بعد الإعلان عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية، تباينت القراءات والتحليلات لهذا الحدث.. البعض رأى فيه تحوّلاً هاماً في مسار الأحداث، بغضّ النظر عن الموقف الايديولوجي أو المبدئي من النظامين السعودي والإيراني، والذي يجعلهما على طرفي نقيض، والبعض الآخر رأى انّ هناك مبالغة أو مراهقة سياسية في اعتبار ما حصل تمرداً أو خروجاً سعودياً من عباءة التبعية للولايات المتحدة الأميركية وبالتالي فإنّ ايّ مراهنة على تغيير في الوجهة السعودية بعيداً عن أميركا إنما هو رهان أو قراءة مغلوطة في غير محلها.
لكن إذا ما أمعنّا النظر جيداً وقرأنا الحدث بعيداً عن هذا وذاك، يمكن أن نخلص إلى قراءة موضوعية لا تغالي في ما حصل لكنها لا تقلل في الوقت نفسه من دلالاته وانعكاساته.. إذا ما أخذنا بالاعتبار العوامل التي كانت في أساس التوصل لهذا الاتفاق.
لا شك في انّ ما حصل لم يكن صاعقة في سماء صافية، ولا هو صدفة، إنما جاء نتيجة توافر جملة من العوامل وبالتالي تلبية لحاجة إيرانية وسعودية في آن، تعكس مصلحة للطرفين، أولاً، وكذلك حاجة ومصلحة طرف ثالث، وهو الصين، ساعد على أن يصل الحوار السعودي الإيراني إلى هذه الخاتمة الإيجابية بالنسبة للأطراف الثلاثة، واستطراداً بالنسبة للمنطقة بالقدر الذي ينعكس فيه الاتفاق على الساحات المختلفة التي تشهد أزمات محتدمة وللأطراف المذكورة تأثير ودور وحضور فيها، وقدرة على المساعدة ولعب دور الوساطة لإيجاد حلول لها.
أولاً، انّ التوقف عند العوامل التي دفعت الأطراف الثلاثة إلى تذليل العقبات من طريق التوصل لهذا الاتفاق على عودة العلاقات، يشكل المفتاح الأساسي في قراءة هذه النتيجة للحوار بين الرياض وطهران:
1 ـ السعودية، أنّ أهمّ العوامل التي دفعت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أخذ هذا التوجه نحو خوض الحوار مع إيران وبالتالي عقد المصالحة معها، رغم انّ ذلك يتعارض بشكل واضح مع الرغبات والأهداف والسياسات الأميركية الاسرائيلية، أن اهم هذه العوامل هي:
أ ـ وصول ولي العهد السعودي إلى قناعة بأنّ السبيل للخروج من مستنقع حرب اليمن التي باتت تستنزف قدرات السعودية، وتلقي بأعباء ثقيلة عليها، مادياً واقتصادياً وبشرياً، ممرّه الإجباري الاتفاق مع أنصار الله على حلّ سياسي للأزمة، وبالتالي وقف الحرب، خاصة بعد أن أثبت مرور 8 سنوات من عمر الحرب استحالة الحسم العسكري وتحقيق النصر على أنصار الله، وبالتالي لم تعد هناك من فائدة ترجى من الاستمرار في الحرب التي باتت مكلفة جداً.. فيما أميركا كلّ ما يهمّها ان تستمرّ الحرب، لاستنزاف الطرفين، بغية بيع المزيد من السلاح للسعودية، وبناء وترسيخ وجود القواعد الأميركية في السواحل اليمنية وقرب آبار النفط.. غير انّ الاتفاق مع أنصار الله يحتاج إلى مساعدة، لإيجاد مخرج يحفظ ماء وجه الرياض، والطرف الوحيد القادر على ذلك هو إيران التي تربطها علاقات جيدة مع أنصار الله.. وليس أميركا، ولا بالتأكيد “إسرائيل” صاحبة المصلحة في إدامة هذه الحرب.
ب ـ إدراك ابن سلمان بأنّ مشروعه الاقتصادي الذي طرحه للنهوض بالاقتصاد السعودي، إنما يتطلب أمناً واستقراراً وبالتالي توفير البيئة المواتية والمغرية لجلب الاستثمارات وتحويل المملكة إلى مركز لاستقطاب الشركات العالمية بدلاً من دبي.. وهذه البيئة لا يمكن أن تتأمّن إلا إذا لمست الشركات الرأسمالية ورجال الأعمال أنّ الأجواء والمناخات باتت فعلاً مواتية لاستثماراتها.. ولهذا فإنّ المصالحة مع إيران ووضع حدّ للتوتر في المنطقة إنما يسهم في المساعدة على التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب في اليمن، وتوفير هذه البيئة من الأمن والاستقرار لنهوض وازدهار الاقتصاد.. ولهذا شمل اتفاق عودة العلاقات بين الطرفين، تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية بينهما إلى جانب اتفاق التعاون الأمني…
ت ـ حاجة ابن سلمان إلى التغطية على النتائج الكارثية لحرب اليمن، وتحسين صورته سعودياً، عشية توليه العرش، تتطلب ملاقاة التحوّلات الحاصلة في المجتمع السعودي، واحتياج الاقتصاد للتطوير، عبر الانفتاح وتحقيق الازدهار الاقتصادي، وبالتالي تقديم نفسه في صورة رجل الإصلاح والانفتاح، من خلال طرح خطة ابن سلمان، 20/30، غير انّ تحقيق هذا الهدف غير ممكن ما لم يتمّ إيجاد مخرج لوقف حرب اليمن، وخروج المنطقة من دائرة التوتر، وهو ما يتطلب المصالحة مع إيران وإعادة العلاقات معها…
ج ـ نشوء مصالح هامة اقتصادية بين السعودية وكلّ من الصين وروسيا، إلى جانب زيادة حجم مبيعات النفط السعودي إلى الصين.. وفي هذا السياق قال اتحاد الغرف السعودية، إن حجم التبادل التجاري بين المملكة والصين بلغ خلال السنوات الخمس الماضية، (2017 ـ 2021) 1,2 تريليون ريال، وهو ما يعكس قوة الشراكة الاقتصادية وتنوع الفرص التجارية والاستثمارية لدى البلدين.. ولفت التقرير الانتباه الى فرص التكامل الاقتصادي بين المملكة والصين في ظلّ مبادرة “الحزام الاقتصادي وطريق الحرير” الصينية التي تنسجم مع رؤية 2030 من حيث توجهاتها لاستغلال الموقع الاستراتيجي للمملكة لربط قارات العالم وجعلها مركزاً لوجستياً عالمياً، مما يعزز فرص التعاون والشراكة بين البلدين”.
أما قيمة التبادل التجاري بين السعودية وروسيا فقد بلغت 1,6 مليار دولار حسب السفير الروسي لدى الرياض سيرغي كوزلوف، الذي قال في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” إنّ هناك شروطاً جيدة لمزيد من النمو في عام 2023. علاوة على ذلك، يعتزم الجانبان الروسي والسعودي في المستقبل المنظور الوصول إلى 5 مليارات دولار”.
الى جانب ذلك فقد تزايدت المعطيات والوقائع العالمية التي تؤشر الى استحالة تعويم مشروع الهيمنة الأحادية الأميركية على الساحة الدولية في ضوء صعود الصين كقوة عالمية، وعدم قدرة أميركا والغرب على عزل وإضعاف روسيا، الأمر الذي شجع السعودية، إلى جانب حاجتها إلى تغليب مصالحها، على رفض ما تطالب به وتريده واشنطن في بعض القضايا التي لا تخدم مصالح الرياض، وهو ما ظهر في الموقف من الحرب في أوكرانيا، وفي قرار الرياض رفض الاستجابة لطلبات واشنطن بعدم الموافقة على خفض إنتاج أوبك بلاس.. وظهر اليوم من خلال القبول برعاية بكين للحوار الإيراني السعودي واستطراداً التوصل إلى اتفاق البلدين على عودة العلاقات واحياء اتفاقيات التعاون بينهما
2 ـ إيران، أدركت طهران، منذ زمن بعيد، انّ الحلّ الوحيد الذي يحقق الأمن والاستقرار والازدهار في إيران والمنطقة إنما هو مرتبط أو مرهون بوضع حدّ للتدخلات الخارجية لا سيما الأميركية “الاسرائيلية”، التي تقف وراء حالة التوتر بين إيران ودول الخليج، وتعمل على إذكائها، خدمة للمصالح الاستعمارية للولايات المتحدة، ومخططات الكيان الصهيوني الذي سعى على مدى السنوات الماضية الى تحوير الصراع في المنطقة من صراع عربي “إسرائيلي”، إلى صراع عربي إيراني، تكون فيه “إسرائيل” حليفة فيه لدول الخليج في مواجهة إيران، بذريعة مواجهة ما تسمّيه “الخطر الإيراني”.. وبالتالي توفير المناخات المواتية بالنسبة لـ “إسرائيل”، لفرض الحلّ الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية بعد سلخها عن حضنها العربي.. كما أدركت إيران منذ بداية حرب اليمن انّ هذه الحرب لا يمكن أن تنتهي بانتصار السعودية، وفي نفس الوقت لا يمكن وضع نهاية لهذه الحرب الا إذا نضجت السعودية للحلّ السياسي لإنهاء الحرب، حلّ يقوم على التسليم بمطالب الشعب اليمني… ولهذا دأبت إيران على انتهاج سياسة تدعو إلى الحوار لحلّ الخلافات مع السعودية وبقية دول الخليج.. وامتصاص ايّ محاولات للتصعيد.
كما أنّ لإيران مصلحة في تطبيع العلاقات مع السعودية ودول الخليج لأنه يسهم في كسر الحصار الأميركي المفروض عليها والذي ألحق الضرر بالاقتصاد الإيراني وأدّى الى تدهور قيمة العملة الإيرانية، وتراجع القدرة الشرائية للشعب الإيراني، وحاولت أميركا ودول الغرب و”إسرائيل”، استغلال معاناة الشعب الإيراني الناتجة عن الحصار، لتأليب الإيرانيين ضدّ نظامهم بغية تغييره لمصلحة إقامة نظام تابع لأميركا…
وكذلك فإنّ لإيران مصلحة بإحباط مخطط الفتنة المذهبية الذي عملت عليه أميركا و”إسرائيل” لمحاصرة إيران وقوى المقاومة في المنطقة..عبر إثارة الفتنة المذهبية.
3 ـ الصين، وجدت الصين انّ لها مصلحة حيوية في إنهاء التوتر في العلاقات الإيرانية السعودية، وعودة العلاقات إلى طبيعتها، لأنه يصبّ في خدمة مشروعها الاقتصادي، الطريق والحزام الذي يشكل الأمن والاستقرار والتعاون بين الدول الواقعة على طول هذا الطريق شرطاً لنجاحه، وتعزيز التبادلات التجارية وإقامة المشاريع الاستثمارية، وتطور وتنمية العلاقات الاقتصادية، وتوفير طريق أمن لإمدادات الطاقة من المنطقة إلى الصين.. واستطراداً تعزيز نفوذ الصين وتشجيع الدول على انتهاج سياسات تقوم على الشراكة والمنفعة المتبادلة بعيداً عن التدخل في شؤون الدول وسياسات الهيمنة والتسلط التي تنتهجها الولايات المتحدة في تعاملها مع السعودية وغيرها من الدول، والتي عبّر عنها بشكل فجّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال فترة ولايته الرئاسية.
انطلاقاً مما تقدّم يمكن لنا تفسير لماذا أحدث خبر إعلان نجاح الحوار السعودي الإيراني برعاية صينية، في التوصل إلى اتفاق على عودة العلاقات بين الرياض وطهران، لماذا أحدث صدمة كبيرة في كلّ من واشنطن وتل أبيب.. ما يعني أنّ الولايات المتحدة و”إسرائيل” لن تقفا متفرّجتين على هذا التحوّل في المنطقة في غير مصلحة توجهاتهما وخططهما ومشاريعهما، وسوف تعملان بكلّ تأكيد على محاولة استخدام النفوذ الأميركي التاريخي في السعودية لأجل عرقلة تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية، ولهذا فإنّ تطبيق الاتفاق ونجاحه سيكون مرتبطاً بمدى قدرة الرياض على تجاوز الاعتراض الأميركي.. على انّ الخلاف الذي نشأ بين واشنطن والرياض بشأن موافقة السعودية على خفض إنتاج أوبك بلاس للحفاظ على أسعار مرتفعة للنفط، لم يؤدّ إلى تراجع الرياض عن قرارها، رغم اعتراض وامتعاض إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لأنّ فيه مصلحة لها، وهذا الأمر يبدو أنه ينطبق بقوة على قرارها تطبيع العلاقات مع إيران لأنّ فيه مصلحة ماسة وحيوية للرياض، وهي حاجتها السريعة لإيجاد مخرج من الحرب المكلفة في اليمن والتوصل الى حلّ ينهي الحرب ويحفظ ماء وجه السعودية في الوقت نفسه.. والدولة الإقليمية الوحيدة القادرة على مساعدة السعودية في تحقيق ذلك هي إيران.
حسن حردان