قال رئيس المجلس السياسي لحزب الله اللبناني إبراهيم أمين السيد، اليوم الخميس، إنّ “إسرائيل” تشعر بالقلق على مستقبلها، مضيفاً: “يجب أن نهيئ أنفسنا لنكون قادرين على صياغة مصير المنطقة”. وأكد السيد، خلال المؤتمر الـ 11 للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، أنّ “مصير المنطقة لا يصنعه المنهزمون”.
ولفت رئيس المجلس السياسي لحزب الله إلى أنّ “العدو دخل المنطقة من بوابات مختلفة ليصنع الشرق الأوسط الجديد”، معقباً: “لكن منطقتنا استطاعت إفشال جميع مخططات الأعداء”.
23 عاماً على التحرير
وتحل اليوم الذكرى الـ 23 لتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/مايو 2000. وثمة معادلة يتفق عليها الجميع في “إسرائيل”، هي أنها، بعد الانسحاب من لبنان، صارت أضعف مما كانت قبله، وأنّ لبنان، بعد 23 عاماً على اندحارها منه، لا يزال الهاجس الذي يقض مضجعها.
قرار الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 وتداعياته على صورة “إسرائيل” وقوتها وردعها، لا يزال مدار نقاش كبير بين النخب الإسرائيلية على اختلافها. يطول الحديث في ما بينهم بشأن صواب مبدأ الانسحاب من “المستنقع اللبناني”، ولا سيما أن طريقة الانسحاب وصورته والتخبط في إدارته حوّله إلى هزيمة عسكرية وسياسية ومعنوية كاملة لكيان الاحتلال.
يومها، أثارت مشاهد انسحاب “جيش” الاحتلال الإسرائيلي ليلاً وبسرعة، بالتزامن مع احتفالات جنوده بالانسحاب، غضباً وانتقاداً واسعين في الأوساط الإسرائيلية، من مواطنين وإعلاميين وسياسيين. ومما زاد الأمور تعقيداً لديهم، هي أنّ هذا الانسحاب تزامن مع زحفٍ شعبي لبناني منظم وتقدمٍ لتشكيلات من حزب الله لتحرير المواقع والتحصينات في الجنوب.
المؤيدون لقرار الانسحاب في “إسرائيل” داخل الكيان يعتبرون أن بقاء الاحتلال في جنوب لبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي، كان خطأً من أساسه، وخصوصاً أنه أدّى إلى استنزاف “الجيش” الإسرائيلي، من دون أن ينجح حتى في حماية المستوطنات شمال فلسطين المحتلة.
وعام 1999، كان الانسحاب عنواناً انتخابياً لإيهود باراك خلال حملته الانتخابية لرئاسة الحكومة. وقد وعد حينها بأنه، إذا فاز في الانتخابات، سيسحب “الجيش” الإسرائيلي من لبنان حالاً، ويوفر القتلى والخسائر على “المجتمع الإسرائيلي”. هذه الخطوة جاءت بالتزامن مع نشاط حركات اجتماعية في “المجتمع” ذاته، والتي أدت دوراً جماهيرياً وإعلامياً كبيراً في هذا السياق، على رأسها “حركة الأمهات الأربع” التي طالبت بإعادة أبنائها من الجنود الأسرى لدى المقاومة.
الهروب الكبير
وفي مقال له عام 2004 عن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وتأثيره في العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري، حذّر باراك المستوى السياسي في “إسرائيل” من تكليف “الجيش” بمهام غير قابلة للتنفيذ، في إشارة إلى الواقع الصعب الذي أدخلت فيه المقاومة “جيش” الاحتلال.
ورغم ذلك، ينفي باراك أن تكون “إسرائيل” قد انسحبت تحت الضغط، لكنه يعقب ليبرّر أنّ الانسحاب تم “بشكله الذي حدث بهدف عدم تمكين حزب الله من ممارسة ضغط موضعي محدد الأهداف”، وأنه لم يكن هناك جدوى من البقاء مع العدد الكبير من القتلى الذي تكبدوه.
في المقابل، تعتبر الآراء المعارضة أن الانسحابَ بالطريقة التي تم بها أشبه بـ”الهروب الكبير”، وأظهر “إسرائيل”، وفق قولهم، خائنةً لعملائها. هذه الآراء تربط بين الانسحاب وقيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد أشهر قليلة من التحرير، والتي تصاعدت معها المقاومة في قطاع غزة إلى مستويات غير مسبوقة، عبر تفجير العبوات الناسفة بالدبابات الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ.
جُرحُ الوعي الذي أصاب ضباط الاحتلال عام 2000، نتيجة خروجهم المذل، نكأه مشهد انسحاب الجيش الأميركي المذل من أفغانستان عام 2021، تاركاً وراءه الآلاف من العملاء، يتساقط بعضهم من هيكل الطائرة الخارجي، بعدما تُرِكوا لمواجهة مصيرهم؛ شأن هؤلاء شأن نظرائهم من العملاء في الجنوب اللبناني أو في العاصمة الفيتنامية آنذاك سايغون.
هذا المشهد الذي علق بالذاكرة علّق عليه عدد من الضباط والإعلاميين الإسرائيليين بأنه -وما يخلّفه من أثر في وعي شعوب الشرق الأوسط- خروج من واقع معقد إلى واقع آخر أكثر تعقيداً.
الانسحاب المذل مجرد بداية
غداة الانسحاب، كتب زئيف شيف، المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس”، تحليلاً بعنوان: “الانسحاب لا يشكّل نهاية لهذا الصراع”، وقال فيه “إن قناعةً تولدت لدى القيادة العسكرية بأن عودة حزب الله إلى مزاولة نشاطه في الجنوب اللبناني ضد إسرائيل ليست أكثر من مسألة وقت، وأن حزب الله سيواصل عملياته ضدنا تحت أي ذريعة ممكنة”. واختتم مقاله بالقول إنّ على الشارع الإسرائيلي أن يدرك أن الانسحاب من لبنان “لا يعني بالضرورة نهاية كل المصاعب التي كان الإسرائيليون يواجهونها على حدودهم الشمالية”.
امتد النقاش حول صواب مبدأ الانسحاب ليطال جدوى الانسحاب بعد أكثر من عقدين على حصوله. وبناء عليه، رأى طيف واسع من كبار الضباط والخبراء داخل الكيان أن الانسحاب وفّر على “إسرائيل” مزيداً من الغرق في الوحل اللبناني، وجنّبها خسائر بشرية لا طاقة لها على تحملها، في ضوء التغيُّرات التي طرأت على أكثر من مستوى، ولا سيما تطور قدرات حزب الله بصورة هائلة.
لكنَّ آخرين رأوا أن “الخلل” الذي أصاب توازن الردع بين حزب الله، ومن خلفه فصائل المقاومة من جهة، و”إسرائيل” من جهة أخرى، ناشئ بشكل أساسي من الانسحاب المذل من لبنان. كذلك، رأوا أن موازين القوى الحالية بين “إسرائيل” وأعدائها، والخيبات المتعددة التي حصدها “الجيش” الإسرائيلي في كل الحروب والجولات القتالية التي حصلت مقابل لبنان وقطاع غزة بعد عام 2000، ما كانت لتحصل لولا الانسحاب من لبنان بالطريقة والظروف التي رافقته.
رئيس الأركان الأسبق لـ”الجيش” الإسرائيلي، غابي أشكنازي، علّق على الوضع في فترة ما بعد حرب لبنان 2006، وقال إنّ على “إسرائيل” أن تسجل على أعدائها “نصراً لا يقبل التأويل، ولا لبس فيه، بحيث يكون مفهوماً للجميع من انتصر ومن انهزم”. ويضيف: “لأن الشرق الأوسط لا يحب المترددين ولا يرحم المشفقين، ويقدّر فقط المنتصرين”.
ولعل مقولة أشكنازي تتردد في أذهان القادة العسكريين والسياسيين في “إسرائيل” عند كل جولة مواجهة محتملة أو فعلية مع المقاومة، لتذكرهم بأن قدرتهم على الحسم أضحت شيئاً من حكايا الماضي. وأياً يكن النقاش ومساحات التباين في كيان الاحتلال، على خلفية الانسحاب من لبنان، ثمة معادلة يتفق عليها الجميع هناك، هي أن “إسرائيل” بعد الانسحاب من لبنان غدت أضعف مما كانت قبله، وأنّ لبنان، بعد 23 عاماً على فرارها منه، لا يزال الهاجس الذي يقض مضجعها.
راهنت تيارات داخل “إسرائيل” على أنّ الانسحاب من لبنان سوف يخفّف حماسة المقاومة لتراكم المزيد من القوة، ولكنها بعد 23 عاماً تقف حائرة أمام تطور معادلة الردع لمصلحة المقاومة.
وقبل أيام، نفذّت المقاومة في لبنان مناورة عسكرية عشية عيد التحرير، فيما أكّد رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله السيد هاشم صفي الدين أنّ الاحتلال الإسرائيلي سيرى فعل الصواريخ الدقيقة في قلب كيانه إذا ارتكب حماقة لتجاوز قواعد اللعبة، لافتاً إلى أن “العدو سيشهد أياماً سوداء لا مثيل لها”.
وقال صفي الدين إن المقاومة في “تحرير عام 2000 كانت جيلاً واحداً. أما اليوم، فهي أجيال متعاقبة ومتشابكة تعمل على إلحاق الهزيمة بالإسرائيليين”.