ــ من المعلوم أن القوات الأميركية عادت إلى العراق ودخلت بالتوازي في سورية، عام 2014 في سياق استراتيجية مزدوجة تمثلت بإطلاق موجة تنظيم داعش نسخة منقحة لتنظيم القاعدة، وبالتوازي الإعلان عن حلف دولي لمقاتلة داعش، التنظيم الذي بشر الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن قتاله يستدعي عشرات السنين.
ومن المعلوم أن هذا التصور الاستراتيجي جاء بهدف تزخيم قرار الحرب على سورية لتحقيق السيطرة عليها كحد أعلى، وتفتيتها إلى أجزاء متحاربة إذا فشل مشروع السيطرة، لكن من المعلوم أن هذا المشروع تهاوى عام 2016 مع تحرير حلب وبدء انهيار مشروع داعش تحت ضربات محور المقاومة بقيادة القائد قاسم سليماني في جبهات العراق وسورية ولبنان، وأن الجيش السوري ومقاتلي حزب الله والحشد الشعبي كانوا القوة التي نفذت المهمة التي تباهى الأميركي بتنفيذها، لكنه مع ذلك لم يجب على سؤال حول طبيعة الوظيفة الاستراتيجية الجديدة التي يقوم عليها قرار بقاء القوات الأميركية في سورية.
ــ إذا قمنا بتقليب واختبار الفرضيات، نبدأ بفرضية اعتبار التمركز الأميركي في سورية يهدف لتأمين ميمنة القوات الأميركية في العراق، لكننا نكتشف ان عديد هذه القوات دون الـ 1000 جندي، ولا تستطيع تأدية أي مهمة ذات طابع قتالي دون الاستعانة بالقوات الموجودة في العراق، وأن حماية هذا الوجود هي أحد الأعباء التي يجري تبرير عديد القوات الأميركية في العراق بسببها.
ولو كان الأمر معكوساً لناحية شرعية الوجود بالنسبة لهذه القوات بين سورية والعراق، لكان الأمر مفهوماً، أي لو ان الوجود في سورية يحظى بشرعية القبول من الدولة السورية ولا يحظى بمثلها في العراق لكان تبرير التمركز في سورية ظهيراً سياسياً للوجود في العراق لكن الأمر عكس ذلك، فما هي الوظيفة إذن؟
ــ إذا أخذنا فرضية أخرى تقول بأن الهدف هو الإمساك بالحدود السورية العراقية ومنع التواصل بين البلدين، ربطاً بمنع وجود طريق بري بين قوى ودول محور المقاومة، وخصوصاً بين إيران وحزب الله عبر سورية، كما تحاول خريطة الانتشار الأميركي أن تقول باعتبار القواعد الأميركية تتموضع على الحدود السورية العراقية، سيكون السؤال الاستراتيجي الذي تطرحه أي قيادة عسكرية عليا على نفسها هو طبيعة العائد المترتب على هذا التمركز قياساً بالتكلفة المادية والعسكرية والسياسية.
في ظل اعتراف أميركي علني بأن تدفق السلاح النوعي لصالح حزب الله لم يتأثر بهذا التمركز، مثله مثل الغارات الاسرائيلية، خصوصاً أن السلاح الكاسر للتوازن كما يسمي الأميركيون والإسرائيليون امتلاك حزب الله الصواريخ الدقيقة، قد تمّ في ظل هذا التمركز، أي منذ العام 2017، كما تقول التصريحات الأميركية والاسرائيلية.
ــ إذا أخذنا الفرضية التي تقول بأن هدف التمركز العسكري الأميركي في سورية هو رعاية قيام دويلة كردية وتعزيزها بالسلاح ومنحها الحماية السياسية التي يقدمها وجود أميركي عسكري مباشر، واجهنا سؤال أول يقول، إن أميركا عندما وجدت نفسها أمام فرصة ذهبية غير قابلة للتكرار لقيام دولة كردية في شمال العراق، وفي ظروف دستورية وسياسية وشعبية وجغرافية مؤاتية، عندما أقر الأكراد في شمال العراق عبر الاستفتاء قرار الانفصال عام 2017، هربت من التلبية وأبلغت قادة الأكراد اعتذارها عن تقديم أي دعم سياسي أو معنوي، فهل يعقل أن تخاطر بهذا المشروع على شكل مسخ غير ناضج للحياة في سورية.
وقد تخلت عن مولود كامل المواصفات في العراق، ثم يأتي سؤال ثان تطرحه الأحداث الراهنة مع التهديد التركي بعملية عسكرية برية ضد مناطق سيطرة الجماعات الكردية المسلحة، التي تحظى بالرعاية الأميركية، فهل يقول الأداء الأميركي الذي أعلن تجميع القوات ووقف الدوريات منعاً لأي مصادفة صدامية بين القوات الأميركية والقوات التركية، إن التمركز العسكري الأميركي موجود لحماية الكانتون الكردي؟
ــ الأكيد أن الوجود العسكري الأميركي في سورية يؤدي أدواراً في كل الاتجاهات المذكورة، فهو يعرقل وحدة سورية، ويشجع تفتيتها، ويفرض عرقلة على الحركة الطبيعية عبر الحدود السورية العراقية، ويقدم الإغراء اللازم لبقاء القيادات الكردية خارج أي مشروع جدي للتفاهم مع دولتهم السورية، لكنه ليس موجوداً لأي من هذه الأهداف، ووحده الرئيس السابق دونالد ترامب امتلك وقاحة القول الفج على طريقته حول الهدف الحقيقي لبقاء التمركز العسكري الأميركي في سورية.
ففي 3-12-2019 وبعد لقاء جمعه مع الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، في لندن، على أبواب افتتاح أعمال قمة حلف شمال الأطلسي في العاصمة البريطانية، قال ترامب: “لقد حاول داعش حفظ سيطرته على النفط، أما الآن فأصبحنا نحن الذين نسيطر عليه بشكل كامل. وأقول بكل صراحة إننا نتمتع في هذا الشأن بدعم عدد كبير من الناس المختلفين. وفي حقيقة الأمر، لم يبق في هذه الأراضي (السورية) من عسكريينا سوى من يحمون النفط. النفط في أيدينا ويمكننا أن نفعل به ما نشاء”.
ــ يومياً يخاطر الأميركيون بتسيير موكب من الشاحنات المحملة بالنفط يعبر الحدود بين سورية والعراق، وينهبون ما يقارب 200 ألف برميل يومياً، أي ما يزيد عن سبعين مليون برميل سنوياً، تتراوح قيمتها بين 4 و7 مليارات دولار، تباع في السوق التركية السوداء، وتقوم من حولها شبكة مافيات أميركية وكردية وتركية باعتبارها لا تباع بشكل نظامي ولا تدخل عائداتها في موازنات أي من الدولتين الأميركية والتركية، وتشكل الاقتصاد السياسي لقرار البقاء في سورية، وتقدّم التفسير لمواقف مؤيدي هذا البقاء من الأكراد والأتراك والأميركيين.
ــ هذا نموذج يلقي الضوء على مستوى انحطاط صناعة الاستراتيجية في الدولة العظمى، ويفسر الكثير من اللاسياسة في زمن انحلال المؤسسات وغياب الاستراتيجيات وصعود علمَي المال والشركات كما أظهرته الحرب الأميركية على العراق، وتظهره حرب أوكرانيا اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل