لا تزال تواجه روسيا عدداً من التحديات في ضمان احتفاظها بالسيطرة على الدونباس والجنوب، أبرزها الحاجة إلى الدفاع عن مساحة هائلة من الأراضي، والحاجة إلى بناء التحصينات بصورة متغيرة وملائمة لما ستفرضه المعارك الجديدة. ووضع تأكيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة، أنّ “الهجوم الأوكراني بدأ”، حداً للجدل الدائر منذ أشهر بشأن موعد انطلاق الهجوم المضاد الذي تعدّه كييف بدعم ضخم من الدول الغربية والناتو، وتعوّل عليه لقلب المشهد في أوكرانيا لمصلحتها.
وتصاعدت وتيرة الحديث عن اقتراب موعد الهجوم الأوكراني بصورة خاصة خلال الأسابيع الأخيرة، بعد سلسلة ضربات استراتيجية وجهتها موسكو إلى القوات الأوكرانية تخللها قصف لمراكز صنع القرار في كييف، واستهدافات دقيقة لمخازن أسلحة في مناطق متعددة في أوكرانيا، حاولت الأخيرة الرد عليها بالمسيّرات واقتحام الحدود الروسية.
وأوضح بوتين، في خطابه أمس، أنّ الدليل الحاسم على بدء الهجوم الأوكراني بالفعل، بالنسبة إلى روسيا، يتجلى من خلال “استخدام الاحتياطيات الاستراتيجية من جانب كييف”. ويبدو أنّ الرئيس الروسي أراد الإشارة إلى استخدام أوكرانيا المخزونات الاستراتيجية من الذخيرة والأسلحة والمحروقات اللازمة لتشغيل الآليات والمدرعات والدبابات، الأمر الذي يُعَدّ، وفق التحليل العسكري، علامة على أنّ عملية كبرى تجري حالياً، وتستحق استنفاد المخازن الاستراتيجية لأجلها.
لكنّ الواضح، من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام، سواءٌ المؤيدة لروسيا أو المعادية لها، أنّ الهجمات الأوكرانية الأولى باءت بالفشل، ولم تنجح في تحقيق أي خرق في خطوط الدفاع الروسية. وفي المقابل، تكبّدت كييف خسائر فادحة في العديد والعتاد.
محاور الهجوم الأوكراني
من خلال المصادر المتابعة لوضع الجبهة في أوكرانيا، يبدو أنّ العمليات القتالية الأوكرانية تتركز حتى الآن على 7 محاور أساسية، على طول خط القتال في دونباس، وإن تفاوتت في الأهمية والزخم فيما بينها. فمن الشمال، تنشط القوات الأوكرانية في شرقي كوبيانسك، شمالي سفاتوفا. وفي محيط مدينة باخموت، التي سيطرت عليها القوات الروسية، تستمرّ القوات الأوكرانية في محاولات اختراق الدفاعات حديثة العهد في اتجاه كراسناهورا شمالي باخموت، وفي اتجاه كليشيفكا جنوباً من جهة تشاسوف يار، حيث تتمركز القوات المنسحبة من باخموت بصورة أساسية مع تعزيزاتها العسكرية.
وتشهد كذلك منطقة نوفوردشكا، شمالي ماكييفكا، عمليات نشطة للقوات الأوكرانية، كما تقوم القوات الأوكرانية بمحاولات اختراق في مناطق جنوبي أدفييفكا. وفي نوفودونيتسكه وأوكتياب وليفاده، تقوم القوات الأوكرانية بعمليات قتالية على طول خط جبهة يمتد نحو 15 كم، وكانت القوات الروسية حققت اختراقات في الفترة السابقة في اتجاه شرقي منطقة زاباروجيا.
ويبقى المحور الأكثر اشتعالاً اليوم، والذي يشير إلى وجود نية جدية لدى كييف في تحقيق اختراق في الخطوط الدفاعية الروسية جنوباً، في جنوبي أوريخوف، حيث شهدت منطقة ممتدة على طول نحو 12 كم محاولات حثيثة خلال الأسبوع الفائت لاقتحامها، عبر أرتال من عشرات الدبابات الثقيلة والخفيفة والمدرعات وناقلات الجند.
وتضاف إلى هذه المناطق، الحدود الروسية الأوكرانية شمالاً مع مقاطعة بلغورود، حيث نشطت القوات الأوكرانية مؤخراً في عمليات اقتحام “شبه انتحارية” للمناطق الحدودية، عبر مجموعات قتالية محدودة العدد، استخدم بعضها المدرعات وناقلات الجند والآليات الخفيفة، ويبدو أنها هدفت إلى إشغال القوات الروسية والضغط على القيادة السياسية عبر عمليات تخريبية، أكثر من كونها عمليات عسكرية متكاملة.
حجم القوات الروسية والأوكرانية
بحسب موقع “غلوبال فايرباور” المتخصص في تتبع حجم القوة العسكرية لدول العالم، يقدّر حجم الجيش الروسي الذي يعمل في أوكرانيا حالياً بنحو 70 لواءً، ويصل عدد الجنود الروس الذين يعملون ضمن نطاق العملية العسكرية إلى نحو 200 ألف جندي روسي. وتحرّكت روسيا من أجل زيادة حجم قواتها المسلحة منذ بداية الحرب الأوكرانية، ولا سيما من خلال “التعبئة الجزئية” لـ 300 ألف جندي روسي في أيلول/سبتمبر 2022.
ووفقاً لتقرير التوازن العسكري السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لعام 2023، فإن التعبئة تعني أن أعداد الأفراد “زادت مقارنة بأرقام الأعوام السابقة”، إذ يعتقد أنّ عدد القوات الروسية اليوم يفوق عددها قبل بدء العملية العسكرية بنحو 100 ألف جندي. وإن كانت الخسائر الروسية في المعارك خلال عام وربع عام من القتال أفقدت الجيش عناصر أكثر خبرة وتمرساً، لكنّ الحرب الدائرة قدّمت خبرة قتالية هائلة إلى عشرات آلاف الجنود الروس، لم يكونوا يملكونها.
أمّا بالنسبة إلى أوكرانيا، فأعلنت الدول الغربية أنها ستقوم بتدريب نحو 9 ألوية أوكرانية متكاملة، الأمر الذي يعني عدداً يتراوح بين 15 ألفاً و20 ألف جندي، تضم عدة مئات من الدبابات الثقيلة، منها السوفياتية ومنها الغربية، بما فيها ليوبارد وتشالنجر وغيرهما، ومثلها الدبابات والمدرعات القتالية الخفيفة، مثل برادلي و آي أم أكس بي أم بي، وآليات متعددة.
بطبيعة الحال، تشكّل هذه القوى، التي تلقّت تدريبات من جانب خبراء الناتو، كتلة قتالية خطيرة يمكن أن تقوم بهجوم واسع النطاق ضد القوات الروسية. وهو ما أشار إليه بوتين في خطابه أمس، حين قال إنّ “القدرة الهجومية لقوات نظام كييف لا تزال قائمة”. لكن، بالنسبة إلى أوكرانيا اليوم، تتطلب مناورة الحرب بنية قيادة مرنة، مع جنود يمتلكون خبرة قتالية عالية واندفاعاً كبيراً، وقادرين على المبادرة في المواقف القتالية الصعبة. أما مسألة الخطط الصارمة والقيادة الهرمية التقليدية، فهي آخر ما يمكن أن يكون مفيداً للهجوم الأوكراني.
لكن عقيدة “بليتزكريغ”، أو الحرب الخاطفة، والتي استخدمتها أوكرانيا في خاركوف وخيرسون ومناطق أخرى في الصيف الماضي، ونجحت عبرها في استعادة أراضٍ واسعة من القوات الروسية، التي لم تكن قادرة على الدفاع عن هذه المناطق من دون تقديم خسائر فادحة، لم تعد فعالة اليوم.
