في الأشهر الأخيرة، حدثت تطورات مهمة في الشرق الأوسط. ولعل أهمها إعادة العلاقات بين إيران والسعودية، وتبعاً لذلك الانفراج في أزمة الحرب في اليمن، وفي الدرجة التالية إعادة قبول سوريا في العالم العربي.
النقطة التي تبدو متناقضةً للوهلة الأولى، هي أن الخبراء الدوليين متفقون تقريبًا على أن هذه التطورات، على الرغم من أنها تهدف إلى تهدئة التوتر وإحلال السلام في المنطقة، قد انتهت على حساب الکيان الإسرائيلي والولايات المتحدة. والحقيقة هي أن التدخل الأمريكي والدور الإقليمي للکيان الصهيوني هما بالضبط ضد النزعة السلمية وخفض التصعيد، وقد تجلت هذه القضية الآن أكثر فأكثر.
موقع قناة “روسيا اليوم” التلفزيونية الإخبارية الروسية، وفي تقرير نشر مؤخراً بعنوان “الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط تنزلق والسلام سيأتي”، فيما يسرد بعض التطورات المذكورة، يشير إلى أن القاسم المشترك بين كل هذه التطورات هو الخروج الواضح للشرق الأوسط عن التركيز الأمريكي.
يقول مؤلف هذا التقرير، “روبرت إنكلاش”، المحلل السياسي والمراسل وصانع الأفلام الوثائقية المقيم في لندن: إن تركيز أمريكا والغرب على أوكرانيا جعل الغربيين، على الأقل في المرحلة الحالية، لا يركزون على التدخل في الشرق الأوسط، وهذا العامل دفع دول المنطقة إلى اتخاذ خطوات عملية لإحلال السلام.
مع تراجع نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، تتجه دول المنطقة نحو التسوية والمصالحة ومحادثات السلام، ما يشكك في الرواية الأمريكية التي تريد تصوير دورها كعامل استقرار وداعم للديمقراطية. کما شهد موقع الغرب بين حلفائه القدامى في الشرق الأوسط، تدهوراً دراماتيكياً تحت قيادة الرئيس الأمريكي جو بايدن. والآن بعد أن ركزت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، معظم جهودها على الحرب في أوكرانيا، فإن عواقب قراراتها الخاطئة في الشرق الأوسط بدأت تلاحقها شيئاً فشيئاً.
وكانت الضربة الكبرى الأولى لنفوذ واشنطن (في الشرق الأوسط) هي الاتفاق بين اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، أي إيران والسعودية، بوساطة الصين، بهدف إنهاء عقود من العداء بين البلدين، وهو العداء الذي أدى إلى إنهاء العلاقات الثنائية عام 2016. هذه الاتفاقية لها عواقب عديدة على القوة الأمريكية في المنطقة. أولاً، تسبب هذا الحدث في انهيار الاستراتيجية التي كانت أمريكا تنفذها، أي توحيد السعودية مع دول مثل مصر والإمارات والأردن والبحرين والکيان الإسرائيلي ضد إيران وحلفائها في المنطقة، وهو تحالف كان يسمى “الناتو الشرق أوسطي”.
ثانيًا، يبدو أن المصالحة بين إيران والسعودية، دفعت الرياض إلى التخلي عن خططها لتطبيع العلاقات مع الکيان الإسرائيلي في هذه المرحلة، بينما تقدر إدارة بايدن بوضوح تطبيع العلاقات بين الکيان والسعودية باعتباره إنجازًا لسياستها الخارجية.
والنقطة الأخرى هي أن هذه المصالحة تحققت بوساطة بكين، وبغض النظر عن رأي البيت الأبيض. فعلى الرغم من الجهود المبذولة في واشنطن للتظاهر بأن الولايات المتحدة تؤيد هذه الاتفاقية،والتصريحات المتكررة لرئيس وزراء الکيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول التطبيع الوشيك مع السعودية والمصالحة بين إيران والسعودية، لكن من الواضح أنها كانت ضربةً (للولايات المتحدة والکيان الإسرائيلي)، ولها تداعيات هائلة على نهج واشنطن في المنطقة.
في مارس (آذار) (2022)، قال محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية، إنه لا يهتم إذا أساء الرئيس الأمريكي فهمه (واختلف معه)؛ وفي وقت لاحق، في أبريل، ورد أنه أخبر مستشاريه أن إرضاء أمريكا لم يعد أولويةً. فور تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، دخلت الرياض في مفاوضات جادة مع حرکة أنصار الله اليمنية، لإنهاء الحرب الدائرة بين الجانبين منذ عام 2015 والتي أودت بحياة حوالي 400 ألف شخص في اليمن. وما زاد الطين بلةً بالنسبة لأمريكا، هو أن وزير الخارجية السعودي سافر مؤخرًا إلى دمشق للقاء الرئيس السوري بشار الأسد.
وإضافة إلى تحركات الرياض وتحرك تونس لإعادة العلاقات مع سوريا، يبدو أن أنقرة ربما تكون أيضًا على وشك المصالحة مع دمشق، وقد تم اتخاذ خطوات لإعادة انضمام سوريا إلى جامعة الدول العربية، الأمر الذي يتعارض بشكل واضح مع الأجندة الأمريكية.
علاوةً على كل هذا، أعلنت قطر أنها ستعود إلى العلاقات الطبيعية مع الإمارات والبحرين. وعلى الرغم من أنها ليست ذات صلة بالإجراءات المذكورة أعلاه، إلا أنه يجب إضافتها إلى قائمة القرارات السلمية التي تم اتخاذها دون أمريكا. يبدو أن القاسم المشترك لكل هذه الأحداث، هو عدم وجود (وتدخل) أمريكا. من ناحية أخرى، تسبب تطور علاقات واشنطن مع النظام الملكي المغربي في توتر مع الدولة المجاورة له، أي الجزائر.
إدارة بايدن لا تؤجج نيران النزاعات الدبلوماسية بين الجانبين فحسب، بل تؤجج أيضًا التوترات العسكرية في شكل سباق تسلح بين البلدين. ففي أوائل أبريل، وافقت الولايات المتحدة على عقد بقيمة 524.2 مليون دولار لبيع محتمل لأنظمة صواريخ “هيمارس” إلى المغرب. في غضون ذلك، أصيب الشريك الرئيسي لأمريكا في الشرق الأوسط، الکيان الإسرائيلي، بضعف شديد بسبب الأزمة السياسية الداخية المستمرة بشأن الإصلاحات القضائية المقترحة من قبل الحکومة.
كما أن مقاربة الکيان لقضايا مثل الحفاظ على الوضع الراهن في المسجد الأقصى(والذي يخضع للوصاية الهاشمية الأردنية) هي أيضًا مشكلة، وقد تسببت في الأشهر الأخيرة في حدوث توترات كبيرة بين الأردن وتل أبيب. وهذه القضية مشكلة أخرى لأمريكا التي يتعين عليها التوسط بين الجانبين للحفاظ على السلام. والبعد الأخر من المشكلة هو العداء بين بايدن ونتنياهو، والذي يثير الشکوك لأول مرة منذ الخمسينيات في العلاقات الخاصة بين الکيان الإسرائيلي والولايات المتحدة.
كانت استراتيجية أمريكا في الشرق الأوسط هي فرض هيمنتها، من خلال الأساليب العسكرية بشكل أساسي. وكانت أعذارها وحججها تتعلق بالأمن، وبيع الأسلحة، والتهديد بعمل عسكري ضد الأعداء، وخلق حرب باردة بين السنة والشيعة، والتي حرضت إيران والسعودية على بعضهما البعض.
إن قوة برامج الأسلحة الإيرانية، إلى جانب تحالفاتها الإقليمية، منعت أمريكا إلى حد كبير من تحقيق تفوق عسكري أكبر تمامًا من قوة عدوها. کما أن النزعة التوسعية المفرطة لأمريكا في المنطقة، دفعتها للخروج بشكل مخجل من أفغانستان، ما جعل واشنطن غير قادرة على حماية حلفائها من الهجمات الصاروخية المحتملة من قبل إيران وحلفائها.
تعمل واشنطن بنشاط على بناء علاقات قائمة على استراتيجيات تضع شركاءها في خط النار، لكن هذا على الرغم من حقيقة أن أنظمة الدفاع الجوي التي تبيعها لحلفائها في المناطق نفسها لا توفر لهم الحماية الكافية. حتى في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي(والذي كانت أمريكا فيه الوسيط الوحيد منذ عام 1967)، فإن قيادة واشنطن تتراجع. ففي الآونة الأخيرة، اقترح وزير الخارجية الصيني تشين جانج على نظرائه في السلطة الفلسطينية والکيان الإسرائيلي، أن تتدخل بكين لتسهيل الحوار بين الجانبين.
على الرغم من أن هذا الصراع لن يتم حله بين عشية وضحاها، فإن مجرد أن قوةً عالميةً أخرى تدخل إلى الحلبة، من المؤكد أنها سترسل رسالةً إلى صانعي السياسة الأمريكيين. بدلاً من التواصل مع دول المنطقة كأنداد متساوين والسعي إلى شراكات اقتصادية متبادلة المنفعة، تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية لتنفيذ سياسة “فرق تسد”، وخلال هذه العملية قتلت الملايين وأنفقت تريليونات الدولارات.
ربما کانت هذه السياسة ناجحةً في الماضي، لكن قدرة أمريكا على شن حروب لتغيير الأنظمة أصبحت الآن محدودةً للغاية. لقد حقق أعداء أمريكا الرئيسيون، أي إيران وحلفاؤها، قفزات كبيرة في المجال العسكري، وجعلوا الحرب المباشرة مستحيلةً أكثر فأكثر، حتى أنهم ضغطوا علی الأعداء السابقين لطهران لإعادة النظر في استراتيجياتهم.
على الرغم من أننا ما زلنا في بداية هذه المرحلة الجديدة في الشرق الأوسط، ولکن من الواضح أن القرارات السياسية الخاطئة وعدم قدرة واشنطن على توقع طريق إلى الأمام، قد دفعت الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة إلى الوراء، لکن هذه المرة في مسار إيجابي.