الإعلان عن إنجاز تبادل الأسرى في اليمن ليس أمراً عادياً، وقد مضى الملف عالقاً سنوات، ولم ينجز منه إلا حلقات صغيرة بتبادل العشرات، بينما الوصول الى أرقام بالمئات تمهيداً لإقفال الملف فهو علامة سياسية كبيرة على تحقيق تقدّم هام في المسار السياسي. والمقصود بالمسار السياسي حصراً مسار التفاوض بين صنعاء والرياض بوساطة مسقط.
المعلوم أن حرب اليمن التي كانت يوم بدأت ضمن مشروع أميركي شامل لترتيب وضع المنطقة من ضمن رؤية صفقة القرن وتطويع قوى محور المقاومة، بما فيها إسقاط سورية وترويض ايران، قد تحوّلت الى عبء على أصحابها. فصمد اليمن وعكس اتجاه الخطر في الحرب بعدما صار قادراً على إنتاج معادلة التحكم بأمن الممرات المائية في الخليج وعبرها أمن الطاقة.
المعلوم أيضاً أن المشروع الكبير الذي كانت حرب اليمن أحد محاوره قد فشل في سائر الفصول، فأسقط الفلسطينيون بمقاومتهم المستمرّة والشاملة صفقة القرن، وأسقطت سورية مشروع إسقاطها، وتحولت إيران الى قوة دولية لا يمكن تجاهلها وأثبتت فشل العقوبات والضغوط في تطويعها، ونجحت المقاومة في لبنان وفلسطين في مراكمة فائض قوة استراتيجي منحها القدرة على التهديد بالحرب بدلاً من الاكتفاء بردع التهديدات الاسرائيلية بها، مرة في سيف القدس ومرة في ترسيم الحدود البحرية للبنان.
وبدأ الافتراق الأميركي السعودي عند الحاجة السعودية لضمان الأمن وإعلان العجز الأميركي عن الوفاء بالتعهدات، منذ ضربة آرامكو 2019 في ولاية دونالد ترامب، وتعزّز مع حرب أوكرانيا وتحول الشرق الأوسط وعلى رأسه السعودية إلى مورد وحيد للطاقة الى أوروبا لا يمكن توفيرها دون أمن الممرات، وصار أمن الممرات مشروطاً بالتسويات والتفاهمات التي لا تستطيع واشنطن رعايتها، بل صارت عبئاً عليها، كما تقول تصريحات السيد عبد الملك الحوثي حول العرقلة الأميركية للتسوية في اليمن.
اختيار السعودية للرعاية الصينية علامة قراءة استراتيجية مضمونها أن الدور المحوري للخليج في توفير الطاقة وتدفقها الآمن في العالم، هو سقف ما يمكن تقديمه للغرب، وأن ثمن القيام بهذا الدور هو ارتضاء الغرب بصمت بالخيارات التي تسلكها دول الخليج بقيادة سعودية نحو تثبيت الاستقرار لتوفير أمن ممرات الطاقة.
كما كانت الحرب على اليمن جزءاً من كل، فإن انطلاق قطار التسوية في اليمن هو جزء من كل، لكنه الآن الدفعة الأولى في التسويات الإقليمية، بعدما كانت الحرب هي الدفعة الأخيرة في سحاب الحروب الإقليمية. ودائماً يكون آخر جرح يفتحه الجراح هو أول جرح يقوم بإقفاله.