ففي الهجوم المضادّ، الذي شنته كييف الصيف الفائت، كان المطلوب المستوى الأدنى من التحكم في مقابل السرعة والحسم من أجل استغلال الاختراقات الآنية للخطوط الروسية، والمحافظة على الزخم المطلوب لتجنب تجهيز روسيا لقواتها وشنّ هجوم مضاد.
خطوط الدفاع الروسية
أمّا اليوم، فتمكّن الروس من أخذ العِبَر من التجارب السابقة، ونجحت القوات الروسية في بناء خط دفاعي متعدد الطبقات، في المناطق الأكثر عرضة للاستهداف والأكثر أهمية بالنسبة إلى كييف. كان واضحاً، سواءٌ من خلال التصريحات السياسية لكييف، أو من خلال الدراسة والتحليل، أنّ اختراقاً أوكرانياً كبيراً في زاباروجيا يمكن أن يقطع الجسر البري الروسي الذي يربط منطقة روستوف الروسية بشبه جزيرة القرم، ويحقّق نصراً معنوياً ومادياً كبيراً في مقابل موسكو.
وحتى الاختراق في منطقة لوغانسك، الأقل كثافة على مستوى التحصينات الدفاعية، يمكن أن يوفر فوائد كبيرة لكييف، من خلال إشغال القوات الروسية وإزالة وحدات قتالية روسية من ساحات أخرى، لكنّ المؤكد هو أنّ نجاح أي هجوم أوكراني من عدمه يتوقّف على قدرة كييف على استعادة الأراضي من موسكو.
بطبيعة الحال، شكّل هذا الأمر مصدر ارتياح بالنسبة إلى القيادة العسكرية الروسية، التي رأت في حاجة كييف الماسة إلى السيطرة على أراضي دونباس والقرم وشاطئ البحر الأسود نقطة ضعف يجب استغلالها، فقامت ببناء دفاع متعدد الطبقات، ونقلت اللعبة مع كييف نحو حرب استنزاف ورهان على الوقت، الذي تسير رياحه بعكس ما تشتهي سفن كييف.
بدلاً من الرهان على القدرات الهجومية الروسية، التي تتطلب جهوداً هائلة وتكاليف باهظة، على مستويات التدريب والتجهيز والقوى البشرية، تحوّل الرهان الروسي نحو القدرة الدفاعية المتكاملة، القادرة على الدفاع عن الأراضي المكتسبة، واستنزاف الأوكرانيين في حرب بلا أفق، قد تنقلب في أيّ لحظة إلى عملية هجومية مفاجئة، عندما تتكامل العناصر مع الفرص.
وتمتدّ اليوم الخطوط الدفاعية الروسية، وبصورة خاصة في منطقة الجنوب، في خطوط أفقية متصلة، تمتد من شواطئ الدنيبر على مسافة نحو 10 كم شمالي فاسيليفكا، عرضياً في اتجاه الشرق. وبحسب تقديرات لمواقع روسية، نقلت عن مصادر ميدانية، فإنّ عدد الخطوط الدفاعية جنوباً يصل إلى 3 طبقات، فضلاً عن طوق كامل حول المدن والتجمّعات العمرانية الرئيسة، وتحصينات خلفية عند كلّ خط دفاعي للإمداد والدعم، مع وجود تغطية مدفعية متقدمة تعطي الخط الدفاعي الأول سيطرة بالنار على مناطق واسعة عبر السهول الأوكرانية.
الوضع الحالي
شكّلت التغطية النارية الروسية المتقدمة، التي دمجت بين الاستطلاع الميداني والاستطلاع الجوي، والقصف المدفعي الكثيف والدقيق، والغارات الجوية، والمسيرات الانتحارية المضادة للدروع، والأسلحة الموجّهة المباشرة والصواريخ المضادة للدروع، والتي ظهرت مؤخراً، فارقاً نوعياً في القدرة القتالية الروسية بالمقارنة مع الفترة السابقة.
وأظهرت الصور ومشاهد الفيديو الجوية والأرضية، والتي انتشرت عقب الهجمات الأوكرانية الأخيرة، خسائر أوكرانية فادحة، شكّلت ضربة معنوية للجنود الأوكرانيين ورافعاً كبيراً لمعنويات الجيش الروسي في مقابل البروباغندا الغربية المستمرة في ترويج الهجوم الأوكراني الكبير.
وإضافة إلى الضربة المعنوية، عبر انتشار صور دبابات ليوبارد 2، درة تاج الصناعات العسكرية الأوروبية، وهي تدمّر بواسطة طائرة مسيرة خفيفة لا تزيد شحنة رأسها المتفجّر على 5 كغم، فإنّ مشاهد أرتال الدبابات والمدرعات المدمرة، والتي تضم إلى جانب ليوبارد 2 مدرعات برادلي وبي أم بي و آي أم أكس، أكّدت أنّ “مجزرة الدبابات” حدثت في منطقة السيطرة النارية الروسية، ولم تتمكن هذه الأرتال من الاقتراب بصورة كافية من الخط الدفاعي الروسي الأول.
وشكّلت الضربات النوعية التي تقوم بها موسكو عبر القنابل الانزلاقية الموجّهة “فاب”، زنة طن ونصف الطن، والتي يصل بعضها إلى 2 طن، ويمكن أن ترميها الطائرات من مسافات بعيدة تصل إلى 70 كم متفادية مخاطر أنظمة الدفاع الجوي الأوكراني، نقلة نوعية في فعالية القدرة الجوية الروسية.
ويمكن إحصاء استهداف روسيا عشرات المراكز الحساسة والمخازن الاستراتيجية ومراكز القرار ونقاط التجمع والتوزيع خلال الشهر الفائت فقط، معظمها بواسطة هذه القنابل الموجّهة، لعل أبرزها كان الضربة عند الحدود مع مولدافيا، والضربات في محيط كييف، الأمر الذي جعل الأخيرة في وضع صعب من ناحية انتظار استكمال التجهيزات للهجوم المضاد بينما تتلقى ضربات روسية موجعة.
تحديات أمام روسيا
لكن روسيا لا تزال تواجه عدداً من التحديات في ضمان احتفاظها بالسيطرة على الدونباس والجنوب، أبرزها الحاجة إلى الدفاع عن مساحة هائلة من الأراضي، والحاجة إلى بناء التحصينات بصورة متغيرة وملائمة لما ستفرضه المعارك الجديدة.
كما ستؤدي المساعدات الغربية – بما في ذلك أنظمة الأسلحة والتكنولوجيا والتدريب والاستخبارات والدعم المالي – دوراً حساساً ومهماً في مساعدة أوكرانيا، على غرار ما حدث سابقاً، لكن ستعتمد نجاعتها على قدرتها على مواجهة التكنولوجيا الروسية والتكتيكات التي تطورت خلال الأشهر الماضية.
وسيعتمد المسار المستقبلي للحرب أيضاً على ما إذا كان في إمكان أوكرانيا استغلال هذه المساعدات، عبر دمج التكنولوجيا بفعالية في ساحة المعركة مع استراتيجيات عملانية وإدارة منسقة للجهود الهجومية. ويمكن القول إنّ حجم الهجمات الأوكرانية اليوم يمكن اعتبارها، كما أكّد عدد من المحللين، وبعضهم روس، أنّها بمثابة “استطلاع متقدّم” للقدرات الدفاعية الروسية.
كما أنّ اللواء الأوكراني، الذي شارك في الهجمات خلال الأسبوع الأخير، وخسر نحو كتيبتين ميكانيكيتين، في أقل تقدير، يمكن أن يتمّ تدعيمه وأن يعيد الهجوم بقدرة أكبر، وفي محاور أوسع، الأمر الذي يعني أنّ التصدي الروسي الفعال حتى الساعة تنتظره تحديات غير بسيطة في المرحلة المقبلة، ولا سيما مع حاجة كييف الماسة إلى إظهار جدوى المساعدات العسكرية المكلفة أمام الغرب، حكومات وساسة وجمهوراً.