تشكل الفترة الممتدة من تحرير جنوب لبنان في أيار عام 2000، ساحة سباق وتنافس بين قوى المقاومة وكيان الاحتلال على قلاع الاستراتيجية الرئيسية التي تقرّر مصير المواجهة الفاصلة التي يسعى إليها كل طرف بشروطه وينتظر توافرها، والمقصود بقلاع الاستراتيجية الأطر الفكرية الاستراتيجيات الكبرى التي يتمّ السباق على امتلاك السيطرة على مفاصلها، وليس مواقع جغرافية تمثل قيمة استراتيجية، والقلاع المقصودة هي الميادين والمنصّات التي شكلت مصادر تفوّقاً مطلقاً لكيان الاحتلال طوال عقود، وشكّل تحرير جنوب لبنان حدثاً استراتيجياً استدعى إعادة فحصها.
القلعة الأولى كانت قوة الردع، والمعنيّ بها امتلاك القدرة والإرادة على خوض حرب يتيح التلويح بخوضها سبباً كافياً لردع الطرف المقابل عن التفكير بالخوض بأي استفزاز قد يؤدي الى تظهير قوة الردع، وكان الاعتقاد “الإسرائيلي” بعد تحرير الجنوب أن قوة الردع تشكل سياقاً مستقلاً عن مصير الاحتلال، انطلاقاً من التفاوت الناري بين قدرات المقاومة وقدرات جيش الاحتلال، التي لا تمنع هزيمة الاحتلال أمام المقاومة عندما يكون لا يزال محتلاً.
كما حدث مع الجيش الأميركي في فيتنام والجيشين السوفياتي والأميركي في أفغانستان، لكن الأمر يختلف عندما يخوض الجيش النظاميّ المتفوّق نارياً حرباً تدميرية ضد هياكل المقاومة دون نية البقاء في الأرض والتحوّل مجدداً إلى جيش احتلال، وعلى خلفية هذه المقاربة التي لا نقاش حول مصداقيتها بين العسكريين، خاض الكيان حرب تموز 2006، التي بدأت مع فشلها أولى عمليات التآكل في قوة الردع الإسرائيلية.
ومنذ حرب تموز تتابعت حلقات التآكل، في حروب غزة، وصولاً إلى معركتي سيف القدس ووحدة الساحات. وبالمقابل تنامت قدرة الردع لدى قوى المقاومة، خصوصاً مع انكسار موجات الحرب على سورية وتحوّلها من حدّ الى فرصة أتاحت ولادة محور موحّد جامع تتكامل فيه قدرات قوى المقاومة خارج فلسطين، ثم تتكامل مع قوى المقاومة في فلسطين، خصوصاً بعد المصالحة بين سورية وحركة حماس. وخلال عقد كانت الاختبارات العملية تقول بفشل محاولات بناء قبّة حديدية حقيقية تحمي عمق الكيان من الصواريخ والطائرات المسيّرة.
وجاءت عملية استهداف آرامكو عام 2019 تقول إن لا منطقة سيطرة أميركية أو إسرائيلية تستطيع أن تكون بمنأى عن استهدافات صواريخ قوى المقاومة وطائراتها المسيّرة. وجاءت حرب أوكرانيا لتقول إن الحرب الحديثة لم تعد حرب الطائرات الحربية والمدرعات بل أصبحت حرب الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، التي تشكلت منها عناصر تفوق محور المقاومة.
ويكفي النظر الى ما جرى قبل شهور خلال عملية ترسيم الحدود البحرية للبنان، وما جرى قبل أيام خلال الاعتداءات على المسجد الأقصى من إطلاق للصواريخ من جبهات غزة ولبنان وسورية، والهروب الإسرائيلي من خوض المواجهة معها، وصولاً إلى الانطفاء أمام المعتكفين في المسجد الأقصى والهروب نحو جبل صبيح قرب نابلس، علامات كافية للتحقق من أن قلعة الردع التي كان يحتلها الجيش الإسرائيلي، تنتقل تدريجياً الى سيطرة محور المقاومة، بانتقاله من القدرة على منع التهديد بالحرب من جانب الكيان، إلى القدرة على التهديد بالحرب مرّات متكرّرة، من سيف القدس إلى الترسيم وصولاً إلى الأقصى، ودائماً مع معادلة أن أيّ تهديد للأقصى يهدّد بانفجار حرب إقليمية.
– القلعة الثانية تمثلت بالحرب على العقول، ونظرية الوعي وكي الوعي والكي المعاكس لكي الوعي، وعلى هذا الصعيد انتقلت الهيمنة على منصات الحرب النفسيّة من يد إسرائيلية عليا، الى نجاح المقاومة بفرض خطابها أساساً لوعي الرأي العام على الضفتين، جمهور المقاومة والمستوطنين، وبدلاً من نظرية الجيش الذي لا يُقهر التي سادت عقوداً طويلة، وتمزّقت إرباً بضربات المقاومة، بدأت نظرية “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” تشق طريقها، ليس بصفتها خطاباً تعبوياً، بل بصفتها خطاباً معبراً عن الواقع، وخلال سنوات كانت تحضر تلقائياً كلما وقعت منازلة تثبت فيها المقاومة قدرتها، فيتفاعل جمهورها تحت عنوان شعار بيت العنكبوت، وينتبه المستوطنون إلى تذكر معادلة بيت العنكبوت.
وفي مرحلة ثانية حلّت نظرية الكيان المؤقت ضيفاً جديداً على سباق حرب العقول، صارت التبشير بالأزمة الوجودية للكيان، وعجزه عن البقاء، عنوان النقاش على جدول أعمال الكيان وقادته وجمهوره، ومنها ولدت مخاوف الخراب الثالث، ولعنة الثمانين، ومعها انتقل الحديث عن زوال الكيان من مجرد أمنية أو حلم غير قابل للتحقيق بالنسبة لجمهور المقاومة، الى حقيقة ومشروع واقعيّ، وبينما استثمر الكيان على منصتين لحرب الوعي بالمقابل، واحدة عنوانها الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، وثانية محورها التطبيع مع دول الخليج الغنية، ورغم أوهام التقدّم في هاتين المنصتين، كان مجرد الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني كافياً، للتيقن في كل مكان من سقوط الرهانين معاً بضربة قاضية.
– القلعة الثالثة كانت نظرية التأقلم مع انتظار فرص الحرب الفاصلة عبر ما أسماه الإسرائيليون بنظرية المعركة بين حروب، ومحورها السعي إلى مراكمة أسباب القوة المادية والمعنوية، ومنع العدو من فعل ذلك والسعي لتعميق نقاط ضعفه. وكان الإسرائيليون الذين اخترعوا نظرية قدرة الردع ونظرية كي الوعي هم من اخترع نظرية المعركة بين حروب، وحددوا عنوان معركتهم بين الحروب بأهداف تتصل بملاحقة وتصفية الناشطين الفلسطينيين وضمان عجزهم عن تشكيل قوة فعل في غزة والضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948 من جهة، ومنع إيران من تحقيق تقدم في برنامجها النووي من جهة ثانية، ومنع تراكم الأسلحة النوعيّة بيد المقاومة في لبنان عبر سورية من جهة ثالثة، وخلال عقد كانت الحصيلة رغم إلحاق الخسائر بقوى المقاومة وإيران وسورية، فشلاً إسرائيلياً كاملاً في بلوغ الأهداف.
فالمقاومة الفلسطينية نهضت بأضعاف ما كانت عليه تحت نيران المعركة بين حروب، سواء ببناء قدرة الردع في غزة، كما قالت معركة سيف القدس ومعركة وحدة الساحات، أو بنوعية وحجم وتوزع العمليات الفدائية وظهور التشكيلات الجديدة للمقاومة، وعجز الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عن احتوائها واستباقها أو التعامل معها، كما تصاعد وتطوّر البرنامج النووي الايراني من مراتب الى مراتب أشدّ تقدّماً وعلواً، صولاً الى ما يصفه الأميركيون والإسرائيليون معاً، بالوقوف على عتبة القدرة على إنتاج قنبلة نووية، أما بالنسبة للمقاومة في لبنان فجيش الاحتلال يعترف بأن المقاومة بَنَت سلاحَها الصاروخي الدقيق وراكمت صناعة الطائرات المسيّرة الحديثة في ظل معركتها التي استهدفتها بين الحروب، وبات بيد هذه المقاومة كما يقول قادة الكيان ما يكفي لتدمير الكيان ومنشآته الحيوية في أي حرب مقبلة.
– قلعة الردع التي كانت تحت سيطرة جيش الاحتلال انتقلت إلى ساحة تنافس إلى أن استقرت على سياق تصاعدي لصالح تفوق محور المقاومة، وقلعة كي الوعي أكثر، والمعركة بين حروب فشلت في تحقيق أهدافها كما رسمها قادة الكيان واستولدت معركة أخرى بين الحروب حقق فيها محور المقاومة الكثير من النجاحات، ولعل هذا المشهد الاستراتيجي الجديد هو الذي يقول باقتراب منازلة شاملة تكون نتائجها حاسمة لصالح محور المقاومة.
ـــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل