسرائيلي يخاطر في أن “ينتهي بمأساة”، وسيكون ضحية الغطرسة وتجاهل التحذيرات، وسيأتي زوال “إسرائيل” – فيما لو حصل- ليس على يد المقاومة الفلسطينيّة أو بسبب عداء جيرانها العرب؛ بل إنه سيكون على أيديها هي، مع مساعدة أصدقائها الأميركيين، ولعل هكذا سيناريو غير مخفي عن أقطاب محور المقاومة استناداً إلى الوضع المأزوم الذي يعيشه الكيان، ورؤية العدو يدمر نفسه قد تكون أكثر متعة من تحمل تكلفة القضاء عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. حسن أحمد حسن