ربما باتت حالة الدولار الأميركي أهم مؤشر حيوي لصحة النظام الدولي القديم؛ نظام الأحادية القطبية الأميركية، اقتصادياً وسياسياً. وبناءً عليه، فإن السطور التالية تشبه “فحص دمٍ” لحالة الدولار لا بد من إجرائه دورياً، وسبق أن أجريناه من قبلُ، فهل من جديد؟
تتراقص المؤشرات الإحصائية حول الدولار الأميركي كألسنة لهبٍ تعلو وتخبو خطوطها البيانية على جدران السياسة والاقتصاد الدوليين كأنها غيرُ مدركةٍ أن مصير العالم يتأرجح على حبالٍ مشدودةٍ بين ذراها وقيعانها.
على سبيل المثال، حدّث صندوق النقد الدولي، في موقعه في الإنترنت، بياناته بشأن مكونات احتياطيات العملات الصعبة لدى المصارف المركزية في العالم في 30/6/2023، فأظهرت تلك التحديثات أن حصة الدولار الأميركي من احتياطيات المصارف المركزية من العملة الصعبة ارتفعت من 58.58% في الربع الأخير من عام 2022 إلى 59.02% في الربع الأول من عام 2023، في حين انخفضت حصة اليوان الصيني من احتياطيات العملة الصعبة لدى المصارف المركزية دولياً بصورةٍ طفيفةٍ من 2.61% إلى 2.58%، وانخفضت حصة اليورو من 20.37% إلى 19.77% خلال الفترة ذاتها.
كذلك، انخفضت في الفترة ذاتها حصة ثالث ورابع أهم عملتين دولياً، الين الياباني والجنيه الإسترليني، بصورةٍ طفيفةٍ من 5.5% إلى 5.47% بالنسبة إلى الين، ومن 4.9% إلى 4.85% بالنسبة إلى الإسترليني، في حين ارتفعت حصة كلٍ من الدولار الكندي والدولار الأسترالي والفرنك السويسري بصورةٍ طفيفةٍ جداً أيضاً.
لا بد من التأكيد مجدداً هنا على أمرين متلازمين:
أ – أن الخطاب التعبوي الذي يبشر بـ”سقوط أميركا” الوشيك لا أساس له علمياً بناءً على تحليل البيانات، وأننا ما برحنا نعيش مرحلة هيمنة الدولار، ولكن إلى متى؟
ب – أن البيانات المقطعية أعلاه التي تقارن حصص العملات المختلفة من العملة الصعبة دولياً عند نقطة زمنية محددة أو بين نقطتين زمنيتين متقاربتين أقل أهميةً بكثير من بيانات السلسلة الزمنية التي تقارن حصة الدولار وغيره من العملات الرئيسية من احتياطيات العملة الصعبة لدى المصارف المركزية على مدى سنوات، لا بين فصلين متتابعين فحسب.
نلاحظ على هذا الصعيد أن حصة الدولار الأميركي من احتياطيات المصارف المركزية دولياً من العملة الصعبة كانت 65.36% في الربع الرابع من عام 2016، أي قبل 7 أعوام ونيف، وأنها كانت 71% من احتياطيات العملة الصعبة دولياً عام 2000، وأنها باتت أقل من 60% اليوم، وهو انخفاضٌ تدريجيٌ، ولكنْ ملموس.
هذا يعني أن الاتجاه التاريخي يكرس “نزع الدولرة”، لكنّه اتجاهٌ يشهد تذبذباً على المدى القصير، كما تعتمل فيه قوى شد عكسي لا يمكن الاستهانة بها، تتمثل في عوامل قوة الدولار على المدى الطويل، سنعود إليها بعد قليل.
يكرس ذلك الاتجاه التاريخي أيضاً زيادة حصص عملات رئيسية أخرى، مثل الين الياباني والجنيه الإسترليني والدولار الكندي والأسترالي والفرنك السويسري، كإحدى استراتيجيات تنويع المحفظة الاستثمارية للمصارف المركزية بعيداً من الدولار الأميركي، وبعيداً من اليورو أيضاً، الذي حافظ على نسبة شبه ثابتة من احتياطيات العملة الصعبة للمصارف المركزية في العالم تراوحت حول 20%.
لكنّ الاتجاه التاريخي يكرس أيضاً دخول اليوان الصيني على الخط كأصل مالي ذي نوعية مختلفة جوهرياً عن العملات الصعبة الرئيسية، فهو صادر عن جهةٍ ذات مشروع مستقل لا تخضع لهيمنة الغرب الجماعي، ويؤدي القطاع العام دوراً رئيسياً في اقتصادها، ويحكمها حزب شيوعي، وتنبثق استراتيجياتها دولياً من مشروع قومي صيني أصبحت ملامحه أكثر وضوحاً، وخصوصاً منذ تسلم الرئيس شي جين بينغ السلطة عام 2013.
