السودان بين الوساطات والأفق المسدود

155
السودان بين الوساطات والأفق المسدود

الخلاف بين أبناء البيت الواحد عادة ما يكون أكبر تكلفة وأسوأ نتيجة من الخلاف مع أعداء خارجيين، فما زال الاقتتال في السودان دائراً بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع بشكل كبير، ووصول السودان إلى نقطة اللاعودة والتي لها بالغ الأثر على المستقبل الذي صار بالنسبة لأبناء السودان قاتماً ضبابي الأفق.

نشوب النزاع

انفجر الخلاف بين الطرفين الرئيسين في الصراع على السلطة وهما الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الحاكم في السودان منذ عام 2019، والفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، نائبه في المجلس وقائد قوات الدعم السريع بسبب خطة مدعومة دوليا لبدء عملية الانتقال لمرحلة سياسية جديدة مع الأطراف المدنية.

وتنص بنود الخطة على أنه يتعين على كل من الجيش و”قوات الدعم السريع” التخلي عن السلطة، لكن أثير الخلاف على مسألتين، الأولى هي الجدول الزمني لدمج “قوات الدعم السريع” في القوات المسلحة النظامية، والثانية هي توقيت وضع الجيش رسميا تحت إشراف مدني.

واندلع الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ 15 نيسان/أبريل، لسبب مباشر هو الاختلاف حول الاتفاق الإطاري للعملية السياسية، وأهم النقاط هي تبعية قوات الدعم السريع، إذ إن الاتفاق الإطاري ينص على تبعيتها لرئيس الوزراء المدني، وأن يتم دمجها في الجيش خلال 10 سنوات.

لكن الجيش اعترض على هذه الفقرة؛ لأنها تعني وجود جيشين بقيادتين مختلفتين. الجيش القومي، ويتبع القائد العام وهو عسكري، أما الجيش الآخر فهو قوات الدعم السريع، ويتبع رئيس الوزراء المدني، إضافة إلى أن الجيش يطالب بأن يكون الدمج خلال سنتين وبتبعية قوات الدعم السريع إلى القائد العام منذ اليوم الأول من توقيع الاتفاق الإطاري.

وتتميز قوات الدعم السريع بالخفة وسرعة الحركة وبعد المعركة عن ثقلها القبلي، وخبرتها في حرب العصابات، لكن ينظر إليها على أنها ميليشيا انتهت مشروعيتها بانتهاء أسباب تكوينها أيام الحرب.

أما قوات الشعب المسلحة «جيش السودان» فتمتاز بالسند الشعبي الكامل الذي يقويها ويدعمها، كما أنها تتميز بطبيعتها كقوة راسخة في عقيدتها ومبادئها وأخلاقها ومشروعيتها، وفي نظمها الفنية من طرق انتشار وإمداد.. إضافة إلى أن الجيش السوداني يمتلك بنية تحتية فائقة ومصانع متكاملة وشاملة تنتج كل ما يحتاجه، ويتميز بخبرته الطويلة الممتدة وبامتلاكه سلاح الجو كقوة ضاربة وسلاح المدرعات والقاصفات والراجمات.

وأودى النزاع بأكثر من 2800 شخص ودفع أكثر من 2,8 مليون شخص للنزوح، لجأ أكثر من 600 ألف منهم إلى دول مجاورة أبرزها مصر وتشاد، وفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة. ويعاني من بقي من السكان الذي كان عددهم الإجمالي يقدّر بـ 45 مليون نسمة قبل بدء المعارك، من نقص المواد الغذائية والخدمات ومصادر الطاقة، بينما تتوالى التقارير عن حالات نهب وعنف جنسي واحتدام الصراعات العرقية وخصوصا في إقليم دارفور.

الوساطات بين المتحاربين

لم تفلح حتى الآن مبادرات عدة للوساطة، في إيجاد أرضية لأي تفاهمات قد تثمر حلّا. وقد أبرم طرفا القتال منذ بدء المعارك، اتفاقات عدة لوقف إطلاق النار بوساطة سعودية-أميركية، لم يكن لها أي مفاعيل على الأرض مع تبادلهما الاتهام بخرقها.

ولم تتخذ القوى الغربية، ومنها الولايات المتحدة، موقفا واضحا من المرحلة الانتقالية نحو إجراء انتخابات ديمقراطية بعد الإطاحة بالبشير، وعلقت هذه القوى الدعم المالي للسودان بعد الانقلاب، ثم دعمت خطة لإطلاق مرحلة انتقالية جديدة وتشكيل حكومة مدنية.

وفي حزيران الماضي أكدت الولايات المتحدة، أنها ما زالت مستعدة للقيام بوساطة بين المتحاربين في السودان شرط أن يكونوا “جديين” في مسألة الهدنة.

وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية خلال زيارة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى أوسلو إن الولايات المتحدة والسعودية “مستعدتان لاستئناف تسهيل المحادثات المعلقة لإيجاد حل تفاوضي لهذا الصراع عندما تظهر القوات بوضوح من خلال أفعالها أنها جدية في التزام وقف إطلاق النار”.

كما أن السعودية والإمارات بذلتا جهوداً لتشكيل مسار الأحداث في السودان، إذ تريان أن الانتقال للديمقراطية بعيداً عن حكم البشير سيؤدي للقضاء على نفوذ الإسلاميين وتعزيز الاستقرار في المنطقة.

فقد حاولت الرياض وواشنطن إقناع الطرفين المتحاربين بتوقيع اتفاق حماية المدنيين ووقف إطلاق النار المؤقت، وربما سيكون للزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي إلى السعودية أثر كبير في دفع المفاوضات غير المباشرة بين الجيش والدعم السريع باتجاه إنهاء هذه الحرب، لما تتمتع به الولايات المتحدة من وزن عالمي يمكّنها من التأثير في طرفي الصراع ودعم المجتمع الدولي والإقليمي للوساطة التي ترعاها الرياض وواشنطن.

وواصلت الدول الخليجية ضخ استثمارات في قطاعات مثل الزراعة، إذ يتمتع السودان بإمكانيات هائلة، إلى جانب قطاع الموانئ على ساحل البحر الأحمر، بينما وقع العديد من الشركات الإماراتية اتفاقيات للاستثمار، من بينها توقيع مجموعة من المستثمرين الإماراتيين صفقة أولية لبناء وتشغيل ميناء، واتفقت شركة طيران أخرى مقرها الإمارات مع شريك سوداني لإنشاء شركة طيران جديدة منخفضة التكلفة يكون مقرها في الخرطوم.

وترتبط مصر، بعلاقات طيبة مع البرهان والجيش السوداني، ودعمت في الآونة الأخيرة مسارا موازيا لإجراء مفاوضات سياسية من خلال الأطراف التي ترتبط بصلات قوية مع الجيش وحكومة البشير السابقة. أما روسيا فلها أيضاً حضور في المشهد إذ إنها تسعى لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر.

مباحثات السلام الإفريقية

أعلن الجيش السوداني رفضه المشاركة في مباحثات سلام إفريقية بهدف البحث عن حل للنزاع ما لم يترأس اللجنة الرباعية طرف غير كينيا التي يتهمها بـ”عدم الحيادية”.

وتقود الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا (إيغاد) مبادرة إقليمية عبر لجنة رباعية برئاسة كينيا تضم إثيوبيا وجيبوتي وجنوب السودان، وترافقت تلك الخطوة مع نقل رئاسة اللجنة من جنوب السودان إلى كينيا، وهو ما لقي معارضة من الخرطوم.

وقد عقدت اللجنة الرباعية اجتماعا في أديس أبابا، غاب عنه البرهان ودقلو رغم دعوتهما إليه. وأكد كل من طرفي النزاع إرسال ممثل عنه الى أديس أبابا، إلا أن الحكومة المرتبطة بالبرهان، أكدت أنها لن تشارك في الاجتماع ما لم نتمّ تلبية مطلبها بتغيير الرئاسة الكينية.

وأشارت الخارجية السودانية إلى أن وصول وفدها إلى أديس أبابا يؤكد جدية حكومة السودان للارتباط البناء والتواصل مع منظمات انتمائها الإقليمية، مضيفة إنه اتضح لوفدنا أن رئاسة اللجنة الرباعية لم يتم تغييرها، علما بأن حكومة السودان طالبت بتغيير رئاسة الرئيس وليام روتو رئيس جمهورية كينيا للجنة الرباعية”.

وأوضحت أن مطالبتها بذلك تعود إلى جملة أسباب منها “عدم حيادية روتو في الأزمة القائمة”، إذ ترى أن حكومة كينيا “تتبنى مواقف ميليشيا الدعم السريع المتمردة وتؤوي عناصرها وتقدم لهم مختلف أنواع الدعم”.

أما قوات الدعم السريع فاستغربت مقاطعة الطرف الآخر للجلسة “بذرائع واهية غير موضوعية رغم وصوله لأديس أبابا”، معتبرة أن “هذا التصرف غير المسؤول يكشف بوضوح أن هناك مراكز متعددة لاتخاذ القرار داخل القوات المسلحة تسعى لإطالة أمد الحرب وعرقلة المساعي الحميدة من أجل التوصّل إلى حل للنزاع.

وانتقدت الرباعية في بيان ختامي “الغياب المؤسف لوفد القوات المسلحة السودانية على رغم دعوتها وتأكيد مشاركتها”، إلا أنها أكدت استمرارها في تركيز جهود “كل الأطراف على الوصول إلى عقد لقاء وجها لوجه بين قائدي الطرفين المتنازعين”، داعية إلى “توقيع اتفاق غير مشروط لوقف إطلاق النار”.

وأعلنت أنها ستطلب من الاتحاد الإفريقي بحث إمكانية نشر “القوة الاحتياطية” لشرق إفريقيا (“إيساف”) التي عادة ما يتم توكيلها بمهام مراقبة الانتخابات، في السودان بهدف “حماية المدنيين” وضمان وصول المساعدات الإنسانية.

وأعربت الحكومة السودانية عن رفضها إشارة بيان لجنة إيغاد إلى بحث نشر قوات شرق إفريقيا للطوارئ لحماية المدنيين بالسودان، مؤكدة أنها ترفض نشر أي قوات أجنبية في السودان وأننا “سنعتبرها قوات معتدية”. كما عبرت عن دهشتها من تصريحات لرئيس وزراء إثيوبيا عن فراغ في قيادة الدولة، وهو ما يفسر عدم اعترافه بالقيادة الحالية.

إن الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالبشير أنعشت الآمال في خروج السودان وسكانه البالغ عددهم 46 مليون نسمة من غياهب عقود من الاستبداد والصراع الداخلي والعزلة الاقتصادية التي عانت منها البلاد في عهده، فيمكن أن يؤدي النزاع إلى تبديد تلك الآمال إضافة إلى زعزعة استقرار منطقة مضطربة على تخوم منطقة الساحل والبحر الأحمر والقرن الإفريقي.

كما يمكن أن يلعب دورا في المنافسة على النفوذ في المنطقة بين روسيا والولايات المتحدة وبين القوى الإقليمية التي تتودد إلى قوى مختلفة في السودان. فهل سيجد هذا الصراع طريقاً إلى النهاية؟ أم سيبقى السلام عصياً على التحقق في بلد أنهكته حرب أبنائه؟

مصدرالوقت التحليلي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا