تتميز سياسة ولي العهد السعودي “ابن سلمان” بأنها سياسة لا ملامح لها ولا اتجاه محدد يمكن الحكم عليها من خلاله! فـ”ابن سلمان” منذ أن اعتلى كرسي ولاية العهد في 2017، وكان ترمومتر السياسة السعودية في تذبذب واضح بين صعود وهبوط إقليميًا ودوليًا.
فعلى الصعيد الإقليمي، تسببت سياسة التذبذب التي جاء بها “ابن سلمان” في أكبر أزمة إنسانية في العالم منذ عقود؛ وهي حرب اليمن، كذلك أزمة حصار قطر، وموقف المملكة من الثورة السورية، والوضع مع إيران، كل تلك المحطات كانت محطات فارقة في سياسة المملكة إقليميًا وتسببت في فقد المملكة لكثير من قيمتها كرائدة في العالم العربي والإسلامي.
ودوليًا، موقف المملكة من العلاقات الأمريكية كان شديد التذبذب في عهد “ابن سلمان” بسبب قضية “خاشقجي” وموقف إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن” منها، والتي كان على أثرها في علاقاته مع ولي العهد السعودي.
أزمة حصار قطر
رغم أن الأسباب التي دعت “ابن سلمان” لإعلان قطع العلاقات مع قطر هو والإمارات والبحرين ومصر، مازالت قائمة حتى الآن، إلا أنه سعى بكل ما آوتي من قوة لإنهاء تلك الأزمة في تبدل رأى الكثير من المراقبين للشأن الخليجي أنه عجيب وغريب وسريع.
ففي مقال للكاتبة لينا كنوش، نشرته في صحيفة “لا تريبون” الفرنسية، قالت: “رغم عدم إحراز أي تقدم في حل نقاط الخلاف الرئيسية، باتت الرياض تفضل تجنب المواجهة حول القضايا الحساسة. والتركيز في المقابل على الجوانب العملية للمصالحة”.
وترى الكاتبة أن اتفاقية المصالحة قوّضت لائحة الشروط الـ13 التي وضعتها السعودية في شهر حزيران/يونيو 2017. واستدركت الكاتبة: “لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا قررت السعودية التغاضي عن النقاط الخلافية مع الدوحة. رغم أن المصالح الجيوسياسية للبلدين مازالت متباينة؟”.
يرى الكثير من المراقبين أن السعودية أصبحت في موقف ضعيف منذ سنتين، حيث انتهت سياسة الرياض الإقليمية الهجومية. التي انطلقت سنة 2015، بسلسلة من الإخفاقات. وتبدأ هذه الإخفاقات، وفق الكاتبة، من مأزق الحرب في اليمن، مرورا بفضيحة اغتيال خاشقجي، وصولا إلى قضية الحريري.
وحسب رأي الكثيرين، فإن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يعد المسؤول الأول عن هذه الحصيلة الكارثية وتآكل نفوذ الرياض الإقليمي لصالح أنقرة. وأكدت الكاتبة أن قرار الرياض بإعادة العلاقات مع قطر، يرجع إلى عدم القدرة على التنبؤ بالتطورات القادمة في ظل الإدارة الأمريكية الجديد آنذاك.
إيران معضلة ثم اتفاق سلام!
في 2022، صرح “ابن سلمان” في مقابلة مطولة مع صحية “أتلانتيك” الأمريكية، إن إيران ستبقى جارة للسعودية ولا يمكنهما “التخلص” من بعضهما بعضا، ودعا لـ”حل الأمور” بينهما، مؤكدًا نية الرياض مواصلة المحادثات مع طهران، وهو ما أسفر عن توقيع اتفاق السلام مؤخرًا مع إيران وإعادة فتح السفارات بالبلدين.
بينما في 2017، كان “ابن سلمان” شدد، في مقابلة تلفزيونية، على عدم وجود نقاط التقاء مع النظام الإيراني ووصف نظام طهران بأنه قائم على “أيدولوجية متطرفة منصوص عليها في دستوره وأن السعودية هدف رئيسي للنظام الإيراني”، كما تعهد، في مقابلة عام 2017، بالعمل على نقل المعركة إلى داخل إيران!
هذا التغير الكبير في التفكير لا يمكن أن يخرج من شخص يعرف ماذا يفعل أو لديه هدف يسعى إلى تحقيقه.
الثورة السورية أم “الأسد”؟
بعد سنوات من تأكيد السعودية على أنها ترى رحيل بشار الأسد عن سوريا أمرًا حتميًا لمستقبل البلاد، خففت الرياض لهجتها ضد نظام الأسد، بل وتسعى الآن جاهدة لإعادته على الجامعة العربية، حيث تستضيف قمة خليجية – عربية مصغرة قبل القمة العربية القادمة في الرياض، في محاولة لإيجاد توافق عربي على عودة “الأسد” للجامعة العربية.
كذلك استقبلت السعودية، الأربعاء، وزير الخارجية السوري للمرة الأولى منذ بداية النزاع في البلاد، ويزور المقداد السعودية في إطار دعوة من وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله، وفق وكالة الأنباء السعودية (واس). والهدف من الدعوة، بحسب المصدر ذاته، “عقد جلسة مباحثات تتناول الجهود المبذولة للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سوريا وأمنها واستقرارها، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم”.
وإثر اندلاع النزاع في 2011، قطعت دول عربية عدة على رأسها السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق، وعلقّت جامعة الدول العربية عضوية سوريا. وقدّمت السعودية التي أغلقت سفارتها بدمشق في آذار/مارس 2012، خلال أولى سنوات النزاع دعما للمعارضة السورية، واستقبلت شخصيات منها على أراضيها.
والشهر الماضي، أعلنت الرياض أنها تجري محادثات مع دمشق تتعلّق باستئناف الخدمات القنصلية بين البلدين. واعتبرت الباحثة في معهد بيكر للسياسات العامة ياسمين فاروق أنّ التطورات الأخيرة بخصوص التهدئة في المنطقة “لم تكن مفاجئة ويتمّ الإعداد لها منذ فترة”. وقالت “ما يمكن أن يكون مفاجئا هو السرعة التي يتم العمل بها لمواكبة عودة سوريا مع القمة العربية في الرياض” الشهر المقبل.
ما بين الولايات المتحدة وروسيا
تعاني السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من أزمة مصداقية تجلت في القمة السعودية – الأمريكية في يوليو من العام الماضي، وفي رفض السعودية ودول الخليج الانصياع للطلب الأمريكي بزيادة إنتاج النفط لتخفيض الأسعار. وكان موقف السعودية ودول الخليج الأعضاء في أوبك أن أسعار النفط تحددها تقديرات العرض والطلب في السوق، من دون تدخل سياسي. وكان تقدير أوبك وقتها أن الطلب على النفط سيتراجع حتى الربع الأول من العام الحالي، وأن زيادة الإنتاج يمكن أن تسبب أضرارا فادحة للدول المصدرة. وقد ثبت أن هذا التقدير كان سليما.
وتشعر السعودية على وجه الخصوص بأن الولايات المتحدة تكيل بمكيالين فيما يتعلق بمصالحها، فهي اتخذت قرارات بفرض عقوبات على الشركات الغربية التي تصدر مكونات الطائرات المسيرة إلى إيران بعد حرب أوكرانيا، بينما لم تفعل شيئا عندما تعرضت منشآت شركة أرامكو النفطية لاعتداءات بهذه الطائرات وبالصواريخ في عام 2019.
ومن المعروف أن العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة والسعودية تعاني من أزمة منذ عام 2021 عندما ألغت المملكة الزيارة التي كانت مقررة لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، عندما كان في جولة خليجية لطمأنة دول الخليج وتأكيد التزام بلاده بأمنها، بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
وقد اقتصرت العلاقات العسكرية بين البلدين عند حدود تنفيذ المهام المقررة في جدول القيادة المركزية، وأهمها المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة. كما زار الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي واشنطن والتقى أوستن في مايو من العام الماضي، لكن العلاقات ما تزال مقطوعة من جانب الأمير محمد بن سلمان.
لذا فإن عدم وجود رؤية سياسية واضحة لـ”ابن سلمان” أثر بشكل كبير على البوصلة السياسية للمملكة، وأضعف موقف المملكة إقليميًا ودوليًا، وجعل المملكة أضحوكة في المجتمع الدولي، ففي يوم يتبنى ولي العهد موقف سياسي محدد، ولكن في اليوم الذي يليه نراه يفعل العكس، وهو ما يفقد السياسة السعودية مصداقيتها.