اخترت الربع الرابع من عام 2016 أعلاه لأنه الربع الذي تظهر فيه إحصاءاتُ صندوقِ النقدِ الدوليِ اليوانَ الصينيَ مكوناً رئيسياً في احتياطيات العملة الصعبة للمصارف المركزية دولياً للمرة الأولى، إذ بلغت نسبته آنذاك، أي قبل 7 سنوات ونيف، 1.08%، وأصبحت في نهاية الربع الأول للعام الجاري 2.58%.
ربما تبدو نسبة اليوان من مجموع العملات الصعبة ضئيلةً من منظور البيانات المقطعية، أي إذا قارناها الآن بحصة الدولار أو اليورو من احتياطيات العملة الصعبة دولياً، لكنها تعني، من منظور السلسلة الزمنية للبيانات، أن معدل نمو اليوان الصيني كاحتياطي عملة صعبة (خارج الصين) خلال 7 سنوات بلغ 138.88%، وهو معدل نمو أسطوري بمعايير علم المالية الدولية لم نشهد مثله إلا في فترات التحول الكبرى تاريخياً، من الدولار الإسباني إلى الجنيه الإسترليني، أو من الجنيه إلى الدولار الأميركي.
يذكر مثلاً أن الجنيه الإسترليني شكّل أكثر من 50% من احتياطيات العملة الصعبة دولياً حتى بعد بريتون وودز وانتهاء الحرب العالمية الثانية، في حين كان الدولار الأميركي يتقدم بصورةٍ حثيثةٍ للحلول محله بعد تغير موازين القوى دولياً، وبين بريطانيا والولايات المتحدة، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.
لكنّ الحديث عن “اتجاه تاريخي” يُظهِر أفولاً تدريجياً للدولار الأميركي، مع الحفاظ على هيمنته المطلقة حتى الآن، كما يُظهِر العدو السريع للفرس الصيني الأسود عبر الصفوف في ميدان خيول العملات. نقول إن ذلك لا يجوز أن يدفعنا إلى الركون إلى كسل اعتناق أي “حتمية تاريخية” حول صعود الشرق وأفول الغرب، إذ إن الدول لا تلعب، والصراع يحتدم، وهي معركة كسر عظم تحكمها عوامل عدة ما برح ثقل بعضها يعزز الهيمنة الأميركية، والنتيجة ليست تحصيلاً حاصلاً.
لمحة عن عوامل قوة الدولار
تتمثل بعض أهم عوامل قوة الدولار الأميركي بما يلي:
أ – حجم الاقتصاد الأميركي وجاذبيته كأكبر سوق مستوردات دولياً، الأمر الذي يعني تلقي دولارات أميركية في مقابل التصدير إليه، وتحول تلك الدولارات إلى عملية صعبة عالمياً.
ب – الذراع العسكرية والأمنية للإدارة الأميركية التي تتيح لها التدخل بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة لإطاحة الدول والحركات المستقلة أو محاصرتها أو استنزافها (كما يحدث في جينجيانغ أو التيبت أو تايوان أو بحر الصين الجنوبي).
ج – البنية اللوجستية والقانونية للمنظومة المالية الدولية التي تسيطر عليها نخب الغرب الجماعي، من اتفاقية بريتون وودز التي أنتجت البنك وصندوق النقد الدوليين، والتي ربطت الاقتصاد الدولي بالدولار، إلى منظومة “سويفت” لتحويل الأموال عبر الحدود.
د – تسعير السلع الأساسية دولياً، مثل النفط والغاز والقمح… بالدولار الأميركي.
هـ – تسعير الأسهم والسندات دولياً بصورةٍ متزايدةٍ بالدولار، خصوصاً بعد تغلغل العولمة المالية في ثنايا الكرة الأرضية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية.
و – عمق الأسواق المالية الأميركية، وشفافية إدارة الشركات المساهمة الأميركية، وحرية تملك الأجانب للأصول (مع قيود تفرض دورياً بحسب أجندة الغرب السياسية والأمنية، على الصينيين مؤخراً مثلاً)، الأمر الذي يجتذب رؤوس أموال ضخمةً إلى الولايات المتحدة لا بد من تحويلها أولاً إلى دولار.
ز – سوق السندات وأذونات الخزينة الأميركية، أي الدين العام للولايات المتحدة الأميركية، البالغ 32.61 ترليون دولار في تموز/يوليو 2023، والذي يملك غير الأميركيين 7.6 ترليون دولار منه، وهو ما يمثل بدوره طلباً أجنبياً على الدولار.
ح – إدارة الاحتياطي الفيدرالي للسياسة النقدية الأميركية من منظور مصلحة “وول ستريت”، أي رأس المال المالي، ومصلحة الهيمنة الأميركية، لا من منظور المصلحة القومية للاقتصاد الأميركي، أي إدارة السياسة النقدية بما يخدم هيمنة الدولار دولياً، الأمر الذي يزيد من جاذبيته. وللمزيد بشأن هذه النقطة، يمكن مراجعة “استقلالية المصرف المركزي والدولار الأميركي” في الميادين نت في 12/5/2023.
ميزان القوى بين الولايات المتحدة والصين اقتصادياً
لكنّ العوامل المذكورة آنفاً لم يعد معظمها بالدرجة ذاتها من التماسك والتأثير كما كانت قبل عقدين أو ثلاثة، فالاقتصاد الصيني، على سبيل المثال، بات منذ سنوات أكبر حجماً من الاقتصاد الأميركي بمقياس معادل القوة الشرائية، أي أن قيمة ما تنتجه الصين من سلعٍ وخدماتٍ في عامٍ واحد باليوان أقل من قيمة السلع والخدمات الصينية ذاتها بالدولار الأميركي. يمكن القول، بالمعنى ذاته، إن الاقتصاد الصيني اسمياً أقل منه فعلياً، أو إن الاقتصاد الأميركي اسمياً أكبر منه فعلياً.
إن الفرق هنا هو بالضبط القوة الشرائية للدولار خارج الولايات المتحدة في مقابل القوة الشرائية لليوان خارج الصين، أي أن الفرق يساوي هيمنة الدولار دولياً؛ فإذا انكشف الدولار، وظهرت الأحجام الحقيقية، سنجد دول البريكس بصورة عامة تتقدم الصفوف، لا الصين وحدها، كأكبر اقتصادات العالم، كما أظهرت مثلاً في “لوحة أحجام اقتصادات الدول: حصاد 2022″، في الميادين نت في 17/1/2023.
على الرغم من ذلك، تعد الصين منذ الآن ثاني أكبر سوق استيراد في العالم بعد الولايات المتحدة، وهذا عنصر قوة، بما أنها راحت تدفع باتجاه دفع فواتير مستورداتها باليوان الذي بات يؤدي دوراً متزايداً في تجارتها الخارجية، إذ سبق اليوان الدولار في تعاملات الصين الخارجية منذ آذار/مارس الفائت، بحسب تقرير لرويترز في 26/4/2023.
ثغرات متزايدة في عناصر قوة الدولار الأميركي
تتلخص قوة الدولار الأميركي في أبسط خلاصة ممكنة بقوة الطلب دولياً عليه مقارنةً بالمعروض منه. أدى ذلك مثلاً إلى ارتفاع قيمة الدولار إزاء العملات الرئيسية الأخرى، حتى عندما ضخ الاحتياطي الفيدرالي 6 تريليونات منه بين شباط/فبراير 2020 وشباط/فبراير 2021، لمواجهة العقبات الاقتصادية لأزمة كوفيد-19.
أدى الدولار الأميركي آنذاك دور “الملجأ الآمن”، منافساً الذهب، استناداً إلى “الثقة” به، مصرفاً مركزياً، واقتصاداً، ودولةَ شريحةٍ اجتماعيةٍ تدير منظومة هيمنة دولية، فهل تبقى تلك الثقة قائمة بالدرجة ذاتها كلما تفلتت دولٌ وأقاليمُ برمتها من تلك الهيمنة؟
لكن قوة الدولار الأميركي ما برحت تستند إلى قواعد متينة. انظر مثلاً إلى كمية العملات الأجنبية التي يجري تدويرها يومياً في الأسواق الدولية. نتحدث هنا عما يزيد على 7.5 ترليون دولار كل 24 ساعة يجري تبديلها في أسواق صرف العملات الأجنبية، إما لأغراض التجارة وإما الاستثمار وإما المضاربة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولار الأميركي هو أحد طرفي عملية التحويل في 88.3% من الحالات.
وبحسب بنك التسويات الدولية بداية 2021، فإن نحو 60% من الإيداعات والقروض الدولية (خارج الولايات المتحدة الأميركية) عام 2020 جرت بالدولار الأميركي. وفي العقدين الواقعين بين 1999 و2019، بحسب تقرير منشور في موقع الاحتياطي الفيدرالي في 6/10/2021، فإن الدولار الأميركي استخدم في فوترة 96% من التجارة الخارجية في القارة الأميركية برمتها، وفي 74% من فواتير التجارة الخارجية لمنطقة آسيا-المحيط الهادئ، وفي 25% من فواتير التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وفي 79% من التجارة الخارجية لبقية العالم.
لكن ذلك كان قبل الأزمة الأوكرانية، والنسب أعلاه في طور التراجع مع تعزيز العلاقات اقتصادياً فيما بين دول البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون والتوجه نحو توسيع صفوفهما، ومع تزايد التشبيك بين الدول الواقعة تحت ربقة العقوبات.
ونلاحظ، بحسب إحصاءات منظومة “سويفت”، أن نسبة التحويلات بالدولار الأميركي عبر المنظومة انخفضت بصورةٍ ملحوظةٍ من نحو 60% في نيسان/أبريل الفائت إلى نحو 42.4% في حزيران/يونيو الفائت، في حين شهد التحويل باليورو زيادةً ملحوظة، وهي نسب انخفاض ليست غير مسبوقة، لكنها ذات دلالة في الأشهر الأخيرة بالذات.
نلاحظ أيضاً أن شراء غير الأميركيين، من مصارفَ مركزية ومؤسساتٍ حكومية وقطاع خاص، للسندات الحكومية وأذونات الخزينة الأميركية يشهد انخفاضاً بالنسب المئوية. ففي عام 2014، بلغت ملكية الأجانب للدين العام الأميركي نحو 33% من المجموع، وانخفضت إلى 23% من الدين العام عام 2023، أي أن الإقبال دولياً على أدوات الدين العام الأميركية شهد انخفاضاً ملحوظاً خلال 7 سنوات، بحسب موقع وزارة الخزانة الأميركية في 7/8/2023.
ما سر هبوط الدولار الأميركي نسبياً في الأشهر الفائتة؟
يذكر أن سعر صرف الدولار مقابل سلة من العملات الرئيسية شهد اتجاهاً عاماً إلى التصاعد منذ القعر الذي بلغه في حزيران/يونيو 2011، حتى بلغ ذروة عليا في تشرين الأول/أكتوبر 2022 لم يبلغها منذ عام 2002.
بلغ المؤشر القياسي لقيمة الدولار 135 في خريف 2022 إذاً، ثم انخفض أكثر من 28% مقابل تلك السلة مع آب/أغسطس الجاري، إذ بلغ الرقم القياسي 106.6، على الرغم من سلسلة إجراءات رفع معدل الفائدة الأساسي من طرف الاحتياطي الفيدرالي بذريعة مكافحة التضخم.
من السابق لأوانه إعلان نهاية الدولار طبعاً، ولا سيما أن قوته الشرائية أعلى مما كانت عليه قبل 10 سنوات مثلاً، لكنْ يشير محللون أميركيون إلى أن العجز السنوي للحكومة الأميركية، وتصاعد الدين العام الأميركي، مع مشروع التخفيضات الضريبية للأغنياء في الكونغرس، بدأ ينال أخيراً من قوة الدولار الأميركي.
إذا صدق هذا التحليل، فإن ذلك يعني أن الدولار الأميركي ربما يكون بصدد ولوج النفق المظلم الذي تعيشه عملة أي دولة تعاني تصاعداً في عجزها السنوي ودينها العام، خصوصاً أن رفع معدلات الفائدة الأميركية يزيد من عبء خدمة الدين العام ومن العجز السنوي للإدارة الأميركية.
يذكر أن الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأميركية دفعت 476 مليار دولار كفوائد على الدين العام في 2022، وهي زيادة بمقدار 35% عن صافي فوائد الديون التي دفعتها الحكومة الفيدرالية عام 2021، والتي بلغت 352 مليار دولار. وهناك مصدرٌ آخر يضع مدفوعات الفوائد على ديون الحكومة الفيدرالية عند 724 مليار دولار، منها 227 مليار دولار لوكالات حكومية أخرى.
وبلغ الدين الحكومي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 122.8% في حزيران/يونيو 2023. وللمزيد عن هذا الموضوع، يمكن مراجعة مادة “هل تشهر الحكومة الأميركية إفلاسها؟” في الميادين نت في 29/3/2023.
كيف ستحاول الإدارة الأميركية الخروج من استحقاق أزمتها التي طالما صدرتها ديناً عاماً برسم المستقبل؟ الجواب ليس واضحاً حتى الآن، لكن من البديهي أنها ليست مهيأة بعد لرفع الراية البيضاء والقبول بعالمٍ متعدد الأقطاب، فاستعدوا.