ماذا يعني أن يخرج شاب فلسطيني في مدينة القدس يبلغ من العمر 21 عاماً فقط، ويوجّه سلاحه الفردي إلى رؤوس المستوطنين الصهاينة ويقتلهم واحداً تلو الآخر دون خوف أو ارتباك؟ وماذا يعني أن يقوم شاب آخر في اليوم التالي، وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره فيقتل مستوطنين آخرين في سلوان ويتوارى عن الأنظار؟
باختصار نحن أمام جيل لم تشهد فلسطين مثله يوماً، هذا الجيل الذي عايش زمن الإنتصارات، لم يختبر لحظات النكبة ولا النكسة ولا بدايات المقاومة الأولى وحركتها في السبعينيات، ولم يشارك في انتفاضة لكنه يصنع اليوم بدمه وإرادته أعظم انتفاضة.
أن يقدم هؤلاء الشباب بعمرهم الصغير وعقلهم الأمني، الذي تجاوز أمن الإحتلال بلا شك، يعني أننا أمام جيل التحرير؛ هؤلاء الذين سيمهدون الطريق لخروج الإحتلال ربما دون معركة، بل بإسقاط نظرية “البقاء الآمن” التي يراهن عليها العدو ويحملها أمام مستوطنيه بكل ثقة. فأي ثقة لديه اليوم وهو يعيش لأول مرة عمليات نوعية فردية ينفذها شباب بمطلق إرادتهم وبعقلهم وتخطيطهم خارج إطار التنظيمات؟
نحن أمام جيل عدي التميمي الذي كتب وصية قبل استشهاده قد تكون أهم رسالة على مستوى المواجهة مع الإحتلال حين قال “أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط.. عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر.. أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها، واضعًا هدفًا أساسيًا أن ثمرة العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية من بعدي”. هؤلاء المئات هم بلا شك آلاف سيظهرون تباعاً في عمليات مختلفة وخطيرة واستثنائية كما فعل الشهيد خيري علقم في عملية القدس الأخيرة التي لم يعش الإحتلال مثلها منذ 15 عاماً باعتراف ضباطه وإعلامه.
الثمرة التي أراد عدي أن تنضج أكثر عبر عمليات أقوى شهدناها وسنشهدها تباعاً، تؤكد أننا أمام جيل استثنائي، راهن العدو الإسرائيلي على ذاكرته ونسيانه وطمسه للقضية والهوية، ولم يكن يعتقد لحظة أن هذا الجيل سيكون أقوى من الأجيال السابقة وأكثر حماساً وإقداماً واندفاعاً وربما ذكاءاً لقدرته على اختراق المنظومة الأمنية الإسرائيلية وإيقاعها بهذا المستوى من الفشل والإرباك.
الشهيد خيري علقم وضع الإحتلال بالأمس أمام أقسى اختبار يمكن أن يشهده ــ حتى الآن. واستطاع أن يُخرس لسان أكثر المتطرفين في حكومة الإحتلال ما يسمى وزير الأمن إيتمار بن غفير الذي وقف محني الرأس مذهولاً إلى جانب رئيس حكومته غير قادر على تصديق ما صنعته يد شاب في العشرين من عمره بهذا الكيان. هذا الشاب الإستثنائي دفع بعض وسائل الإعلام العبرية إلى وصف المشهد بالمذبحة وبأنه أسوأ عملية تعيشها “إسرائيل”، بل ذهب البعض إلى تحميل حكومة التطرف مسؤولية تصعيدها وقرارتها التي ستساهم في نزع الشرعية عن “إسرائيل”.
ما صنعه الشهيد خيري وقبله الشهيد عدي التميمي ورعد خازم وضياء حمارشة وعشرات الشباب والمئات الذي سيأتون بعدهم وربما الآلاف أثبتوا ويثبتون أننا أمام جيل تجاوز كل فوارق الأجيال السابقة، وأن ما صنعوه يأتي في السياق الطبيعي للحرب المفتوحة مع الإحتلال وهو بلا شك لا ينفصل عن عملية التحرير وخروج هذا المحتل من أرض فلسطين.
ولعلّ السؤال الذي يطرح اليوم في إطار الحديث عن ما يمكن أن يقوم به الإحتلال رداً على العمليات البطولية والفشل الأمني الذريع لقواته، يقابله سؤال آخر أهم، هو عما إذا كان الإحتلال سيستطيع في أي فعل أو رد أو تصعيد أن ينزع من عقول وقلوب هؤلاء الشباب وهذا الجيل الإستثنائي إرادة القتال والتحدي والمواجهة التي تتغلغل داخلهم كما يسير الدم في عروقهم.. والجواب يبدو واضحاً؛ إنتظروا الأسوأ والأعظم في الأيام القادمة.
العهد – زهراء جوني