سيكون موقف بوتين، أكثر نقاط التحول تأثيراً، إما في جنوح نتنياهو إلى حرب على ايران، وإما في عدوله عن هذه الفكرة ونزعها من رأسه نهائياً.
لم يكن نتنياهو المتشدد، وخلال كامل فترة حكمه الطويلة نسبياً في تاريخ الكيان، إلا ذلك المسؤول الإسرائيلي العدائي والرافض لأي شكل من أشكال التهدئة العقلانية، سواء أكانت مع الفلسطينيين، أو حزب الله، في لبنان أو سوريا، أم مع إيران، ولتبقى، سابقاً، أغلب مغامراته الواسعة إعلاميةً بنسبة كبيرة، إذ كانت مقيدة ببضعة عوامل ومعطيات داخلية وإقليمية ودولية.
باستثناء بضع منها محدودة في غزة، في المكان وفي المدة، ولم تُعطَ (الدسمة) من هذه المغامرات، الفرصة الكاملة لكي تكون أعمالاً عسكرية واسعة أو حروباً، حيث بقي سقفها بعض اغتيالات خسيسة في أمكنة مختلفة، أو بعض اعتداءات صاروخية أو جوية في سوريا، وذلك لجملة ظروف وأسباب، القليل منها لم يعد موجوداً، فينما أغلبها ما زال موجوداً مع تأثيرات فاعلة.
إنما اللافت، اليوم، بروز بعض المعطيات الحساسة التي لها تأثير كبير في هذه المغامرات الدسمة، ظهرت على خلفية العملية الروسية في أوكرانيا والمواجهة شبه المباشرة بين موسكو والغرب الأطلسي.
صحيح أن نتنياهو يدخل السلطة، اليوم، فائزاً بعد انتخابات الكنيست الأخيرة، الأمر الذي من المفترض أن يجعله هادئاً وواثقاً، إلا أنه، عملياً، يدخل برأس مشوش ومضطرب، وبهوس واضح، قد يدفعه نحو أكثر من حرب أو مواجهة، الظاهر منها حتى الآن، ثلاث، يرى أنه مجبر على الانزلاق نحو واحدة أو أكثر منها وهي: الأولى على الفلسطينيين، في غزة أو في الضفة أو في الاثنتين معاً، والثانية على حزب الله، والثالثة مع إيران.
حرب نتنياهو على الفلسطينيين
هذه الحرب التي توزعت وتعددت وانتشرت ساحاتها اليوم، وأصبحت مترابطة على نحو واضح وثابت، ستكون قاسية وأقسى مما تصور أو يتصور، بوجود معطيات عدة، تختلف اليوم عما كانت عليه السابق، ويمكن أن نحددها بالتالي:
– ما طرأ على بنية وتجهيز فصائل المقاومة الفلسطينية والمختلف على نحو جذري عما كان عليه سابقاً، وعلى رأسها أسلحة نوعية جديدة من صواريخ ومسيّرات، إذ كانت سلسلة المواجهات الأخيرة كمعركتي “سيف القدس” و”وحدة الساحات” بعض نماذج عملها الفعالة، التي أظهرت عجزاً، ولو جزئياً، في قدرات “الدفاع” الإسرائيلية، على مواجهتها أو منعها من الوصول إلى عمق مواقع الكيان ومستوطناته ومدنه.
– وحدة ساحات المقاومة الفلسطينية التي أصبحت حقيقة ثابتة، إذ ارتبطت كل المواجهات أو أعمال المقاومة على كامل تراب فلسطين المحتلة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، لتُطلق صواريخ غزة في مقابل أي اعتداء في أحياء القدس المحتلة، أو في مقابل أي توغل للعدو في مخيمات الضفة، ولتطلق العمليات الصاعقة لأبطال مخيمات الضفة وتتمدد رداً على أي استهداف في رفح أو في بيت حانون أو في غزة أو في جباليا.
– تخلي أبطال مخيمات الضفة الغربية أنفسهم عن اتفاق “أوسلو”، مثلما تخلى عنه نتنياهو، ليتجاوزوا بهذه العمليات البطولية اللافتة التي تشهدها كل إجراءات السلطة الفلسطينية، لا بل استطاعوا أن يجرّوا معهم على طريق المقاومة والعمليات البطولية ضد المستوطنين وأجهزة الأمن الصهيونية كثيراً من عناصر أجهزة أمن هذه السلطة.
حرب نتنياهو على حزب الله
يبقى احتمال حصول هذه الحرب مرتفعاً، وإذا حصلت فقد يستغني بها عن حربه المفترضة على المقاومة الفلسطينية، وذلك للأسباب التالية:
1 – على أساس أن حزب الله (في نظر نتنياهو، وعملياً هو هكذا) أدى دور المساهم الأساسي في تطور وتطوير قدرات وموقف وموقع المقاومة الفلسطينية لناحية التجهيز والتدريب، ولناحية شد العصب المقاوم وانتشاره على أغلب ساحات فلسطين المحتلة، طبعاً ليس من باب التقصير في هذا الالتزام من قبل المقاومة الفلسطينية، التي تبقى رائدة في هذا الفكر المقاوم كمعني أول ورئيسي بمواجهة الكيان الغاصب، بل من باب التجربة الناجحة التي قدّمها حزب الله في كامل مسار تطور مستواه المقاوم ضد “إسرائيل” في جميع المجالات، وخصوصاً في مجال الردع الإستراتيجي.
2- أيضاً على أساس أن حزب الله، لقّن حكومة لابيد درساً قاسياً في الردع، وجعلها “تركع” (عبارة رُدِّدت غير مرة في الكيان وعلى غير لسان من ألسنته الإعلامية والعسكرية، المعارضة أو الموالية لحكومة لابيد)، وحزب الله هو من دفع الأخيرة إلى الاستسلام في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وهذا الأمر سيبقى قاسياً ومؤلماً في الوعي الصهيوني المتشدد، ولن يمر مرور الكرام في ذاكرة الكيان العدوانية، التي يُعد نتنياهو من روادها، لو بقي هذا الاستسلام من دون إعادة اعتبار، والأهم أيضاً هنا، ستبقى محاذير ومفاعيل هذا الأمر كارثية ومؤلمة أكثر على الكيان، فيما لو بقي عاضاً على جرح الاستسلام أمام حزب الله.
حرب نتنياهو على إيران
وهي عملياً، الهاجس الأكبر في رأس نتنياهو، وفي رأس الغرب حالياً، وهي اليوم محط الأنظار والتركيز والمتابعة، من داخل الكيان ومن إيران ومن واشنطن ومن موسكو أيضاً، وبمعزل عن نتيجتها إذ نسبة أن تكون لمصلحة إيران أكبر من نسبة العكس، يجد كل هؤلاء فيها نقطة تحول أو فرصة تأثير حاسم أو تغيير جذري، تختلف نظرة وموقف كل طرف من هذه الأطراف إزاءها، وذلك على النحو التالي:
– لناحية “إسرائيل”، ستكون الحرب على إيران فرصة تاريخية بهدف إنهاء التهديد الأكبر للكيان، بوجود تطور في الموقف النووي الإيراني أو من دونه، إذ إن القدرات الصاروخية والمسيرة، هي موضع الخوف الإسرائيلي الحقيقي أكثر من السلاح النووي، الذي يبقى موضوع حيازته من قبل إيران -قراراً وفعلاً- غير واضح، بالنسبة إلى “إسرائيل” طبعاً وليس بالنسبة إلى طهران.
– لناحية واشنطن، ربما بدا الأميركيون اليوم، وبخاصة الديمقراطيون، يميلون، وعلى عكس السابق، إلى أن يحصل اعتداء صهيوني على إيران، إذ الأخيرة لم تعلق بشباك إغراءاتهم المسمومة في العودة إلى الاتفاق النووي، وبقيت صامدة على مواقفها وعلى خطوطها الحمر، وخصوصاً لناحية الضمانات التي لم تستطع واشنطن تقديمها، أو التي لا تريد تقديمها أصلاً، فضلاً عن أن إيران أيضاً، أصبحت، وفي نظر الغرب الأطلسي، لاعباً فاعلاً في ترجيح كفة موسكو بمواجهتهم في أوكرانيا، وذلك عبر مسيّراتها الحاسمة والقاسية، بمعزل عن حصول موسكو عليها قبل الحرب في أوكرانيا -كما تقول طهران- أو لدعم هذه الحرب مباشرة -كما يقول الغرب الأطلسي.
فيكون في نظر الأميركيين أي اعتداء إسرائيلي ناجح على إيران فرصة مباشرة وغير مباشرة لاستهداف روسيا في هذا التوقيت الحرج للجميع من جهة، ومن جهة أخرى يكون فرصة ثمينة لاستهداف إيران، طالما راودتهم وفشلوا فيها، خصوصاً بعد فشلهم وانكشافهم اليوم في حربهم الناعمة الأخيرة على مقومات الجمهورية الإسلامية في إيران.
– لناحية موسكو، وهنا بيت القصيد، حيث سيكون موقف الرئيس بوتين أكثر نقاط التحوّل تأثيراً، إما في جنوح نتنياهو إلى حرب على إيران، وإما في عدوله عن هذه الفكرة ونزعها من رأسه نهائياً، ليبقى موقفه (الرئيس بوتين) تجاه هذا الموضوع مبنياً على النقاط التالية:
من الطبيعي أنه لن يسمح بتهديد وإضعاف حليف رئيس مثل إيران، إذ وقفت معه قبل التهديد الغربي الأطلسي لأمنه القومي، أي قبل عمليته الخاصة في أوكرانيا، ووقفت معه خلال العملية من خلال عدم السماح باستفراده، متخلية عن كل المغريات المالية والسياسية التي طرحها الأميركيون لطهران وراء الكواليس، عن رفع العقوبات وتحرير كل أموال طهران المحتجزة، وفتح البوابة الغربية أمام صادراتها النفطية كاملة وبأسعار مغرية، في مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي أو ربما في مفاوضات جانبية أخرى وبعناوين أُخر.
من الطبيعي أيضاً، أن واشنطن و”إسرائيل”، ومع موقف روسي متشدد ومؤكد تجاه أي عدوان صهيوني على إيران، ستتظهّر مفاعيله حكماً على مستوى خطوط المواجهة بين محور المقاومة و”إسرائيل” في المنطقة، لن تذهبا (“إسرائيل” وواشنطن) في مغامرة خطرة، قد تكون تبعاتها ونتائجها، أعنف وأكثر إيلاماً من انتصار روسيا عليهم في أوكرانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شارل أبي نادر